مذكرات مجاهد الحلقة الثالثة

 


مذكرات مجاهد
الحلقة الثالثة


أتواصل مع القراء الأعزاء في سرد مذكرات المجاهد أبي حفص العراقي الذي استأمنني عليها لأقوم بنشرها بعدما تأكدت من مقتله، وهاأنذا أنشر ثالث حلقات مذكراته التي يؤرخ ويوثق فيها بدايات العمل الجهادي في العراق، ذلك الذي بدأ بثلة صغيرة سرعان ما كبرت وتوسعت وانتشرت في كل ركن وكل زاوية من أرض بلاد النهرين التي حباها الله وأكرمها برفع راية الجهاد في زمن الذل والعار والخنوع الذي تعيشه كثير من بلاد الإسلام التي ابتليت بتواطئ حكامها ممن جعلوا من أنفسهم وعروشهم نصل السكين الذي يمسك به غزاة الديار من الصليبين واليهود والفرس لنحر أمة الإسلام..
ونظراً للطلبات الكثيرة التي وصلتني على أيميلي الشخصي، أو من خلال تعليقات بعض القراء على مذكرات أبو حفص العراقي، شهيد الجهاد في بلاد الرافدين، والتي أقوم بنشرها على لسانه، بناء على وصيته، قررت ونزولاً عند رغبة القراء زيادة عدد صفحات النشر في كل حلقة، سائلاً المولى القدير أن ينصر عباده المجاهدين من أنصار ومهاجرين، أينما حلوا وأينما نزلوا في سعيهم لإعلاء راية الدين ونشر عقيدة التوحيد، هؤلاء الذين يمثلون صحوة إيمانية لا يمكن لسكين ونصل أن توأدها.
وإليكم تفاصيل الحلقة الثالثة من مذكرات المجاهد أبو حفص العراقي الذي يواصل سرد مذكراته وهو يستعرض بدايات العمل الجهادي في أعقاب الاحتلال الأميركي للعراق قائلاً:
وصلت إلى المعسكر ولم أكن لأصدق ما أنا فيه من خير عظيم، احتويت فرحتي ودهشتي، وقمت مع بقية الإخوة بتفريغ السيارة من الفُرش والسلاح، وأثناء ذلك كان اللقاء حميماً جداً بين أبي يزيد وأبي رغد العتيبي، فقد بقي أبو رغد واقفاً في مكانه وقد تقدم إليه أبو محمد الكربولي مسلّماً عليه ووقف معه للحظات، وعند ذلك كان أحد الإخوة يحمل سلاحه، واقفا هنا تارة، وهناك تارة ُأخرى، فلما رأى السلاح الذي جلبناه معنا فرِح فرحاً شديداً، مع انه أصلاً كان مرحاً طيلة الوقت، أما أنا فقد كنت أكملت إنزال الأغراض، بما فيها أغراضي الشخصية، وقد وضع أبو يزيد فراشه في المسجد وناداني لأضع فراشي قريبا منه، وفعلت ذلك، لكن لم يطب لي الجلوس أساساً فضلا عن النوم.
