الثقـلاء |
|
الثُّقَـــــــــلاء!!
قد احتار الحكماء والأطباء قديمًا في علاج الثقلاء، ونعني بالثقلاء هم الذي يضيق المجلس الواسع الْمَاتِعُ بمن فيه إذا حضر أحدهم !، فهم الذين يسميهم الناس ((ثِقَال الدم!!))، ومع ذلك فإن أسباب هذا الْمَرَضِ مَعْرُوفَةٌ، غير أن العلاج مجهول، وليس هناك دواء غير الفرار والتضرع بالدعاء في الأسحار أن يتحول هذا الثقيل من صديق حميم إلى عدو لئيم،
كما قال الشيخ البرقي([1]): وَثَقِيلٍ يُحِبُّنِي لَيْتَهُ كَانَ مُبْغِضَا رَبِّ خُذْهُ إِذَا أَتَى وَاعْفُ عَنِّي إِذَا مَضَى
ولا تعجب حين ترى في كلام الأولين الشكوى والأنين من هذا الصنف اللئيم،
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه – أنه كان إذا استثقل الرجل قال: ((اللهم اغفر لنا وله، وأرحنا منه))([2]).
وروي عن سفيان الثوري قال: ((إنه ليكون في المجلس عشرة كلهم يخف علي، فيكون فيهم الرجل الذي أستثقله فيثقلون عليَّ!))([3]).
وقد قيل للأعمش حين عَمِيَ: ما عوضك الله من ذهاب بصرك ؟، قال: ((أنْ لا أرى به ثقيلاً!))([4]).
وذكر الأعمش رجلاً ثقيلاً كان يجلس إليه، فقال: ((واللهِ إني لأُبغض الشقي الذي يليه إذا جلس إِلَيَّ!!))([5]).
وكان حماد بن سلمة إذا رأى من يستثقله قال: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا العَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ}[الدخان:12]([6]).
وقال بشار العقيلي في ثقيل يكنى أبا عمران([7]): رُبَّمَا يَثْقُلُ الْجَلِيسُ وَإِنْ كَا نَ خَفِيفًا فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ وَلَقَدْ قُلْتُ إِذْ أَظَلَّ عَلَى الْقُو مِ ثَقِيلٌ يُرْبِي عَلَى الثَّقَلَانِ كَيْفَ لَا تَحْمِلُ الأَمَانَةَ أَرْضٌ حَمَلَتْ فَوْقَهَا أَبَا عِمْرَانِ؟!
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ هَانِئ فِي رَجُلٍ ثَقِيلٍ([8]): يَا مَنْ عَلَى الْجُلَّاس كالفتق كلامك التَّخْدِيشِ فِي الْحَلْقِ هل لك في مالي وما قد حوت كفي من جل ومن دق تأخذه مني كذا فدية واذهب ففي البعد وفي السحق
وأهدى رجل من الثقلاء إلى رجل من الظرفاء جملاًَ، ثم نزل عليه حتى أَبْرَمَهُ (أَيْ: أَثْقَلَهُ)، فقال فيه([9]): يا مبرمًا أهدى جمل خذ وارتحل ألفي جمل قال وما أوقارها قلت زبيب وعسل قَالَ: وَمَنْ يقودهم قلتُ له ألْفَا رَجُل قال ومَن يَسُوقها قلتُ له ألْفَا بَطَل قال وما لِباسُهم قلتُ حُلِيً وحُلَل قال وما سِلاحُهم قلتُ سُيوف وأَسَل قال عَبِيد لي إذن قلتُ نَعم ثم خَوَل قال بهذا فاكتُبوا إذن عليكم لي سِجل قلت له ألْفي سِجل فاضمَنْ لنا أن تَرْتَحل قال وقد أضجرتُكم قلتُ أَجَل ثم أَجل قال وقد أبرَمتُكم قلتُ له الأمر جَلَل قال وقد أثقلتكم قلتُ له فوق الثَقل قال فإني راحلٌ قلتُ العَجَلِ ثم العَجَل يا جبلاً مِن جَبَلٍ في جَبَلٍ فوق جبَل
وقال البهاء زهير في ثقيل([10]): بحق الله متعني من وجهك بالبعد فما أشوقني من إلى الـ ـهجران والصد ما تصلح للهزل ولا تصلح للجد وماذا فيه من ثقل وماذا فيك من برد فلا صبحت بالخير ولا مسيت بالسعد
وقال أيضًا([11]): وثقيل ما برحنا نتمنى البعد عنه غاب عنا ففرحنا جاءنا أثقل منه وقال أيضًا([12]): رب ثقيل لبغض طلعته أخشاه حتى أكنه أجلي وأينما قلت لا أشاهده ألقاه حتى كأنه عملي فأمر الثقلاء عانى منه الماضون، وما زال الحاضرون من ويلاتهم يَجْأَرُون، كيف لا، وقد نَطَق بذكرهم القرآن، وإليك هذا البيان،
