مسلمون لا إسلاميون |
|
مسلمون لا إسلاميون
قال الله تعالى: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) ، قال الإمام الطبري:"ابتدعوا لهم من الدين ما لم يبح الله ابتداعه" ، فكل ما لم يأت به الشرع مما يتعلق بالأقوال والأفعال الشرعية داخل في هذا الذم والإنكار، وتدخل في هذا الباب مسألة أسماء الدين دخولاً أولياً لأن الأحكام الشرعية منوطة بها، فلقد قال تعالى: (والمؤمنون المؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيزٌ حكيم) ، قال الإمام البغوي:" قوله تعالى (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) في الدين واجتماع الكلمة والعون والنصرة" ، قلت: فالحكم متعلق بالمؤمنين، وليس في الدين شيء اسمه "إيمانيون"، وقال تعالى: (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سمَّاكم المسلمين من قبلُ وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير) ، قال الإمام الطبري:"يقول تعالى ذكره: سمَّاكم يا معشر من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم مسلمين" ، قلت: تأمل كيف رتبت الآية أحكام الدين والنصرة والشهود الأممي على اسم "المسلمين"، وليس في الدين شيء اسمه "إسلاميون"، وليس بين اسم المؤمن واسم المسلم مرتبة أخرى، كما أنه ليس بين مرتبة المسلم ومرتبة الكافر مرتبة أخرى، نعم قد يفسق المؤمن ويفسق المسلم فيكون مؤمناً فاسقاً ومسلماً فاسقاً؛ مؤمناً بإيمانه وفاسفاً بكبيرته، ومسلماً بإسلامه وفاسقاً بكبيرته، ولئن استحق بوصف الفسق ما يستحقه من العقوبة أو الهجر أو الإنكار فإنه لا يزال يستحق بموجب اسم الإيمان والإسلام النصرة والعون كما صرح القرآن الكريم: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما) ، قال ابن كثير:"فسماهم مؤمنين مع الاقتتال" ، بل إن القرآن الكريم حين نفى اسم الإيمان عن طائفة أثبت لهم اسم الإسلام على الظاهر فقال تعالى: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) ، وفي الحديث عن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى رهطاً وسعدٌ جالس فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً هو أعجبهم إلي، فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمناً، فقال: أو مسلماً! فسكتُّ قليلاً ثم غلبني ما أعلم منه فعدت لمقالتي فقلت: ما لك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمناً، فقال: أو مسلماً! ثم غلبني ما أعلم منه فعدت لمقالتي وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا سعد، إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي خشية أن يكبه الله في النار" ، فجعل المرتبة بين الإسلام والإيمان، والإسلام انقيادٌ ظاهرٌ مطّلَعٌ عليه، وعليه تجري أحكام الدين، وهذا الإسلام إن كان حقيقياً فهو الإيمان لأنهما متلازمان، وإن كان على الظاهر وباطن المرء بخلافه فهذا ما لا اطلاع لأحد عليه إلا الله فيبقى حكم الإسلام على ظاهره، ويحشره الله تعالى على ما مات عليه من إيمانٍ أو كفرٍ مستبطن، والمقصود أن الذين يأتون اليوم بمصطلحات دخيلة على الدين كمصطلح "الإسلاميين" إنما يبتدعون في شرع الله اسماً ما أنزل الله به من سلطان، ويلبِّسون به على الأمة، ويفرقون به بينها، ويفتُّون في عضدها، ويقوضون أركان اجتماعها. بيان ذلك: أن من يطلق عليهم اسم "الإسلاميين" يطلق عليهم هذا الاسم لأنهم يدعون الأمة إلى أقوال وأفعال لا تخرج عن أحد قسمين: فإما أن تكون أقوالاً وأفعالاً شرعية من دين الله تعالى أو لا تكون؛ فإن كانت أفعالاً وأقوالاً شرعية فهي أقوال وأفعال تخص المسلمين، وإطلاق اسم "الإسلاميين" على الدعاة إليها تلبيسٌ على المسلمين الغافلين عنها كي لا يشعروا أن الأمر يعنيهم، ولا يشعروا أن نصرة هؤلاء الدعاة أمرٌ واجبٌ عليهم، وأما إن كانت هذه الأقوال والأفعال غير شرعية فإن نسبتها إلى الإسلام عبر هذا اللفظ المبتدع كذبٌ وبهتانٌ على الدين يفضي إلى التنفير منه. وبالمثال يتضح المقال: فالدعاة إلى تحكيم الشريعة الإسلامية اليوم ثلةٌ من هذه الأمة أرعبهم غفلة الأمة عن واجب تحكيم شرع الله فأخذوا يحذِّرون من هجر تحكيم الشريعة، ويبينون كفر التحاكم إلى غير الله، فأحدث لهم أعداء الله مصطلح "الإسلاميين" ليُشعروا عامة المسلمين أن ما يدعوا إليه هؤلاء النفر شيء غريب على عامة "المسلمين" ولا يلزمهم، وترتب على هذه العزلة الشعورية خذلانٌ عملي عن نصرة هؤلاء الدعاة، فتفرد بهم اللئام من أعداء الله تنكيلاً في السجون، وتشهيراً على الملأ، ومطاردةً في كل أرجاء الأرض، والأمة الإسلامية غافلة لا تشعر أن أمر هؤلاء يعنيها في شيء، فعامة الأمة مسلمون أما أولئك فإسلاميون!