عندها ناداني أبو محمد الكربولي وكان لم يزل واقفا مع أبي رغد فلما وقفت عندهم سلمت على أبي رغد وقال لي أبو حنظلة(هذا أبو رغد هو أمير المعسكر هنا)، ثم قال لأبي رغد عليك بفلان، فأنه قد أوجع راسي وهو يتكلم عن الذهاب لأفغانستان، فقال أبو رغد (هذه أفغانستان قد جاءت إلى هنا)، وكان الأمر كما قال فعلا.. عندها انصرفت إلى فراشي، ولكن لم يجد النوم لعيني سبيلاً، فبقيت أتقلب يمنة ويسرة، انظر إلى ما حولي عبر الظلام الدامس، وكان يرقد بجواري أحد الإخوة، طويل الشعر، وكانت بجانبه بندقية (RBk)، إلا أن أبا رغد لم يخلد إلى النوم، فقد كان أبو همام الأردني قد فوت عليه فرصة النوم، لكثرة كلامه ومزاحه معه، بالرغم من أن عينّي أبا رغد كانت تطلقان التوسلات، إلا أن الأمر كان يحلو لأبي همام للحديث معه، عندها ترك أبو رغد فكرة النوم، لأنه لا جدوى من ذلك بوجود أبي همام، فأخذ يتجول في المركز تعينه على ذلك طرفه الاصطناعية، وعندما رأى ذلك الأخ الذي كان يرقد إلى يساري وقد أهمل سلاحه ما دعا أبا رغد لسحب البندقية، وكانت هذه الطريقة التي يُعلّم الإخوة فيها الحرص وعدم الغفلة عن السلاح، فكان يتصيد أسلحة الإخوة الذين يهملون أسلحتهم أو يغفلون عنها، وبعد قليل قال أبو رغد لأبي همام ألم تنته حراستك فقال له أنها ستنتهي بعد قليل، ولكني أحب أن أواصل الحراسة، فلما سأله عن الذي يليه في الحراسة فأخبره بأنه أبو مجاهد الشمري، عندها قال أبو رغد (الأجر يا أبا همام أن لا تحرم أخاك من أجر الحراسة، وإذا كنت طامعاً في الأجر، فأيقظه وأحرس معه)، وبعد قليل تقدم أبو همام من ذلك الأخ الذي بجانبي وأيقظه للحراسة فلما ذهب أبو همام أنتفض الأخ وقد افتقد سلاحه فلاحظ بأني لا زلت مستيقظاً فسألني عن سلاحه وهو مستغرب لفقدانه ولوجودي في هذا المكان، فقد نام ولست معهم، عندها أجبته بأن أبا رغد قد سحب سلاحك فأضطر أبو مجاهد الشمري أن يحرس ليلاً من دون سلاح، أما أنا فلم أزل أجول ببصري في المكان وأنا انظر إلى سقف المسجد تارة، والى الإخوة الراقدين حولي تارة أخرى، متعجباً من حالهم فما الذي دفع هؤلاء للعزوف عن الدنيا واللجوء إلى بقعة مظلمة في عرض الصحراء، مع ما يلاقونه من تعب ونصب، وهم رغم ذلك في قمة السعادة، فالسعادة والتعب يتقاسمان قسمات وجوههم.. وعلى هذا مرت اللحظات، حتى بدأ الإخوة يوقظ بعضهم بعضاً، فقد حان آذان الفجر، فبدأو بالنهوض من فرشهم واحداً تلو الأخر، وأنا أُمعن فيهم النظر، وكل علامات الاستفهام تدور في خلدي!
نهضت أنا معهم، ونزلت إلى النهر، فتوضأت وعدت إلى المسجد، عندها رفع أبو عاصم اليمني آذان الفجر بصوته العذب، وبعد أن أتممنا صلاة سنة الفجر، أقيمت الصلاة، وصُفّت الصفوف، فسمعت صوت أبي رغد يقول لأحد الإخوة(تقدم يا أبا كنعان)، فتقدم الأخ أبو كنعان اليمني وتخلل الصفوف وتأكد من تسويتها، مستعينا بمصباح صغير، ثم تقدم إلى موضع الإمام، فكبر تكبيرة الإحرام، فصلى بنا، وكان يبدو من قراءته انه متقن لقراءة القران.. وبعد إتمام الصلاة وما تخللها من نشيج وعبرات للإخوة، جلسنا يلفنا الظلام لذكر أذكار الصباح، بعدها بدأ الصبح يتنفس، فتحلق الإخوة بضع حلقات لقراءة ما حفظوه من سورة الأنفال، فقد كان هناك برنامجا إيمانياً موازياً للبرنامج التدريبي، فجلست أنا في أقرب هذه الحلقات إليّ مع دهشتي، وتقلبَ بصري في وجوه الإخوة وقد بدأ ضوء الصباح يكشف عن بعض قسماتها، فسبحان خالق هذه الوجوه كم فيها من نور الإيمان ومن وقار وطمأنينة!
