لزوم الجماعة بين الغلاة والجفاة..

 

مقدمة:
ــــــــ

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد،

فهذا بحث في مسألة لزوم الجماعة، وتردد هذه المسألة بين طرفي الغلو والجفاء، وإنه لموضوع الساعة بلا ريب، إذ أن آفة الأمة الإسلامية اليوم مترددة بين تضييع المنهج وذهاب الشوكة، أما المنهج فصار ضحية جهل أهله وتفرقهم على بدع وأهواء مذمومة، في النفس الوقت الذي استهدفته سهام الكفر المسمومة، وأما الشوكة فالله المستعان على تضييع بيضة الدين لا سيما ممن أوسدت إليه مهمة حفظها فضيعها بل ساهم في تقويض أرجائها ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولكن حبل هذا الدين متين، وركنه مكين، شاء من شاء وأبى من أبى، علم من علم وجهل من جهل، ولذا فإن انطلاقنا أبداً في معالجة هذا الخلل وكل خلل هو العودة إلى معين الكتاب والسنة ونهج سلف الأمة، فلن يصلح الآخر بغير ما صلح به الأول، ولم يدع الله تعالى لنا شيئاً مما نحتاجه في ديننا ودنيانا إلا جاءت به الشريعة فأبصره من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وأما أولئك الذي يغلفون قلوبهم بأغلفة الشهوات فليسوا بشيء، ولا يضرنا أمرهم شيئاً البتة.

وإني لأرجو الله تعالى قبول ما وفقت إليه من صواب والعفو عما زل به القلم، إنه خير مأمول وأكرم مسؤول، والله المستعان وعليه التكلان.

المبحث الأول: مفهوم الجماعة :
ـــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــ

إن الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، ولا بد لنا قبل الخوض في هذا البحث من تحديد مفهوم مصطلح الجماعة وتأصيله من الناحية الشرعية، بمعنى تحقيق كونه مصطلحاً شرعياً معتبراً أم لا.

أما في اللغة فإن كلمة جماعة من الجمْع كمَنْع : تأليف المتفرق ، وجماعة الناس ، وجمعه : جموع ، كالجميع، والجميع ضد المتفرق، والجمعة : المجموعة ويوم الجمعة، واجتمع : ضد تفرق .( القاموس المحيط ) ، وقال الراغب الأصفهاني :" الجمع : ضم الشيء بتقريب بعضه من بعض، ويقال للمجموع: جمع، وجميع ، وجماعة. ( المفردات للراغب 104)

وقد وردت مادة جمع في القرآن الكريم ولكن لفظ " جماعة " لم يرد بهذه الصيغة، ويمكننا بالاستقراء أن نقف على جملة المعاني التي وردت بها مادة جمع في القرآن الكريم :

ففي قوله تعالى :" وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونُفخ في الصور فجمعناهم جمعاً" ، ( الكهف 99) وقال تعالى :" قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين" ، الانعام ( 149) وقال تعالى :" فسجد الملائكة كلهم أجمعون" ، ( الحجر 30 ) وقال تعالى:" قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً" . ( الاسراء 88 )

فإذا تأملنا هذه الآيات وجدنا أن لمادة جمع فيها عدة معاني هي :

1ـ الاجتماع الحسي : كما في الآية الأولى التي تصف اجتماع الناس في المحشر، ولا يشك عاقل في أن هذا اجتماع حسي حقيقي للأبدان بعد أن يبعث الناس كلهم.

2ـ الاجتماع المعنوي على صفة معينة: كصفة الهداية في الآية الثانية، وغيرها مما ورد في القرآن الكريم.

3ـ الاجتماع الحسي على صفة معينة : كما في الآية الثالثة حيث اجتمع الملائكة على صفة السجود، ومثله اجتماع المسلمين يوم الجمعة على صفة الصلاة والخطبة الشرعية.

4ـ الاجتماع المعنوي على غاية معينة: كما هو في الآية الرابعة حيث إن الاجتماع المشار إليه اجتماع معنوي كما هو واضح.

وحيث إن لفظ الجماعة لم يرد في القرآن الكريم بهذه الصيغة، فقد بحثت عنه في نصوص السنة المطهرة فوجدته قد تكرر في مواضع عديدة، ومثال ذلك ما يلي :

1ـ حديث عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم :" صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة" رواه البخاري

2ـ عن عوف بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وسبعون في النار وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار قيل يا رسول الله من هم قال الجماعة" رواه ابن ماجة

3ـ عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة" متفق عليه

4ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات إلا مات ميتةً جاهلية" رواه البخاري

فهذه طائفة من الأحاديث النبوية التي جاء فيها ذكر الجماعة، فإذا استثنينا النصوص المشابهة للحديث الأول والمتعلق بالعبادات كما هو شأن الصلاة، وجدنا أن مفهوم الجماعة فيما سواها يدور حول معنيين اثنين:

*** الأول : الاجتماع على الأصول الثابتة الصحيحة من الدين، فهو اجتماع معنوي يفيد التزام منهج الحق ولزوم طريق الكتاب والسنة وأصول الدين الصحيحة.

*** الثاني : الاجتماع ضمن كيان سياسي يقوم عليه الأمير أو الإمام أو الحاكم، ويقصد منه الحفاظ على الوجود الحسي للمسلمين الذي يضمن للأمة سلامة وجودها وحقن دمائها بمنع الهرج والفتنة والضياع.

ومن الواضح أن هناك توافقاً بين هذين المعنيين وبين المعاني التي عرضناها من القرآن الكريم، فالاجتماع إما أن يكون حسياً وإما أن يكون معنوياً، ولسوف نقرر لاحقاً أيهما المقصود بمفهوم الجماعة حينما يطلق اصطلاحاً شرعياً.

