رسالة الي كل من يعمل للاسلام الدين لا يقوم الا علي اكتاف اولي العزمات

 

اعلموا؛ أن الدين لا يقوم إلا على أولي العزمات من الرجال، ولا يقوم أبداً على أكتاف المترخصين والمترفين - وحاشاه أن يقوم على أكتافهم - فالدين العظيم؛ لا يقوم إلا على أكتاف العظماء من الرجال، والمسئولية الجسيمة التي ناءت بحملها السموات والأرض؛ لا يمكن أن يقوم بها إلا أهلها ورجالها.

كيف يقوم الإسلام دون عزمة كعزمة أنس بن النضر الذي قال فيها: (لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع)، فشهد أحداً وقاتل حتى وُجِد بجسده - وهو ميت - بضع وثمانون طعنة وضربة، حتى أن جسده قد مزق تمزيقاً فلم يعرفه أحد سوى أخته، عرفته ببنانه؟

وكيف يقوم الإسلام ويعود إلى سالف مجده وعزه دون عزمة كعزمة أبي بكر الصديق يوم الردة، إذ أقسم - ذلك الشيخ الكبير الرقيق البكاء - في عزمة من أعظم عزماته قائلاً: (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه)، وقائلاً: (والله الذي لا إله غيره لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رددت جيشاً وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حللت لواءً عقده رسول الله)؟

كيف يقوم الإسلام ويعود إلى سالف مجده وعزه؟ دون عزمة كعزمة مصعب بن عمير، تلك العزمة التي جعلته يهجر حياة الشباب والرفاهية ونقلته إلى حياة الخشونة والفقر والأسى، تلك العزمة التي جعلت مصعباً سبباً في إسلام أكثر أهل المدينة، حتى أنك تلمس من قصة حياة مصعب بن عمير أنه صاحب عزمة حتى في مماته! ألا ترى أنه قطعت يده اليمنى وهو يحمل اللواء بها فحمله بيده اليسرى، فقطعت فحمله بعضديه، كل ذلك وابن قمئة اللعين يضربه بالسيف حتى قتل رضي الله عنه، بل إنك قد تشعر وكأن هذه العزمة مستمرة معه حتى بعد موته، فمصعب بن عمير المترف المرفه، لا يجدون له بعد موته سوى ثوب، إن غطوا به رأسه بدت رجلاه، وإن غطوا به رجليه بدت رأسه! فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أن يغطوا رأسه بالثوب، ويضعوا شيئاً من نبات الإذخر على رجليه.

كيف تقوم للإسلام قائمة ويعود إلى سالف مجده وعزه، دون عزمة مثل عزمة صلاح الدين الأيوبي، تلك العزمة التي حطم بها الصليبين في حطين، وأعاد الأمة الإسلامية إلى عقيدتها الصحيحة، بعد أن كادت تغرق في بحر لجي من بدع الشيعة وضلالات الباطنية، ما أحوجنا إلى عزمة كعزمة صلاح الدين الأيوبي، تلك العزمة التي جعلت هذا السلطان العظيم يترك حياة القصور السلاطين والأبهة والترف، ويرضى بالعيش في خيمة تحركها الريح في العراء، ويظل حياته كلها يتحمل حر الصحراء وقيظها في الصيف، وبردها وريحها وثلجها في الشتاء، وغيره من المجاهدين.

وما أروع ما قاله في حقه المؤرخ ابن شداد: (لقد كان حبه للجهاد والشغف به قد استولى على قلبه وسائر جوانحه استيلاءً عظيماً، بحيث ما كان له حديث إلا فيه، ولا نظر إلا في آلاته، ولا كان له اهتمام إلا برجاله، ولا ميل إلا إلى من يذكره ويحث عليه).

ولقد هجر في محبة الجهاد في سبيل الله أهله وأولاده ووطنه وسكنه، وسائر بلاده، وقنع من الدين بالسكون في ظل خيمة تهب بها الرياح ميمنة وميسرة.

فلولا أن قيض الله للأمة عزمة صلاح الدين الأيوبي تلك، لكان دين الأمة وأرضها على السواء قد استلب، ولم يبقى لها شيء بعد ذلك تعيش له أو به.

كيف يقوم الدين والإسلام ويعود إلى سالف مجده وعزه، دون عزمة كعزمة عمر بن عبد العزيز الذي أصلح الله به الأمة في عامين ونصف فقط، حتى قيل: إن الذئب قد تصالح مع الغنم في عهده! - وذلك ليس ببعيد ولا غريب إلا على من قل علمه بالله وسنته مع أولياءه -

فما أحوج الأمة الإسلامية إلى عزمة كعزمة عمر بن عبد العزيز، والذي كتب إليه أحد عماله يوماً يقول له؛ إن الإصلاحات المالية التي أدخلها الخليفة، والتي تحط الجزية عما أسلم من البربر، سوف تؤدي إلى قلة الخراج، فكتب إليه عمر: (والله لوددت أن الناس كلهم أسلموا، حتى نكون أنا وأنت حَرَّاثين نأكل من كسب أيدينا)، وقال مرة أخرى: (إن الله بعث محمداً، هادياً، ولم يبعثه جابياً).

ولأهمية هذه العزمة في دين الله كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ربه قائلاً: (اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد)، وذلك تعليماً لنا، وتربية وتأديباً للمسلمين عامة، وللعاملين للإسلام خاصة.