عندها بدأ الإخوة بالتلاوة، وقد كان يدير حلقتنا أحد الإخوة أسمر البشرة، ضعيف البنية، لا يكاد بصري ينزل عن وجهه، صوته هادئاً، مطمئناً جداً، وكان أسمه أبو دجانة اليمني، وبالرغم من انه من اليمن إلا انه كان يسكن في بلاد الحرمين، وكان يبدو عليه الوقار ولم اسمع في حياتي على الإطلاق أجمل من صوته بقراءة القرآن، دون مبالغة، فكان صوته من أعجب العجب، وكان كذلك من حفظة كتاب الله، مضافا إليه بعض كتب الحديث كبلوغ المرام وغيره.
فبدأ الإخوة بتلاوة ما كان عليهم حفظه من سورة الأنفال، وكان أبو دجانة يستوقفهم عند الأخطاء، سواءً في الحفظ أو أحكام التلاوة، وأجمل شيء كانت أصوات الإخوة الخافتة مع بداية شروق الشمس وهي تعلو مع علو أصواتهم التي كانت كطنين النحل.
بعد انقضاء حلقة التحفيظ نهض الإخوة استعداداً للتدريب، ولم تتجاوز قدماي حدود المسجد، والتي هي عبارة عن أحجار مرصوفة، وكانت أنظاري تتلاقى مع نظرات الإخوة، وما وقع بصر احدهم عليّ إلا والبسمة على محياه، فرحاً بالضيف الجديد، وهم يرون (الأنصار) لا يقلون عنهم في حِمل همّ الدين والعمل على إعلاء كلمة الله، باذلين الروح والدم رخيصة في سبيل الله, وكل منهم يصافح يدي ويضمني إلى صدره وكان مشهداً مليئاً بالمشاعر مفعماً بالأحاسيس وما يكحل هذا المشهد هو جو المسجد مع الصبح إذ تنفس، عندها عمت صيحات أبي رغد ( إجمع إجمع )، وفي لمح البصر كان الإخوة قد اصطفوا صفين متوازيين خارج المسجد، كنت قد تقدمت أحدهما، وكان أحد الإخوة يتقدم الصف الآخر وهو أبو عمر النجدي، وبالطبع كان الإخوة الأنصار الذين قدموا معي ليلاً من ضمن هذين الصفين، عندها تقدم أبو رغد ووقف مقبلاً بوجهه إلينا، عاصب الرأس، يتعكز على ساقه الاصطناعية، فبدأ يوجه كلامه إلينا كأنه أسد يزأر غضباً وحنقاً على أعداء الله، فبدأ يُذكّرنا بحرمات المسلمين وأعراضهم، التي اغتصبها أرذل خلق الله وهم الأمريكان، وهم يسرحون ويمرحون في بلادنا، يعيثون في الأرض الفساد، وكان كلامه يلامس قلوبنا، كأنه سهام تشق الصدور، لتستقر في شغاف قلوبنا، والدمع ينهمر من الأعين، وكان يتفجر غضباً وهو يتكلم معنا بهذه الكلمات وقد أحمرت عيناه وهما مملوءتان بالدمع، وصوته يكاد يتقطع من شدة الحزن، فكان يفرغ ما في قلبه من الحزن والأسى، ويُحرّض الإخوة بكلامه محفزاً إياهم على بذل الجهد الجهيد في إعداد العدة وتهيئة النفوس لبذلها وارخاصها في سبيل الله تنكيلا بأعدائه، ثم ذكّرنا بكلمات الشيخ المجاهد عبد الله عزام رحمه الله والتي يقول فيها (أن الدعوات تحسب دائما في حسابها، أن الجيل الأول الذين يبلغون أولئك الدعوات يُكبّر عليهم أربعاً في عداد الشهداء)، ثم قال لنا بعد ذلك كلمة لم يتجاوز معناها واقعنا فيما بعد، فقال مشيراً إلينا(أنتم جيل الدم) الذين ستبادون كلكم لتحيا بدمائكم أجيالاً من الشباب يجاهدون في سبيل الله.