هذا وقد تعددت مقالات أهل العلم في بيان مفهوم الجماعة المسلمة، يقول الإمام الشاطبي بعد أن سرد جملةً من الأحاديث المتعلقة بالجماعة أن أقوال الناس في معنى الجماعة المرادة خمسة هي:

**أولاً: أنها السواد الأعظم من أهل الإسلام :
ــــــــــــــــــــــــ
ومثال ذلك قول أبي مسعود الأنصاري لما سئل عن الفتنة مقتل عثمان رضي الله عنه فقال: عليك بالجماعة فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة ، واصبر حتى تستريح أو يستراح من فاجر. اهـ. ثم قال الشاطبي: فعلى هذا القول يدخل في الجماعة مجتهدو الأمة وعلماؤها وأهل الشريعة العاملون بها ومن سواهم داخلون في حكمهم لأنهم تابعون لهم ومقتدون بهم، فكل من خرج عن جماعتهم فهم الذين شذوا وهم نهبة الشيطان ويدخل في هؤلاء جميع أهل البدع لأنهم مخالفون لمن تقدم من الأمة ولم يدخلوا في سوادهم بحال. قلت: إن معنى كلام الشاطبي وما نقله عن بعض السلف يفيد بأن المقصود بالسواد الأعظم من المسلمين ليس مجرد الاجتماع الحسي لكثرتهم وإنما الاجتماع الحسي على صفة معينة من وجود إمام وأهل علم والتزام بالشريعة، فليتبنه.

**ثانياً: أنها جماعة أئمة العلماء المجتهدين:
ـــــــــــــــــــــــ

وعليه فمن خرج عما عليه علماء الأمة فهو خارج عن الجماعة وميتته على ذلك ميتة جاهلية. وذكر الإمام الشاطبي من الأدلة على هذا القول حديث النبي صلى الله عليه وسلم :" إن الله لن يجمع أمتي على ضلالة" ، رواه الترمذي وذكر من أصحاب هذا القول عبد الله بن المبارك، وإسحاق بن راهويه، وقيل لعبد الله بن المبارك: من الجماعة الذين ينبغي أن يقتدى بهم؟ قال : أبو بكر وعمر – فلم يزل يحسب حتى انتهى إلى محمد بن ثابت والحسين بن واقد – فقيل: هؤلاء ماتوا، فمن الأحياء؟ قال : أبو حمزة السكري. الاعتصام للشاطبي ( 518 ) بتصرف

قلت: ومرد هذا القول هو أن الجماعة ما كان على المنهج العلمي العقدي السليم المتمثل في هؤلاء الأعلام كما سنبين لاحقاً إن شاء الله.

**ثالثاً: أن الجماعة هي الصحابة على الخصوص:
ـــــــــــــــــــــــــــ

ونقل الإمام الشاطبي هذا القول عن عمر بن عبد العزيز، وذكر ما رواه ابن وهب عن مالك قال : كان عمر بن عبد العزيز يقول: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سنناً ، الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر فيما خالفها. من اهتدى بها مهتد، ومن استنصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً.اهـ. المصدر السابق ،

قلت: وقد اجتمع في الصحابة الوصفان السابقان من حيث كونهم السواد الأعظم للمسلمين في قرنهم ومن حيث تمثيلهم لمنهج العقيدة السليمة من جهة أخرى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :" ما أنا عليه وأصحابي" رواه الترمذي
**رابعاً: أن الجماعة هي جماعة أهل الإسلام إذا أجمعوا على أمر فواجب على غيرهم من أهل الملل اتباعهم، وهم الذين ضمن الله لنبيه صلى الله عليه وسلم أن لا يجمعهم على ضلالة، فإن وقع بينهم اختلاف فواجبٌ تعرُّف الصواب فيما اختلفوا فيه. الاعتصام للشاطبي 519

ونقل الشاطبي عن الإمام الشافعي قوله: الجماعة لا تكون فيها غفلة عن معنى كتاب الله ولا سنة ولا قياس، وإنما تكون الغفلة في الفرقة.

قلت: وعند النظر يظهر أن هذا القول راجع إلى القولين الأولين؛ أي السواد الأعظم من المسلمين ممثلاً بأئمتهم المجتهدين وأتباعهم (القول الأول)، وجماعة الأئمة المجتهدين الذين يمثلون المنهج العقدي العلمي ( القول الثاني).

**خامساً: أن الجماعة هي جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ينظر المرجع السابق
فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم هذا الأمير ونهى عن مفارقته، والأصل في هذا حديث عرفجة رضي الله عنه قال :سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إنه ستكون هناتٌ وهنات، فمن أراد أن يفرِّق أمر هذه الأمة وهي جميعٌ فاضربوه بالسيف كائناً من كان" ، رواه مسلم ، فخلاصة هذا القول أن الجماعة راجعة إلى اجتماع المسلمين على إمام موافق للكتاب والسنة، والأمر الظاهر في هذا القول هو الاجتماع العملي السياسي في صيغة دولة وإمارة إسلامية.

هذه مجموع الأقوال في مفهوم الجماعة كما نقلها الشاطبي رحمه الله، والحقيقة أننا إذا تأملنا في مجموع هذه الأقوال استطعنا أن نردها جميعاً إلى معنيين اثنين هما : الاجتماع المنهجي العلمي على العقيدة الصحيحة والاجتماع الحسي العملي في صورة كيان سياسي إسلامي.

فالاجتماع المنهجي العلمي هو كما قال أبو شامة: حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحق واتباعه، وإن كان المتمسك بالحق قليلاً والمخالف له كثيراً، لأن الحق الذي كانت عليه الجماعة الأولى من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم لا نظرة إلى كثرة الباطل بعدهم. ، (الثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الجماعي للصاوي 138)

والاجتماع العملي السياسي هو كما قال ابن تيمية رحمـــه الله :" ولهذا سُموا ( أي أهل السنة والجماعة ) أهل الكتاب والسنة وسُمّوا أهل الجماعة لأن الجماعة في الاجتماع وضدها الفرقة وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسماً لنفس القوم المجتمعين" ، (الواسطية لابن تيمية )


وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرح الواسطية:" فمعنى أهل الجماعة أهل الاجتماع لأنهم مجتمعون على السنة متآلفون فيها، لا يضلل بعضهم بعضاً ولا يبدع بعضهم بعضاً بخلاف أهل البدع . (شرح الواسطية للعثيمين 647) .