وبالمقابل فإن ثلةً من المسلمين قد تسير في ركاب الغلو والإفراط في بعض السلوكيات العملية يتأولون بذلك نصرة الحق، فتنسب هذه السلوكيات الخاطئة إلى الإسلام عن طريق مصطلح "الإسلاميين" بقصد عزل المسلمين عن الحق الذي تأول أولئك النفر نصرته فأخطأوا السبيل إليه، فتزل قدمُ كثيرٍ من المسلمين فيسارع إلى التبرؤ من أولئك النفر الذين هم مسلمون ومن الحق الذي ينصره أولئك النفر وهو من حقوق الإسلام ولا يقتصروا على التبرء من الخطأ الذي اقترفوه، ولا يفرق هؤلاء من المنهج النبوي "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" وبين المنهج الشيطاني"إنا نتبرأ من خالد ومن جهاد خالد ومن الجهاد كله"! ففرقٌ كبير بين أن تتبرأ من الخطأ وبين أن تتبرأ من المخطئ المتأول، ففي الحديث عن سالم عن أبيه : بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فجعلوا يقلون صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتل منهم ويأسر، ودفع إلى كل رجلٍ منا أسيره حتى إذا كان يومٌ أَمَرَ خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره فقلت: والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل رجل منا أسيره حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكرناه فرفع يديه فقال:"اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" مرتين . ولقد شهد رسول الله صلى الله عيه وسلم لخالد بن الوليد رضي الله عنه نفسه فقال:" وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً قد احتبس أدرعه وأعتده في سبيل الله" ، فشهد له بالجهاد في سبيل الله وأقره عليه وأثبت منهج الجهاد في سبيل الله مع تبرئه صلى الله عليه وسلم من الخطأ الجزئي الذي وقع فيه في تطبيق الجهاد. أما أعداء الإسلام فيضخمون الخطأ العملي وينسبونه إلى المنهج ويعيبون الجميع مع التركيز على الطعن في المنهج، ويدفعون المسلمين إلى الانتقال من التبرء من الوسيلة الخطأ إلى التبرؤ من المقصد الصحيح، ولا يجرحون شعورهم بنسبة هذه العيوب إلى الإسلام مباشرة بل ينسبونها إلى "الإسلاميين" لأنهم نجحوا في إيجاد عزلة شعورية تامة بين عامة المسلمين من جهة وبين "الإسلاميين" من جهة أخرى.
بقيت كلمة، وهي أن جزءً من هذا اللوم يقع على النفر الموسوم بالإسلاميين من جهة أنهم يؤججون هذه العزلة الشعورية حين لا يراعون واقع الجهل والغفلة في الأمة، ولا يأخذون بقسطٍ من المداراة المشروعة يمكِّنهم من التوسع مع الناس فيما ضاق من أمر الدين اليوم، ويحسبون أن الاقتصار على ترك المداهنة في دين الله كافٍ في حفظ دين الأمة اليوم، وهذا تفريط، لأن القاعدة الشرعية أن الأمر إذا ضاق اتسع، ولما ضاق أمر الدين اليوم وجب أن تتسع صدور الدعاة والمجاهدين لعامة الناس مهما أصابوا من اسم الإسلام نصيباً، وليعلم أن الشريحة العامة من الأمة هي هدف استقطاب العدو بشتى أنواع المغريات بما في ذلك الإغراء الإسلامي من خلال إيجاد نموذج "المسلمين العصرانيين" ونبذ نموذج "الإسلاميين المتشددين"، فليحذر من هذا كله، وتأمل قوله تعالى في قوم لوط لما كتب العذاب على قوم لوط: (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين. فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) ، فلما ترتب موجب النجاة على اسم الدين علقته الآية باسم الإسلام وهو أوسع من اسم الإيمان، وتأمل في هذا المعنى حديث حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يُدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة ولَيُسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فنحن نقولها، فقال له صلة: ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة ثم ردها عليه ثلاثاً كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: يا صلة ، تنجيهم من النار، ثلاثاً . قلت: والشاهد ما تقدم من أن الأمر إذا ضاق اتسع، فلما ضاق أمر الدين حتى ضاعت معالمه وأركانه ولم يبق من عهد الناس به إلا قول لا إله إلا الله، اتسعت سفينة النجاة لقائلي هذه الكلمة مع ضياع غيرها مما أجمع المسلمون أنه من أركان الإسلام التي لا يصح الإسلام بغيرها، فتأمل.
فنحن مسلمون لا إسلاميون، وليس من إسلامنا في شيء اليوم أن ننجرف وراء أسماء مبتدعة يفرق بها أعداء الإسلام جماعتنا، كما أنه ليس من إسلامنا في شيء اليوم أن يقصي بعضنا بعضاً وأن يطعن بعضنا في بعض، فكل من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان فإن فيه خيراً أنا أحوج الناس إلى مناصرته، فلعل مثقال ذرة الإيمان هذه تصيب من توفيق الله إخلاصاً تنجو به أمة، ولعل من يرى في نفسه أمثال الجبال من الإيمان يفوته توفيق الله عز وجل فيحبط عمله عياذاً بالله، وإن أردى درجة يزل فيها مسلمٌ اليوم أن يزدري إسلام غيره أو يحقره، وإن أقوى سلاحٍ نصد به هجمة المعتدين اليوم هو التناصر على اسم "المسلمين"، ونبذ التفرق على اسم "الإسلاميين"، كما قال تعالى: (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سمَّاكم المسلمين من قبلُ وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير) ، ولنكن في سياق الدعوة العلمية أشد حرصاً على تحقيق اسم "المؤمن"، ولنكن في سياق النصرة العملية أشد حفظاً لحقوق اسم "المسلم"، وبهذا التوازن العلمي العملي يتقوى بنيان الداخل ونتصدى لعدو الخارج، ونتأول قوله تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) .
وكتب/ د.وسيم فتح الله
11 ذو القعدة 1433