وكأن الله عز وجل قد أنار بصيرته لما سيكون لنا، فقد كان الأمر كذلك، فلم يعش الإخوة طويلاً ليخوضوا غمار المعارك، بل أنهم انتقلوا إلى دار قرارهم بعرس واحد، وفي ليلة واحدة، ما خلا بعضهم، ممن لم يصبروا بعد إخوانهم طويلاً، ولكنهم فعلاً بدمائهم قد أحيا الله أجيالاً من الشباب قد انتبهوا بعد طول غفلة، ولا يزال الأمر تِباعاً كراية يوم مؤتة، لا يكاد حاملها يسقط شهيداً حتى يبادرها التالي، يرفعها فيغيض بها الكفار، حتى فتح الله على المسلمين.
أوكل أبو رغد الأمر إلى أبي يونس اليمني ليبدأ معنا بالتدريب البدني كالمعتاد، فقال لنا أبو يونس اصطفوا صفاً واحداً مشيراً بذلك أليّ لأتقدم بالصف الذي من خلفي حتى يكون الصف الثاني هو الشطر الآخر من صف طويل، ثم تقدمني أبو يونس وبدأ بالهرولة فتبعته ومن خلفي جميع الإخوة فأبعد بنا أبو يونس، فحيناً ينزل بنا وادياً، وحيناً يصعد بنا مرتفعاً من الأرض، وأحياناً أخرى يهرول بنا في طرق وعرة، وقد بلغت بي المشقة مبلغاً ولكني كنت انظر أمامي إلى أبي يونس وهو بكامل اللياقة لا يأبه بطول المسير والدرب العسير.
وأجمل شيء كان نقلات أقدامه بكل خفة، والأجمل من ذلك هو انه كلما رأى حجراً في طريق الإخوة كان يركله بقدمه بحركة جميلة دون أن يؤثر ذلك على سيره، فعرفت من هذه الحركة انه قائد بمعنى الكلمة، وان له باع طويل في الجهاد، وذلك لأنه قوي البنية، رشيق الحركة، لا يجد التعب إليه طريقاً، وهو يتقدم أخوانه وانه يعرف ما يؤذي أصحابه ويعيق سيرهم فيحرص على إزالته سواء كان حجراً أو حاجزاً معنوياً كل ذلك استنتجته من حركته البسيطة تلك ولم يكن تخميني يبعد عن الواقع قيد أنملة على الإطلاق.. الوقت كان يمضي بنا قُدما ونحن نمضي كذلك نهرول متسابقين مع الزمن في محاولة لإدراك ما فات الأمة من عصور السيادة والريادة مصممين على إحدى الحُسنيين إن شاء الله وخلال هذه الهرولة كان بعض الإخوة قد تساقطوا من هذا الصف ليعودوا يجرون بخطاهم إلى المركز وعندما كان أبو يونس يشعر بتعب الإخوة يوقف المسير ولكن ليس للراحة بل للنزول عشر ضغطات وعلى هذا الحال مرت بنا ساعة من الزمن أو أقل بقليل ثم عاد بنا أبو يونس إلى المركز، وعندما اقتربنا منه توقف الصف الطويل فتقدم أبو عبيدة الأردني ليقف أمامنا فبدأ يعطينا بعض تمارين اللياقة البدنية وبعدها دخلنا متهالكين تحت ظل المسجد حيث كان أبو رغد جالساً طيلة الفترة مع من لم يتمكن من مواصلة التمرين وبعد أن جلسنا وقد اخذ منا التعب مأخذاً كان الإخوة يجلسون مثنى وثلاث ورباع يخوضون في مواضيع شتى وكنت قد جلست في نهاية المسجد وبالقرب مني احد الإخوة يطيل الصمت ويجلس بمعزل عن الإخوة بينما كان أبو رغد يجلس مع أبي بلال الكربولي وغيره من الأنصار الجدد وفي تلك الأثناء كان أبو القعقاع الأردني منشغلاً بإعداد الفطور وقد طرأت عليه بعض الزيادات فأعد قِدراً من الحليب وبعدها قام بتوزيع قدح من الحليب وربع رغيف من الخبز لكل أخٍ أما التمر فقد أستزاد أبا رغد الإخوة، فأشار أحد الإخوة لأبي رغد وقال له السنة يا أبا رغد، قاصداً بذلك أن يجعلها سبع تمرات، فوافق أبو رغد على ذلك وقد أخذ كل من الإخوة خبزه وتمراته ومنتظراً دوره ليفرغ احد الأكواب ليشرب الحليب، فقد كان الإخوة يتناوبون على الأكواب لقلتها.