فلنحرص على هذا الدعاء العظيم مع تعاطي أسباب التوفيق التي تعين على تحقيقها.

إن الهمة العالية لَتَغْلي في قلوب أصحابها غليان الماء في القدر، وإنها لتستحث صاحبها على عظائم الأمور صباحَ مساء، حتى يقول كما قال الشافعي رحمه الله: (الراحة للرجال غفلةٌ).

ويجعل مبدأ حياته الشعر الذي كان ينشده الإمام الشافعي:

أنا إن عشت لست أعدم قوتاً وإذا مت لست أحرم قبراً

همتي همت الملوك، ونفسي نفس حرٍ ترى المذلة كفراً


ما أحوج رجالات الحركة الإسلامية إلى تلك الهمة العالية التي لا يقف أمامها مستحيل، ولا تمنعها من التقدم عقبات أو عوائق، مهما كانت.

ألا ترى كيف صنعت الهمة العالية بشقيقين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أصيبا في غزوة أحد إصابات شديدة، ولندع أحدهما يروي القصة، فليس هناك أبلغ من روايته في التعبير عن همتهما العظيمة.

قال: (شهدت أحداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأخ لي، فرجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو، قلت لأخي - أو قال لي - أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! والله ما لنا من دابة نركبها وما منا إلا جريح سقيم، فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت أيسر جرحاً، فكان إذا غُلب حملته عقبة ومشي عقبة، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون).

هذا مع العلم بأن حمراء الأسد - وهي المكان الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج إليه - تبعد عن المدينة ثمانية أميال!

بل إنني ما أعجبت بهمةٍ مثلما أعجبت بهمة ورقة بن نوفل! ذلك الشيخ الكبير الذي وهن جسمه، ورق عظمه، وانحنى ظهره، وابْيَضَّ شعره، هذا الرجل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (لئن يُدْرِكْني يومُك انصرْك نصراً مؤزاً)، وأدنى رأسه وقبلها.

بل ذلك الشيخ في السن، والشاب في الهمة والروح كان ينشد شعراً عظيماً، بعد أن حدثته السيدة خديجة رضي الله عنها عن الرسول صلى الله عليه وسلم وصفاته، وذلك قبل نزول جبريل عليه السلام على الرسول الكريم، فقد كان ورقة يتمنى أن يدرك الوحي، وأن ينصر الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته، فكان يقول:

لَججْتُ، وكنت في الذكرى لجوجاً لِهَمٍّ طالما بعث النشيجا

ووصفٍ من خديجةَ بعد وصفٍ فقد طال انتظاري يا خديجة

بِبَطْنِ المكّتين على رجائي حديثك أن أرى منه خروجاً

بما خَبَّرتنا من قول قسٍّ من الرهبان أكره أن يفوجاً

بأن محمداً سيسودُ فينا ويَخْصِمُ من يكونُ له حجيجاً

ويظهر في البلاد ضياء نور يقيم به البرية أن تموجاً

فيلقى من يحاربه خساراً ويلقى من يسالمه فلوجاً

فيا ليتي إذا ما كان ذاكم شهدت وكنت أولهم ولوجاً

ولوجاً في الذي كرهت قريشٌ ولو عجت بمكتها عجيجاً

أرجي بالذي كرهوا جميعاً إلى ذي العرش إن سفلوا عروجاً

فإن يبقوا وابق تكن أمورٌ يضج الكافرون لها ضجيجاً

وإن أهلك فكل فتىً سيلقى من الأقدار مَتْلَفةً حَروجاً


وفي الحقيقة كم أثرت فيَّ - وفي كثير من الأخوة - كلمات ورقة بن نوفل، ذلك الشيخ الذي يتحدى الدنيا بأسرها من أجل نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم، بل يتمنى أن يكون أول الناس ولوجاً في دين الإسلام وأولهم اتباعاً للرسول الكريم،، حتى ولو عجت بمكتها عجيجاً، ولا يكتفي بذلك! بل يعلن في تحديٍ سافر لجميع المشركين؛ أنه إن أبقاه الله إلى ذلك اليوم ستكون أمور عظيمة منه في نصرة الحق والدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم مهما ضج الكافرون لذلك ضجيجاً، فهو لا يخاف في الله لومة لائم.

إن كلمات ورقة كانت تبعث في قلبي روح الشباب وحماسته التي أَفْتَقِدُ الكثير منها وأنا شاب، واستشعر كأن ورقة على استعداد أن يحارب الدنيا كلها وحده لحماية الرسول الكريم، والدفاع عنه وكم من المعاني الأخرى في قصة ورقة بن نوفل - أسأل الله أن يوفقني لبسطها في رسالة تخصها -

وصدق القائل:

وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام


ورحم الله القائل: (فيا خاطباً حور الجنة وأنت لا تملك فَلْساً من عزيمة! هيهات هيهات، ذهبت حلاوة البطالة، وبَقِيَتْ مرارة الأسف).

وصدق ابن القيم في قوله: (يا مخنث الْعَزْمِ! أقل ما في الرقعةِ البَيْدَقُ، لو نَهَضَ لتفرذن).


الكاتب: محمد بن سلمان المهاجر
التاريخ: 09/02/2007