وهنا نكتة مهمة، وهي أن التفريق بين هذين المعنين خلاف الأصل، إذ الأصل أن يتطابق المنهج العلمي والعملي وأن يجتمعا في نفس الكيان الإسلامي، بمعنى أن يتمثل معنى الجماعة في كيان سياسي إسلامي يلتزم بالمنهج العلمي العقدي الإسلامي وهذا ما كان عليه الحال في زمن النبوة قطعاً لا حصراً، إذ أن هذا التطابق قد وُجد في زمن الخلافة الراشدة ثم أخذ الجانبان يفترقان شيئاً فشيئاً بعد انقضائها، ولا يزال الجانبان يفترقان ويقتربان على مر العصور بحسب ما تكون عليه حال الأمة والقيادة السياسية من علمٍ بعقيدتها والتزام بحراستها وتطبيقها. ولما كان كل من هذين الجانبين جزء لا يتجزأ من مفهوم الجماعة فقد ترتب على هذا الافتراق بينهما في الواقع المشاهد حدوث نوع من الإفراط أو التفريط في تحقيق وحفظ أحد الجانبين على حساب الآخر، وهذا – في نظري – هو السبب الحقيقي لمعظم مظاهر الغلو والجفاء في مسألة الجماعة؛ إنه عدم فقه الموزانة المطلوبة بين الاتباع العلمي والاجتماع العملي كما سنبين إن شاء الله.

المبحث الثاني : الثوابت والمتغيرات في مفهوم الجماعة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــ

إن طبيعة الرسالة العالمية للإسلام تستلزم وجود مرونة تطبيقية تتواءم مع شتى المتغيرات الزمانية والمكانية للتجمعات البشرية التي يطالها خطاب التكليف الإسلامي. وإن هذه المرونة واقعةٌ فعلاً بيد أنها لا تفتأ تُشكِل على البعض بحيث يخلط ما بين المرونات التطبيقية المقبولة والثوابت الراسخة التي لا تقبل تغيراً ولا تبديلاً ولا تخضع لمتغيرات الزمان والمكان البتة. ولما كانت المفاهيم والتطبيقات المتعلقة بمفهوم الجماعة الإسلامية من أكثر المفاهيم عرضة لتبدلات الأزمنة والأمكنة كان لزاماً علينا التعرف على الثوابت الإسلامية في هذا المجال حتى لا تلتبس بغيرها مما قد تتناوله مرونة التطبيق. ولسوف أعرض فيما يلي جملة من هذه الثوابت ثم أعرض لأمثلة من المسائل التي تقبل المرونة والتغيير في تكييفها وتطبيقها.

المطلب الأول : الثوابت في مفهوم الجماعة الإسلامية:
ــــــــــــــــــــــــــــ

الثبات ضد الزوال ، (المفردات للاصبهاني 84) ، والمقصود أننا نثبت في هذا المقام جملة من المبادئ الراسخة المستقرة في شريعة الإسلام مما يتعلق بمفهوم الجماعة لتكون أصولاً يُتحاكم إليها ويتشبث بها عند الاضطرار إلى تفويت بعض المصالح الشرعية أو احتمال بعض المفاسد الشرعية. وإن الأصل في تقرير هذه الثوابت ما ورد في حديث حذيفة بن اليمان قال :" كان الناس يسألون رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال : نعم. قلت : وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه ‏ ‏دخن .‏ ‏قلت :وما دخنه؟ قال :‏ ‏قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر. قلت : فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت :يا رسول الله صفهم لنا. قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. قلت :فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال : فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك" ، رواه البخاري ، فهذا الحديث يؤصل لنا أمر الجماعة بمفهوميها الذين عرضناهما سابقاً وهو الجماعة العلمية والجماعة السياسية كما سنوضح هاهنا إن شاء الله.

أولاً: لزوم منهج أهل السنة : الثوابت المتغيرات للصاوي ( 137)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وهذا يعني أن مسألة العقيدة والمنهج العلمي لجماعة المسلمين أمر لا يمكن التفريط به أو المساومة عليه بحال من الأحوال، كما يعني أن الضابط في هذا المنهج الملزم هو ما كان موافقاً لنهج السلف رضوان الله عليهم كما قال إمام أهل السنة أحمد بن حنبل :" أصول السنة عندنا التمسك بما عليه أصحاب رسول الله والاقتداء بهم وترك البدع، وكل بدعة ضلالة" ( أصول السنة )

وهذه العبارة من دقة وفقه هذا الإمام الجليل، إذ أن الكل يدعي – وفق هواه – أنه ينتسب إلى كتاب الله وسنة ورسوله ولكن يفوتهم التقيد بمنهج التلقي الصحيح الذي فهمه وطبقه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على عينه صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك كان لا بد من هذا التقييد في منهجية التلقي الصحيح، ولهذا فإنك لا ولن تجد صاحب هوى ولا فرقة يدَّعي الانتساب إلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ناهيك عن أن يكون له سلف من هذه الأمة في ما يدعيه هواه وترمز إليه فرقته.

والدليل على لزوم هذا المنهج حديث النبي صلى الله عليه وسلم :" إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة وإن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة" ، رواه ابن ماجة ، وقد تقدم معنا آنفاً الرواية المبينة للجماعة وهي قوله صلى الله عليه وسلم :" :" ما أنا عليه وأصحابي" ، رواه الترمذي .

ووجه الدلالة أن أتباع هذا المنهج هم وحدهم أهل النجاة فلكان لازماً لمن أراد النجاة بركوب سفينة الإسلام أن يرتحل مع أهل السنة والجماعة. يقول الدكتور صلاح الصاوي :"والجماعة هنا تشير إلى المنهج أو الإطار العلمي الذي يجب أن يتقيد به مريد النجاة في هذا العصر وفي كل عصر وهو اتباع الكتاب والسنة وما أجمع عليه سلف الأمة" . الثوابت والمتغيرات للصاوي 138

أما كيفية تحقيق هذا الالتزام فيكون بالالتزام المجمل بعقيدة الإسلام وشريعته والترك المجمل لأصول الفرق الضالة والمبتدعة ، وتكون مخالفة هذا الالتزام بمفارقة منهج السنة والالتفاف حول أصل بدعي يكون به مفارقاً لمنهج السنة وإن التزم بمتابعة الإمام وأقام على بيعته. المرجع السابق بتصرف

وهذا واضح جداً في حديث حذيفة المتقدم حيث قال : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال : فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك" ، رواه البخاري

وقد أشار بعض المفسرين – كابن حجر – إلى أن المراد بالعض على أصل الشجرة ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم من العض بالنواجذ على السنة .( كما في حدث العرباض بن سارية المشهور ) .