وأتممنا الفطور فانصرف الإخوة كل لشأنه فبعضهم ارتأى أن يخلد إلى النوم مستغلا فترة الراحة قبل صلاة الظهر، وبعضهم لا يمل من الحديث مع إخوانه، والبعض تسمع صوته خافتا بالقرآن أو تجده راكعا ساجداً، أما أنا فلم أكن قد مللت التحديق في وجوه الإخوة بعد، فأتنقّل ببصري من أبي محجن النجدي إلى أبي سليمان النجدي ثم إلى أبي مجاهد الشمري وأبو خطاب الشمري وبقية الإخوة، ثم جلست في السيارة مع الإخوة الجدد نستمع إلى بعض الأناشيد فما تمالك أحد منا دموعه.
وعندها كان أبو محمد الكربولي قد نزل ليسبح في نهر الفرات فنزلت معه إلى النهر وبعد آذان الظهر عدنا إلى المسجد فصلينا الظهر ثم أستقل أبو محمد سيارته ليعود إلى عمله في جمع السلاح فطلب مني مرافقته إلى احد مخازن الجيش العراقي السابق، فذهبت معه بعد استئذان أبي رغد وتوجهنا إلى ذلك المخزن الكبير.
وبعد ساعات من السير صرنا على أطراف المخزن وهو ذو مساحة واسعة وعندما لاحت لنا بعض المدرعات الأمريكية، فوجئنا بوجودها في المخازن، فحاولنا الدخول من زاوية أخرى فلم نوفق في ذلك، ولم يبق لنا سوى خيار العودة، وقد أدركنا غروب الشمس، فانعطفنا شمالاً إلى مدينة القائم ولم نصل هناك حتى وقت متأخر فبتنا ليلتنا هناك، فانقضى بذلك أول يوم لي في معسكر راوة مع تلك النواة الطيبة المباركة من مجاهدي ارض الرافدين، لتتوالى بعد ذلك أيام أُخر تحمل في طياتها أفراح، وجِراح!

في اليوم التالي وبعد ان صلينا الفجر توجهت مع أبي حنظلة إلى احد المقرات العسكرية التي أنهكها القصف الأمريكي في مدينة القائم في محاولة لإيجاد ما قد ينفع الإخوة في المعسكر، فالتقطنا من هناك بعض الأشياء البسيطة ثم عدنا بها إلى المعسكر، وقد كنت هذه المرة أركز جيداً على الطريق حتى وصلنا إلى مشارف مدينة راوة، فعرجنا عليها ثم عبرنا الجسر متوجهين إلى قلب المدينة ولم أكن قد دخلت مدينة راوة قبل أمر المعسكر فكان كما قال عليه الصلاة والسلام (سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله)، وبعد ذلك بدأنا المسير في طريق صحراوي متعرج وأنا اُطالع الطريق وأحفظ علاماته حتى بدا لنا المعسكر من بعيد ثم اقتربنا منه أكثر فأكثر إلى ان وقفت السيارة بقرب المسجد فنزلت مرة أخرى إلى ارض المعسكر وكنت قد ألِفت بعض الوجوه فلم تكن دهشتي كأول مرة إلا ان الشوق كان أجهدني وأنا انتظر العودة مرة أخرى إلى ارض المعسكر.