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: نزلت آية في الثقلاء {فإذا طعمت فانتشروا ولا مستئنسين لحديث}[الأحزاب53]([13]). فإذا علمت ذلك فما هي أساب الثِّقَلِ ؟،
فَأَقُولُ : إِنَّ لِلثَّقَلِ عِدَّةَ أَسْبَابٍ : أَوَّلُهَا وَأَهَمُّهَا: الإكثار من الذنوب والمعاصي، فإن المعاصي تورث كره الله تعالى للعبد، وَمَنْ كرهه الله : كرهه الناس،
كما جاء في ((الصحيحين)) عن أبي هُرَيْرَةَ قال قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:” إِنَّ اللَّهَ إذا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فقال إني أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ قال فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي في السَّمَاءِ فيقول إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ قال ثُمَّ يُوضَعُ له الْقَبُولُ في الأرض وإذا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فيقول إني أُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ قال فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي في أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ قال فَيُبْغِضُونَهُ ثُمَّ تُوضَعُ له الْبَغْضَاءُ في الأرض“([14]). فلا يراه أحد إلا استثقله وأبغضه وإن كان من أظرف الخلق!.
وهذا أمر مشاهد معلوم؛ فإن الإنسان لا يزال يقترف من الكبائر ويصر على الصغائر – دون توبة – حتى يمشي على الأرض والناس لا تطيق رؤية وجهه، إلا من كان على شاكلته، فإن الطيور على أشكالها تقع!،
والله إن هناك من العُصَاة مَن تَسَرْبَلَ بالمعاصي حتى إن الدعاة إلى الله تعالى لا تستطيع نصحه ولا الاقتراب منه لما وضعه الله له من البغض في القلوب!!.
قال ابن عباس رضي الله عنه: ((إن للحسنة نورًا في القلب، وضياءً في الوجه، وقوة في البدن، وزيادة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سوادًا في الوجه، وظلمة في القلب، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبِغضةً في قلوب الخلق)). وقد قال الله تعالى {لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون من حادَّ اللهَ ورسولهَ ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم}، لذا قال عليه الصلاة والسلام:” الأرواح جندٌ مجندة؛ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف“.
فإن الله تعالى قسم الخليقة على قسمين: أهل السعادة وأهل الشقاوة، ، فجعل أهل السعادة في هذه الدار يألف بعضهم بعضًا، ويحب بعضهم بعضًا، وأما في الآخرة فإخوانًا على سرر متقابلين، وجعل أهل الشقاوة في هذه الدار يحب بعضهم بعضًا، ولكن في الآخرة يلعن آخرهم أولهم وأولهم آخرهم، قال تعالى {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين}، ففي الحياة الدنيا فرق الله بين أرواح الفرقين، فلا تجد بعضهم يحب بعضًا!، وأما في الآخرة فإنه سبحانه يفرق بين أرواحهم وأبدانهم؛ {فريق في الجنة وفريق في السعير}. أرجع فأقول من أراد أن يحبه الناس فليلزم طاعة رب الناس، فإن قلوبهم بيده، قال تعالى عن موسى {وألقيتُ عليك محبةً مني ولتصنع على عيني}؛ قيل في التفسير: لم يره أحدٌ إلا أحبه، وقال تعالى {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودًّا}، قال ابن الجوزي رحمه الله: ((وليعلمْ المرائي أن الذي يقصده يفوته، وهو التفات القلوب إليه، فإنه متى لم يُخْلِص: حُرِمَ محبة القلوب، ولم يُلْتَفَتْ إليه، والمخلص محبوبٌ!. فلو علم المرائي أن قلوب الذين يُرائيهم بيدِ مَن يعصيه: لَمَا فَعَلَ!!)).