وهذا – مع غياب الإمام – دليل على لزوم اتباع منهج السنة العلمي مهما كان الأمر ومهما كانت الظروف.

ويتفرع على هذا الأصل أصل آخر وهو لزوم جماعة أهل الحل والعقد إذا انتظم عقدها واجتمع أمرها في بلدٍ من البلاد ، (الثوابت والمتغيرت للصاوي )144
أي في حال ما إذا شغر الزمان عن الإمام، وسبب لزوم ذلك هو أنه مع غياب الإمام يصبح اتباع هؤلاء طريق متعين لإقامة الدين والسعي نحو إعادة كيان الجماعة الحسي العملي من خلال الحفاظ على المنهج العلمي العقدي.

ثانياً: لزوم الأئمة في غير معصية:
ـــــــــــــــــــ

والمقصود هنا أنه إذا اجتماع الناس على إمام يحكمهم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويقوم بمهمة الخلافة التي هي "حراسة الدين وسياسة الدنيا به" ( الاحكام السلطانية للماوردي 5 ) .

فإنه يلزم كل واحد من المسلمين أن يلتزم بطاعة هذا الإمام في غير معصية كما جاء في حديث العرباض بن سارية حيث قال صلى الله عليه وسلم :" أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبداً حبشياً" ، رواه أبو داود

وعن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات إلا مات ميتة جاهلية" ، رواه البخاري

وقال الإمام أحمد في أصول السنة:" والسمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين البر والفاجر ، ومن ولي الخلافة واجتمع الناس عليه ورضوا به، ومن عَلِيَهم بالسيف حتى صار خليفة وسمى أمير المؤمنين" ، أصول السنة 80

وهنا لا بد من تحرير نقطتين اثنتين هما:

1ـ المقصود بالاجتماع هاهنا التزام الكيان السياسي أو "الدولة" الإسلامية التي تكون رايتها في مقابل راية البغي والتفرق والتشرذم بغض النظر عما قد يكون فيها وفي الإمام من مخالفات جزئية أو فسق أو ظلم طالما أنه يحكم بالكتاب والسنة ويقيم ما من شأن الإمام أن يقيمه من تأمين الثغور وإقامة الحدود وإمضاء الجهاد ونحوه من مسائل الولاية الشرعية.

2ـ أن الأصل أن تجتمع وتتمثل الهوية العقدية السليمة في الإمام الحاكم والمقيم لهذا الكيان السياسي، ولكن إن افترق هذان المساران كان الضابط في تحقيق الهوية الإسلامية للإمام والدولة هو تحقق عقد الإيمان المجمل، أي أن يصح أن يطلق عليه أنه مسلم شرعاً ، وهذا ينضبط بضوابط ظاهرة بسيطة كما قال صلى الله عليه وسلم :" من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله فلا تخفروا الله في ذمته" ، رواه البخاري

ولا ينتقض إلا بالكفر البواح الذي فيه من الله سلطان ، كما قال عبادة بن الصامت في بيعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم:"فبايعناه على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرةً علينا وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان" رواه البخاري

هذا ومن المهم أن نشير في هذا المقام إلى مسألة البيعة التي وردت بها النصوص كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم:" من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتةً جاهلية" ، رواه مسلم

لنبين أن المقصود بهذه البيعة البيعة العامة للإمام والخليفة كما هو واضح في الحديث التالي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء تكثر. قالوا : فما تأمرنا؟ قال:"فوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم " ، رواه مسلم

وعليه فلا يجوز صرف هذه الأحاديث والنصوص أو إسقاطها على "بيعات " أخرى لقادة تجمعات وفصائل إسلامية، وسنزيد هذه المسألة بياناً في المبحث التالي إن شاء الله.

بهذا يكتمل مفهوم الجماعة الإسلامية منهجاً علمياً وكياناً سياسياً، وإن كلاً من الأصلين السابقين يتفرع عنهما جملة من الضوابط التي لا تنفك عنها ولا يتسع المقام للتفصيل فيها، وإنما أردت أن أقرر هذين الأصلين ليكونا راسخين في الأذهان لا سيما ونحن بصدد استعراض مظاهر الغلو والجفاء في أحدهما أو كليهما.

المطلب الثاني: المتغيرات في مفهوم الجماعة الإسلامية:
ـــــــــــــــــــــــــــــــ

إن الثوابت المتقدمة في مفهوم الجماعة لم تأت لتكون مجرد نظريات وأفكار ومبادئ، وإنما جاءت لتطبق وتتمثل واقعاً حقيقياً في حياة المسلمين، وإن طبيعة المستجدات التي تطرأ في الزمان والمكان قد تجعل بعض المظاهر التطبيقية لمفهوم الجماعة الإسلامية مورداً من موارد الاجتهاد التي يسوغ فيها التعدد والاختلاف أعني تعدد واختلاف التنوع لا التضاد. وسوف أستعرض فيما يلي بعضاً من موارد الاجتهاد في قضية الجماعة على سبيل المثال لا الحصر:

أولاً: تولية الإمام :
ــــــــــ

إن وجوب تعيين الإمام أمر لا يرتاب فيه عاقل فضلاً عن مسلم، وهذه من الثوابت المترتبة على مفهوم الجماعة الإسلامية والتي لا تتغير بتغير الزمان والمكان، ولكن عندما ننظر في طرق تولي الإمام للإمامة عند أهل السنة والجماعة نجد في هذه الطرق الثلاثة مرونةً تطبيقية تتيح لكل أهل عصر من العصور أن يتولوا تطبيق هذه الطريقة أو تلك بحسب الظروف والحاجة والخصوصيات الزمانية والمكانية للجماعة المسلمة وفيما يلي بيان ذلك:

1ـ تولية الإمام باختيار أهل الحل والعقد:
ــــــــــــــــــــ
وهذا الطريق هو الأصل عند أهل السنة والجماعة وهو الذي بويع لأبي بكر الصديق رضي الله عنه عن طريقه، يقول الإمام الماوردي رحمه الله:" وإن لم يقم بها – أي الإمامة – أحد خرج من الناس فريقان؛ أحدهما أهل الاختيار حتى يختاروا إماماً للأمة، والثاني : أهل الإمامة حتى ينتصب أحدهم للإمامة" ، ( الاحكام السلطانية للماوردي 14)

قلت: فالثابت هنا لزوم تميز أهل الحل والعقد ،( لان مالايتم الواجب إلا به فهو واجب )

ولكن تبقى مسألة تعيين وتحديد أهل الحل والعقد مفتوحةً لاجتهاد المسلمين في كل عصر ومكان بما يناسب حالهم وخصوصيتهم، لأن هذا الاختيار مما تختلف فيه وجوه المصلحة باختلاف العصــــور ( الوجيز في فقه الخلاقة للصاوي 60 ) .

2ـ الاستخلاف:
ـــــــــــ
ومعنى هذا أن يستخلف الإمام الحالي من تؤول إليه الإمامة بعد وفاته، يقول الإمام الماوردي :" وأما انعقاد الإمامة بعهد من قبله فهو مما انعقد الإجماع على جوازه ووقع الاتفاق على صحته " ، (الاحكام السلطانية للماوردي 21)

قلت: فهذا الطريق ثابت أيضاً ولكن قد تختلف الظروف والعصور ووجوه المصلحة فيطالب بضبط هذا الاستخلاف بما يحقق مصالح المسلمين، وقد ناقش كثير من العلماء مسألة الاستخلاف هذه وهل هي عقد ملزم أم مجرد ترشيح لا يلزم إلا بقبول أهل الحل والعقد له أو بموافقة أهل الشوكة للمستخلَف ، أقوال لأهل العلم ولكن المقصود هنا بيان أن هذه الضوابط والتصورات هي من موارد الاجتهاد وبالتالي هي عرضة للتغير والدوران مع المصالح.

3ـ الاستيلاء والقهر:
ـــــــــــــ

والحقيقة أن هذا الطريق خلاف الأصل، ولا يوجد نص شرعي يشهد له بذاته ولكن تشهد له أصول الشرع العامة من حيث إرادة انتظام عقد المسلمين ودرء الفتنة، ولكن هل تنعقد الإمامة للمستولي أياً كان حاله من حيث العدالة أو الفسق أو عدم استيفاء الشروط، وجهان للعلماء، والحاصل أن هذا أيضاً من موارد الاجتهاد بحسب ما يترجح من وجوه المصلحة في كل حال من الأحوال.

ثانياً: تكوين التجمعات الإسلامية والتعاقد عليها:
ـــــــــــــــــــــــــ

لا شك أن الواقع السياسي للأمة المسلمة لم يلجئ المسلمين إلى إفراز أي تشكلات أو تجمعات عضوية متميزة عن نسيج المجتمع الإسلامي الأم إلا بعد تفكك الارتباط اللازم ما بين المنهج العلمي والمنهج السياسي على تفاوت بين هذا الارتباط والانفكاك على مر العصور.

ولما سقطت الخلافة العثمانية وشغر الزمان من أي مظلة سياسية إسلامية جامعة يأوي إليها المسلمون في أقطار الأرض قاطبة، ورافق ذلك تشرذم سياسي وانفلات مرجعي عن الهوية العقدية الإسلامية في حكم تلك الدويلات المتشرذمة أخذ المسلمون الغيورون على عاتقهم الاجتهاد في إيجاد صيغ تجمع علمي وعملي تهدف إلى إعادة الكيان الحسي للأمة الذي يجمع المنهج العلمي والخلافة التي تحرسها وتحكم بها. ولقد انطلقت معظم – إن لم يكن كل – هذه التجمعات من المبادئ الشرعية التي ترسخ مفهوم الجماعة والاجتماع .

وأخذت تنزل نصوص هذه المفاهيم على تجمعاتها العضوية الصغيرة هذه، ومن هنا بات التعاقد والاجتماع على هذه المشاريع الصغيرة المتناثرة في بقاع العالم الإسلامي مورداً من موارد الاجتهاد والنظر من حيث الجواز والتكييف واللزوم – أي لباقي الأمة – ونحو ذلك مما أزيده بياناً عند استعراض مظاهر الشطط في هذه الظاهرة، ولكن القصد من إثبات الكلام هاهنا هو الإشارة إلى هذا النموذج الواقعي الذي انطلق من مفاهيم الجماعة وتم تنزيله على ما لم ينزل له أصلاً.ولقد ذكر الدكتور صلاح الصاوي موردين من موارد الاجتهاد في هذه المسألة هما :

1ـ تسمية التعاقد على الخير والتزام الطاعة عليه بيعة.

2ـ التزام جماعة بعينها من الجماعات العاملة للإسلام ( الثوابت والمتغيرات للصاوي 139 )

ولا شك أن هناك تفريعات أخرى عن هذه القضية تتناولها نظرات المجتهدين عبر العصور، وإنما أردت طرح بعض هذه النماذج للتمثيل لا للحصر.

وبعد هذا العرض للثوابت والمتغيرات في مفهوم الجماعة المسلمة يجدر بنا الانتقال إلى المحور الرئيسي في البحث ألا وهو مظاهر الغلو والجفاء في مفهوم الجماعة وهو ما نتناوله في المبحث التالي إن شاء الله.