وبعد أن دخلت المسجد وسلمت على الإخوة الذين كانوا فرحين بعودتي إليهم كفرحتي بذلك، قمنا بإنزال الأغراض التي قمنا بجلبها معنا في السيارة.
وقد بقيت واقفا ولم اجلس أقف هنا وهنا اُطالع الوجوه والمكان وكانت عيني عطشى لهذه المشاهد وأجمل ما في الإخوة هو شدة محبتهم وتآلفهم مع بعضهم البعض مع كثرتهم واختلاف ألسنتهم وألوانهم فبالرغم من ان إخوّة الدين تفوق كل الروابط وتكسر كل الحواجز إلا أن الأمر كان مختلفا كمّاً ونوعاً عند الإخوة عن غيرهم من المجاهدين كما رأت عيني ذلك فللأخوّة هناك شعور آخر!
بقيت أجول في المكان ببصري وجسدي فدخلت غرفة أبي رغد العتيبي فرأيت فيها ثلاثة من الإخوة كان قد أقعدهم المرض وهم ( أبو العباس المالكي وأبو عبد الله العتيبي وأبو حفص النجدي) وقد كان أبو العباس من اقرب المقربين لأبي رغد فقد كان رفيق سفره من ديارهم إلى ان وصلوا أرض المعسكر، ويمتاز بشخصية قوية ورجاحة رأي وشخصيته القيادية، فضلا عن طيب معشره، وحسن خلقه وكان أفضل من رأيت وسمعت بتأويل الرؤى، فكان تعبيره لا يكاد يخطئ إلا ما شاء الله.
بعدها دخلت إلى الغرفة الأخرى فوجدت أحد الأخوة طويل القامة بهي الطلعة باسم الثغر كان من أعجب الإخوة، وهو أبو صهيب النجدي، الذي جلس وثغره لا يمل الابتسامة في وجوه الإخوة مُنسِياً إياهم بذلك ما بهم من ألم أو غيره من كدر الحياة وضنكها، بعدها انصرفنا لصلاة الظهر ومن بعدها رقد الإخوة بعد عناء التدريب وبقية الأعمال.
وكان أجمل شيء هو مداومة الإخوة على الحراسة فقد اختار أبو رغد موقعاً على أحد التلال المشرفة على المعسكر وكذلك على الطريق المؤدية إليه بحيث يتبين للأخ المرابط أي حركة في تلك المناطق الشاسعة، وكان كل أخ يرابط في ذلك المكان ساعة من الزمن، يحصدون فيها ما الله به عليم من الأجور، ويجدون في حر الشمس السعادة المفقودة، والتي حَرمَ كثير من الناس أنفسهم منها جهلاً، وظناً منهم أنهم كسبوا بالقعود راحة أنفسهم وأبدانهم، فما أجملها من حياةٍ تلك التي تحررت فيها النفوس من مظاهر الركون إلى حطام الدنيا أو أيٍ من مظاهر الطغيان على شريعة الرحمن.