السبب الثاني: هو ما ذكره ابن حِبَّان البستي حيث قال: ((هو استعمال المرء من الخصال ما يكره الناس منه)).
السبب الثالث: إظهار الكبر التفاخر بين الجُلساء، والأَنِّيَّة، والإكثار من الحديث عن النفس، فتجده في أكثر كلامه: ذهبتُ، وسافرت، وقلتُ، وتَوَسَّطْتُ، وَاشْتَرَيْتُ، وكلمتُ … إلخ .
السبب الرابع: هو كثرة الزيارة، لاسيما إذا كان الْمَزُورُ ظروفه لا تسمح بذلك، إما لانشغاله؛ كأن يكون طالب علمٍ أو شيخٍ أو عَالِمٍ، أو غير ذلك من أصحاب الْجِدِّ، وكما قال ابن الوردي([15]): غِبْ وَزُرْ غِبًّا تَزِدْ حُبًّا فَمَنْ أَكْثَرَ التَّرْدادَ أَقْصاهُ الْمَلَلْ
السبب الخامس: أن غالب مَنْ يتصف بهذه الصفة تجده ليس عنده هدفًا في الحياة، وقد قال عمر رضي الله عنه: ((إني لأكره أن أرى الرجل سَبَهْلَلاً لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة!))([16])، معناه في اللغة الفارغ ([17])، وقال الأصمعي: ((جاء الرجل يمشي سبهللاً إذا جاء وذهب في غير شيء))([18])،
وقد قال العلامة الآلوسي رحمه الله: ((وذكروا أن قعود الرجل فارغًا من غير شغل أو اشتغاله بما لا يعنيه في دينه أو دنياه: من سفه الرأي، وسخافة العقل، واستيلاء الغفلة))([19])،
فتجد الثقلاء دائمًا ليس عندهم سعي لني الدرجات العُلَا في الآخرة، ولا سعي لتحصيل هذه الدنيا الفانية!، فهم يعيشون كالبهائم. وَمَا لِلْمَرْءِ خَيْرٌ فِي حَيَاةٍ إِذَا مَا عُدَّ مِنْ سَقَطِ الْمَتَاعِ
السبب السادس: هو الإساءة إلى الناس، فإن القلوب جُبِلتْ على حب من أحسن إليها، وجبلت على بغض من أساء إليها.
وهناك مصنفات مفردة في الثقلاء،
فالسيوطي ألف كتابًا سماه ((إتحاف النبلاء بأخبار الثقلاء))،
ولمحمد بن المرزبان كتاب اسمه ((الثقلاء))،
للإمام الخلال كتاب اسمه ((أخبار الثقلاء))،
وقد أفردهم بفصول غير واحد من الأُدباء،
وما ذاك إلا لقبح هذه الصفة، وشناعة الْمُتَلَبِّسِ بِهَا، فيه لا تقل عن البخل والجبن،
لذا استخدمها الأدباء في هجائهم كمال قال حبيب([20]): يا مَن لهُ في وَجْهه إذ بَدَا كنُوز قارُون من البُغْض لو فر شيء قطٌّ مِن شكله فرَّ إذاً بعضك من بَعْض كوْنُك في صُلْبِ أبينا، الّذِي أهبطنا جمعًا إلى الأرْض
وقال ابن المعتز([21]): وَزاِئرٍ زارَنِي ثَقِيلٍ يَنْصُرُ هَمِّي عَلَى سَرورِي أَوْجَعُ لِلْقلْبِ مِـنْ غَرِيمٍ ظَلَّ مُلِحًّا عَلىَ فَقِيرٍ وَمِنْ جِراحٍ بِجِسْمِ مُلْقًى يُمْخَضُ مَخْضاً عَلَى بَعِيرِ بغيرِ زادٍ وَلا شَرابٍ وَلا حَمِيمٍ وَلا عَشِيرِ
وقال آخر([22]): وثقيل أشد من غصيص المو ت ومن شدّةِ العذابِ الأليمِ لو عصتْ ربَّها الجحيم لما كا ن سواه عقوبةً للجحيم
وقال الخطيري في ثقيل بارد الغناء([21]): وأبله إنْ شدا فأبرد من ثلج ويحكي الجبال في الثقل لا تُنكروا برده مع الثقل الـ ـخارج إن الثلوج في الجبل هذا؛
وأختم فأقول كيف تصنع إذا ابْتُليتَ بثقيلٍ!: أولاً: يجب عليك أن تستحضر ثواب الله تعالى، وتعلم أن هذه الدنيا دار بلاء، وإنما النعيم الحقيقي في الآخرة، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطئك لم يكن ليصيبك؛ فيهون عليك ذلك!.