*****المبحث الثالث : مظاهر الانحراف في مفهوم الجماعة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قد آلى إبليس على نفسه أن يجعل لكل أمر جاءت به الشريعة الغراء موردين من موارد الانحراف يوسوس بهما إلى أتباعه؛ فأما أحد الموردين فهو الغلو والإفراط في هذا الأمر إلى حد يجاوز به حدود المشروع، وأما الثاني فهوالتفريط في هذا الأمر والتهاون فيه حتى يذهب بالكلية، ويبقى الحق شامخاً بين طرفي الانحراف الإبليسي، لتبقى خيرية هذه الأمة متمثلة في قوله تعالى :" وكذلك جعناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس" ، ( البقرة 143 )

فليس غريباً إذاً أن يتعرض مفهوم الجماعة بشقيه العلمي والعملي لمظاهر الغلو والجفاء بحيث تهلك الجماعة وتتردى في أودية الفتن، أو يضيع كيانها وينمسخ حتى يتلاشى ذكرياتٍ باهتة على صفحات التاريخ، وإن الوقوف على مظاهر هذا الانحراف ومعالجة أسبابه واستئصال جذوره أمر لازم لنا إذا أردنا الخروج من مستنقع التشرذم الذي نعيش فيه بلا ريب، عملاً بقوله تعالى :" إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" ( الرعد 11)

وسوف أستعرض في هذا المبحث بعض مظاهر الغلو في مفهوم الجماعة بشقيها لتكون نقاط انطلاق لتشخيص ومعالجة هذه الظاهرة المرضية في مجتمعاتنا المسلمة إن شاء الله.


المطلب الأول : مظاهر الغلو في مفهوم الجماعة :
ــــــــــــــــــــــــــ

يمكن في الحقيقة تقسيم مظاهر الغلو في مفهوم الجماعة إلى قسمين باعتبار جهة الغلو أفي المنهج العلمي أم في المنهج العملي السياسي، وسأضرب مثالاً لذلك فيما يلي:

أولاً: الغلو في جانب المنهج العلمي للجماعة:
ــــــــــــــــــــــــ

إن تحديد الإطار العقدي للجماعة المسلمة في إطار الكتاب والسنة وفق فهم سلف الأمة حق بلا ريب، ولكننا وجدنا أن حدية هذا الإطار قد اتخذت عند البعض أشكالاً من الغلو المنهجي التي أضرت بالأمة المسلمة وعرضتها لكثير من البلبة والفتن، ولا يعني هذا الطعن في سلامة المنهج الذي توهم هؤلاء الانبثاق عنه ولا في الدوافع التي دفعت هؤلاء إلى مثل هذا الغلو، إذ أن شدة وطأة البدع والتغريب والنفوذ الكبير للمناهج الكفرية والمشاريع الكفرية في مجتمعات المسلمين قد دفعت بالبعض إلى تحري الصفاء المطلق والكمال التام في سياق تصفية المنهج العلمي الاعتقادي حرصاً منهم – كما يتوهمون – على السلامة المطلقة لهذا المنهج.

***** ومن مظاهر هذا الغلو ما يلي :

1ـ الوقوع في تكفير كل من خالف أهل السنة والجماعة:
ــــــــــــــــــــــــــــــــ

وهذه من كبرى المصائب التي وقع أصحابها في نفس ما يعيبون على غيرهم من الفرق الضالة، ولعلي أشير إلى بعض موارد الشبهة عند هؤلاء:

*** أـ فمنها حديث الافتراق حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم :" إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة وإن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة" ، رواه ابن ماجة

فلقد فهم البعض من كون باقي الفرق في النار أنها كافرة، وهذا باطل وهو من باب توهم لزوم ما لا يلزم، فليس معنى أنها في النار أنها كافرة حتماً لأن النص يحتمل الوعيد ، والوعيد بالنار ليس محصوراً في الكفر، بل قد تفترق بعض الجماعات على أصول بدعية غير مكفرة فتفارق منهج أهل السنة والجماعة وتتوعد بالنار لأجل المعصية لا أنها تخرج من الملة. وواضح أن حمل النص على الكفر والحكم بلازم ذلك وهو تكفير كل من خالف أهل السنة والجماعة ولو بحجة المحافظة على نقاء العقيدة وسلامة الدين لا شك أنه من الغلو المذموم، وأنه على خلاف الحق.

*** ب ـ ومنها عدم التمييز بين التحاكم إلى غير الله وبين المخالفات الجزئية الواقعة عند الحكم مع بقاء أصل التحاكم إلى الله : وهذا يؤدي إلى تكفير الحاكم والإمام بالمعاصي كما حصل من الخوارج مع علي رضي الله عنه، فقد توهموا أن ما قبل به من التحكيم بينه وبين معاوية مع كونه يعلم أنه على الحق توهموا وزعموا أن ذلك يستلزم الكفر مستدلين بقوله تعالى :" إن الحكم إلا لله" ، ( الانعام 57)

ولتفنيد حججهم موضع غير هذا وإنما القصد بيان وجه الغلو عند هؤلاء الذين بالغوا في الاحتياط لمفهوم الإيمان – بزعمهم – فوقعوا في الغلو والإفراط الذي انتهى بهم إلى هذه المفارقة المذمومة لجماعة المسلمين، فعاد عليهم هذا الغلو بنقيض مقصودهم.

2ـ ظهور مصطلحات التجهيل ووصف المجتمعات الإسلامية المعاصرة بالجاهلية:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فلقد ظهرت وفشت مصطلحات التجهيل التام للمجتمعات الإسلامية في واقعنا المعاصر،وكان هذا التجهيل تجهيلاً مطلقاً لا استثناء فيه ولا تقييد وكأن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن ، وكأن أربعة عشر قرناً من التاريخ الإسلامي لم توجد أصلاً، وهذا – مع ما فيه من غلو – فيه تنكر شديد لما قام به النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وتابعيهم بإحسان على مر العصور والدهور من نشر الدعوة وإقامة الدولة وتوريث المسلمين المنتشرين في أرجاء المعمورة اليوم رصيداً تاريخياً ضخماً مشرفاً رغم ما فيه من عثرات وكبوات، فالقول بأننا اليوم نعيش جاهليةً مطلقة أمر بعيد عن الإنصاف وبعيد عن مقام التقدير والعرفان للنبي صلى الله عليه وسلم وصحبه وسلف هذه الأمة فيما قدموه لهذا الدين بتوفيق وسداد وفضل من الله سبحانه.

وقد يكون انطلاق أصحاب هذا الغلو في توصيفهم للمجتمعات الإسلامية بالجاهلية مبنياً على ما ورد في بعض النصوص كحديث أبي ذر رضي الله عنه قال :" إني ساببت رجلاً فعيرته بأمه،فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم :"يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية" ، روه البخاري وحديث النبي صلى الله عليه وسلم :" ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية" ، رواه البخاري ، وغيرها من النصوص التي توهموا منها أن أي أمر يقع في المجتمع الإسلامي من شأن المعاصي والتحاكم إلى غير شرع الله كما هو ظاهر قوله تعالى:" أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون" ( المائدة 50 ) .

توهموا أن لازم ذلك هو تجهيل هذه المجتعات بإطلاق، فقالوا إن المجتمعات الموجودة اليوم في بلاد الإسلام هي مجتمعات جاهلية وبنوا على هذا التصور الخاطئ أحكام ومعاملات بل وحاكموا الناس إليها يصوبون من ذهب مذهبهم ويجهِّلون من خالفه.

والحقيقة إن أحداً لا يستطيع إنكار ورود لفظ الجاهلية في كثير من النصوص الشرعية ولكن مدار الإنكار ليس على الاستعمال المقيد بما ورد به الشرع وإنما مورد الإنكار هو على ذلك التعميم المطلق لحكم الجاهلية خلافاً لما وردت به النصوص ، حيث إنك تجد لفظ الجاهلية الوارد في النصوص مقيداً بوصف أو إضافة عندما يكون حكايةً عن حال المسلم حين تلبَّس بشيء من المعاصي، ولم أجد – فيما اطلعت عليه – نصاً شرعياً يصف المسلم أو المجتمع الإسلامي بالجاهلية المطلقة لمجرد التلبس بالخطأ .

بل إذا تأملت حديث جابر بن عبد الله قال : كنا في غزاة – قال سفيان مرةً – في جيش فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري يا للأنصار وقال المهاجري يا للمهاجرين، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما بال دعوى الجاهلية! قالوا : يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال : دعوها فإنها منتنة" ، رواه البخاري .

وهذا الحديث قوي جداً في الشهادة على ما ذكرنا من عدم إطلاق وصف الجاهلية لأن مناسبته تتعلق بالجماعة منهجاً وحساً، بل تتعلق بمعاقد الولاء والبراء وهذه من أصول العقيدة كما هو معلوم، ومع ذلك لم يقل صلى الله عليه وسلم ما هذه الجاهلية ولم يصف أصحاب هذا الزلل بالجاهليين وإنما قال " ما بال دعوى الجاهلية" فقد قيد التجهيل بمناط الزلل والانحراف، فإذا كان الانحراف في هذه الأصول لا يستدعي التجهيل المطلق، فما بال من يجهِّل لما هو دون هذا، ويشهد لهذا الأمر أيضاً ترجمة الإمام البخاري لباب بعنوان :" المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفَّر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك لقول النبي صلى الله عليه وسلم إنك امرؤ فيك جاهلية، وقول الله تعالى :"إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" . رواه البخاري

قلت: ونحن إذا نظرنا إلى أشد الانحرافات القائمة في المجتمعات الإسلامية اليوم والمتمثل في التحاكم إلى الأنظمة الوضعية وسعنا أن نصف هذا الانحراف بأنه من أمر الجاهلية كما هو ظاهر بعض النصوص، ولكن لا يسعنا تجهيل هذه المجتمعات تجهيلاً مطلقاً لأن الله تعالى قد تكفل بحفظ هذا الدين والقول بالتجهيل المطلق يعني اندثار الدين وهذا لا يصح حتى في أشد حالات انتقاض عرى الإسلام وحتى في أشد حالات جهل أهل الإسلام بالإسلام، تأمل معي حديث حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة وليُسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فنحن نقولها فقال له صلة: ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة؟ فأعرض عنه حذيفة ثم ردها عليه ثلاثاً كل ذلك يعرض عنه حذيفة ثم أقبل عليه في الثالثة فقال : يا صلة تنجيهم من النار ثلاثا" ، رواه بابن ماجة

والشاهد هنا في قوله " تنجيهم من النار" أن حال هؤلاء على ما فيهم من جهل ليس كحال الجاهلية المطلقة قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وكفى بالنجاة من النار فوزاً عظيماً!

3ـ إلزام المسلمين بالبرامج الدعوية لبعض التجمعات الإسلامية:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إن تشكل بعض التجمعات الإسلامية كرد فعل على الواقع المنحرف المعاصر لكثير من المجتمعات الإسلامية قد أفرز معه العديد من المشاريع والبرامج الدعوية والإصلاحية والتغييرية ذات المسمى والنسبة الإسلامية، ولقد دفع الغلو ببعض القائمين على هذه التجمعات إلى تبني هذه البرامج كصيغ وحيدة ملزمة للتغيير الإسلامي المنشود، بحيث باتوا يلزمون الناس بمناهجهم ويحملونهم عليها بشتى أساليب الإغراء وربما الابتزاز المعنوي – كما سنبين في فقرة لاحقة – حتى انتهى المطاف ببعض هؤلاء إلى اعتبار نفس هذه التجمعات والبرامج معاقد للولاء والبراء تدور معها مستلزمات كل منهما، حتى أصبحت الوسيلة غاية وضاعت الغاية في خضم الانشغال بالوسيلة، ولا شك أن هذا يمثل نموذجاً من نماذج الغلو المنهجي في مفهوم الجماعة. والحقيقة أن نظرة واحدة في صفحة الواقع المعاصر للتجمعات الإسلامية المختلفة اليوم لتغص بعشرات النماذج التي تبين ما نقول دونما حاجة إلى ذكر أمثلة تفصيلية.

ثانياً : الغلو في جانب المنهج العملي السياسي للجماعة:
ــــــــــــــــــــــــــــــ

إن مظاهر الغلو في هذا الجانب لا تقل انتشاراً ولا خطورةً عن نظيرها في الجانب العلمي، وفيما يلي عرض لبعض هذه المظاهر:

1ـ إسقاط مسمى جماعة المسلمين على بعض التجمعات الحركية :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لقد سبق أن نوهنا إلى المقصود بالجماعة في الجانب السياسي العملي هو الاجتماع على الإمام، بحيث يتوجه الإنكار الشرعي على من فارق الجماعة بهذا الاعتبار، كما تقدم في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم :" فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات إلا مات ميتة جاهلية" .