ثانيًا: أن تُشْعِرَ الناس دائمًا أنك مشغول، وتتشكى من قِلِّة الأوقات؛ لكي لا يتجرّؤوا عليك، فتصبح سوقًا للبطالين!. وقد جاء رجل من المتعبدين إلى سري السقطي فرأى عنده جماعة فقال: ((صرت مناخ البطالين، ثم مضى ولم يجلس))([23]).
ثالثًا: إذا ابتليتَ بثقيلٍ فأصبحتَ لا تستطيع الفرار منه، ولم يكن هذا الثقيل سفيق الوجه فاشتغلْ الذكر، خصوصًا قولك (لا إله إلا الله)، فإنه أفضل الذكر، ولا تحتاج معه لتحريك الشفتين، فلن يشعر بك هذا الثقيل أنك تذكر الله تعالى. قال سهل بن هارون: ((مَنْ ثقُل عليك بنفسه، وعمّك بسؤاله، فَأَعِرْهُ أُذُنًا صَمَّا، وعينًا عَمْيَا!))([24]).
رابعًا: أما إن كان هذا الثقيل سفيق الوجه – وهو الأغلب! - فَحَضّرْ لنفسك أمورًا تفعلها في يومك ولا تحتاج إلى إعمال الذِّهْنِ، كما كان يفعل ابن الجوزي حيث يقول: ((أعوذ بالله من صحبة الباطلين، لقد رأيت خلقًا كثيرًا يجرون معي فيما قد اعتاده الناس من كثرة الزيارة، ويسمون ذلك التردد خدمة، ويطلبون الجلوس ويجرون فيه أحاديث الناس وما لا يعني، وما يتخلله غيبة. وهذا شيء يفعله في زماننا كثير من الناس، وربما طلبه المزور وتشوق إليه واستوحش من الوحدة، وخصوصاً في أيام التهاني والأعياد، فتراهم يمشي بعضهم إلى بعض، ولا يقتصرون على الهناء والسلام بل يمزجون ذلك بما ذكرته من تضييع الزمان. فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء، والواجب انتهاؤه بفعل الخير كرهت ذلك وبقيت مهم بين أمرين. إن أنكرت عليهم وقعت وحشة لموضع قطع المألوف، وإن تقبلته منهم ضاع الزمان. فصرت أدافع اللقاء جهدي، فإذا غلب قصرت في الكلام لأتعجل الفراق. ثم أعددت أعمالاً تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم لئلا يمضي الزمان فارغاً. فجعلت من المستعد للقائهم قطع الكاغد وبري الأقلام، وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لا بد منها، ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم لئلا يضيع شيء من وقتي. نسأل الله عز وجل أن يعرفنا شرف أوقات العمر، وأن يوفقنا لاغتنامه. ولقد شاهدت خلقًا كثيرًا لا يعرفون معنى الحياة، فمنهم من أغناه الله عن التكسب بكثرة ماله، فهو يقعد في السوق أكثر النهار ينظر إلى الناس، وكم تمر به من آفة ومنكر. ومنهم من يخلو بلعب الشطرنج؛ ومنهم من يقطع الزمان بكثرة الحوادث من السلاطين والغلاء والرخص إلى غير ذلك. فعلمت أن الله تعالى لم يطلع على شرف العمر ومعرفة قدر أوقات العافية إلا من وفقه وألهمه اغتنام ذلك {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيم}))([25]).
كتبه محمد بن سليمان مال الله