وإن من الغلو المشاهد في واقعنا الإسلامي المعاصر قيام القائمين على بعض التجمعات الحركية من تنظيمات وأحزاب وحركات إسلامية بإسقاط النصوص والثوابت الشرعية المتعلقة بالاجتماع الحسي للأمة على الإمام الأعظم على تجمعاتهم وأحزابهم هذه ليوهموا عامة المسلمين بأن التزام جماعاتهم وتجمعاتهم العضوية هذه أمر ملزم لا يسع المسلمين الخروج عنه، وان من شذ عن هذه الجماعة أو تلك يعرض نفسه لنصوص الوعيد لمن فارق الجماعة، ولا شك أن هذا من الغلو المنكر في تحديد مفهوم الجماعة حتى لو كان المنهج العقدي والعلمي لهذه التجمعات سليماً فإنه لا يجوز إلزام الناس بما لم يلزمهم به الله تعالى في كتابه ولا رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته.

2ـ تنزيل نصوص البيعة العامة على البيعات الخاصة للجماعات الإسلامية:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وهذا أيضاً مما ابتليت به التجمعات والحركات الإسلامية المعاصرة، حيث بدأ الأمر بالترخص في إطلاق اسم البيعة على هذه التعاقدات المحمودة شرعاً من حيث كونها تعاقدات على التعاون على البر والتقوى، وننبه إلى أن بعض أهل العلم كره تسمية هذه التعاقدات باسم البيعة منعاً للتلبيس والتدليس على العامة، وهو نفس المحذور الذي نتناوله هاهنا بيد أنه في حالة الغلو التي ننكرها نجد أن القائمين على هذه الحركات يتعمدون إيهام الناس أن هذه البيعة لأمير جماعتهم أو قياديها هي البيعة الواردة في النصوص الشرعية والتي لا يسع أحداً من المسلمين الانفكاك عنها حيث ورد الوعيد في ذلك في حديث النبي صلى الله عليه وسلم :" ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتةً جاهلية" ، رواه مسلم

يقول الدكتور صلاح الصاوي :" كما لا منازعة في أن البيعة الخاصة التي يعقد أصحابها الولاء والبراء على أساسها فيكفرون من عداهم ويبدعونه ويفرقون بها كلمة الأمة بيعة باطلة باعتبار ما أفضت إليه من هذه المفاسد" . الثوابت والمتغيرات 142


المطلب الثاني: مظاهر التفريط في مفهوم الجماعة:
ــــــــــــــــــــــــــــ

إن مظاهر الغلو التي قدمنا بعض الأمثلة عليها في المطلب السابق يقابلها بلا شك طرف الانحراف الآخر ألا وهو التفريط في بعض جوانب مفهوم الجماعة، وفيما يلي بعضاً من هذه المظاهر أذكرها على سبيل المثال لا الحصر:

أولاً: مظاهر التفريط في الجانب العلمي لمفهوم الجماعة:
ـــــــــــــــــــــــــــــ

إن من مظاهر هذا التفريط ما هو ناجم في الحقيقة عن الغلو في ترجيح أولوية الاجتماع السياسي والمحافظة على كيان الأمة الحسي بحيث يفرط أصحاب هذه النزعة في مقومات سلامة المنهج العقدي لا سيما الالتزام المطلق بمرجعية الكتاب والسنة ومنهج سلف الأمة، بحيث يوسع هؤلاء دائرة التسامح والمداراة والتألف إلى حدٍ غير مقبول ولا سائغ شرعاً ولا عقلاً؛ وإن من المظاهر العملية المشاهدة لذلك ما يلي :

1ـ تقديم رابطة القومية والوطنية على رابطة العقيدة:
ــــــــــــــــــــــــــــــ

ونحن لا نفتأ اليوم نسمع نداءات وشعارات الوحدة الوطنية وما إلى ذلك التي تدعو إلى صهر الناس – مسلمين وغير مسلمين – في بوتقة الوطن الواحد و" الارتقاء " فوق مستوى التصارع الديني والهيمنة الدينية، ولقد وقع كثير من المسلمين مع الأسف صرعى أمام هذه الدعاوى التي تحمل في ظاهرها شعارات الوحدة والقوة والاجتماع في حين أن حقيقتها هي مسخ الدين وتعطيل معقد الولاء والبراء الوحيد المعتبر شرعاً وتنصيب معاقد أخرى من جنسيات ووطنيات وقوميات. ولا شك أن هذا يشكل خللاً منهجياً في مفهوم الجماعة المسلمة.

2ـ دعاوى وحدة الأديان والتسامح الديني المغلوط:
ـــــــــــــــــــــــ
ونحن نرى اليوم في كل أرجاء العالم الإسلامي مؤتمرات وشعارات ومنظرين ومروجين لسموم وحدة الأديان وما اصطلحوا عليه زوراً وبهتاناً اسم "الديانات الإبراهيمية " وهم يزعمون أنها البوتقة التي تصب فيها كل من اليهودية والنصرانية والإسلام، ونحن نحمد الله أن تكذيب هؤلاء قد تقرر قبل أن يولد هؤلاء وتولد معهم هذه الأفكار النتنة حيث قال تعالى في محكم تنزيله:" ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين" ، والشاهد هنا أن إحدى طرق الترويج لهذه الأفكار الهدامة التذرع بضرورة المحافظة على الوحدة والاجتماع صيانةً للدولة وحفظاً لأمنها، والحقيقة أن هذه الظاهرة وثيقة الصلة بالتي قبلها، وكلها تحاول الاتكاء على مسألة الاجتماع والوحدة، ولكنها غفلت أو تغافلت عن أمر مهم وهو أن الاجتماع العملي السياسي في الأمة ليس له من هدف سوى حماية هذه العقيدة، كما قا
الكاتب: د. وسيم فتح الله
التاريخ: 01/01/2007