وفي اليوم التالي، وبعد ان أكملنا وجبة الفطور أمرنا أبو رغد بالتوجه إلى تلك التلال المُطلّة على المعسكر وحفر الخنادق على قممها لغرض التحصين أثناء الحراسة أو في حالة تعرضنا لهجوم لتكون بذلك خط الدفاع الأول وقد تقدمنا أبو يونس اليمني بخطاه وخبرته ليُعَيّن لنا مواقع الخنادق على تلك القمم المتواضعة لتكون لهم طريقا إلى القمم العليا التي يرجونها عند ربهم عز وجل، فأنقسم الإخوة عدة مجاميع وتقاسموا عُدّة الحفر إذا لم تكن تكفي كل الإخوة فذهبتُ أنا مع أبي دجانة اليمني وأبو عاصم اليمني وأبو انس العتيبي وبدأنا بحفر الخندق حتى شارفنا على نهايته وأجمل شيء هو اللذة والسعادة التي تمازج التعب فكان مشهداً عجيبا من تفاني الإخوة في عملهم والألفة والمحبة في الله تغمرهم فلا يكون بذلك للتعب تأثيراً عليهم.
كان أبو رغد كباقي الإخوة لا يكاد يصدق بأنه عاد ثانية إلى أرض الجهاد، وبالطبع فأن الأمر يزيد عنده قليلاً، خاصة وأنه قد عرف طعم العز قبل ذلك عندما كان في أفغانستان فكان يصول ويجول هناك وقد ألقى الدنيا وراء ظهره حتى قُطعت ساقه اليسرى هناك، فأكمل العلاج، وأبى إلا أن يخرج إلى أرض الجهاد في العراق، فهو لم يرض بحطام الدنيا ولم يألف العيش بين أهله وأصحابه، فكان له نشاط مشهود في تحريض الشباب وطلبة العلم حتى أصبح مُطارداً في الفترة الأخيرة، وشاع أمره، وذاع صيته..
كنا نتحادث في أمور الجهاد، وأستمر بنا الحديث طويلاً، تكلمنا فيها عن مواضيع شتى، بما فيها مسألة العراقيين والعرب، إلا أن أبا رغد لم تكن تطيب له هذه التسميات، فقال (انتم أيها العراقيون الأنصار ونحن المهاجرين).
بعدها عاد الكل إلى المركز حين اقترب وقت صلاة الظهر والفرحة والغبطة تنضح من الوجوه مع قطرات العرق فرفع أبو عاصم اليمني آذان الظهر، فصُفت الصفوف للقاء الرب الرؤوف، وبعد صلاة الظهر جلس الإخوة لوجبة الغداء ليأكلوا بعض التمرات مع كِسر الخبز، بعدها جلسنا لا يطيب لنا النوم، بالرغم من شدة التعب، مستأنسين بالحديث مع بعضنا، وكان أبا حكيم اليمني يملأ فراغنا بما تجود به قريحته من دروس فهو وبعد الصلوات يقوم بإلقاء درس يتعلق بأحكام الجهاد فكان رحمه الله مفوهاً قلّما رأيت أحداً من طلبة العلم بعلمه.
بعد صلاة العصر عدنا إلى عملنا في حفر الخنادق لإكمال كافة الخنادق الدفاعية المحيطة بالمعسكر، واستمر الحفر لساعات، والإخوة منتشرين هنا وهناك، يجهدون أنفسهم بالعمل، ويجدون في ذلك راحة لأنفسهم، خاصة وأنهم تشدهم بذلك محبتهم وتآلفهم، فكانوا بحق كما قال الله تعالى (ان الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص).
أما أكثر وأجمل ما كان يشدني في تلك الأيام هو تواصي الإخوة فيما بينهم بعمل الصالحات واحتساب الأجور، فكان جو المعسكر مليئاً بالإيمانيات والروحانيات وكأنك في عالم آخر.
وقد خصص أبو رغد فترةً للسباحة من الساعة الحادية عشر إلى الساعة الواحدة ظهراً فلا يكون لأحد السباحة قبل ذلك أو بعده، وكان بعضهم يفضل الجلوس بظهر المسجد وفي ظل الحائط على ضفاف نهر الفرات المرتفعة من تلك الجهة، فتهب عليهم النسائم لتداعب وجوههم ونفوسهم، يتقلبون بذلك بنعم الله التي أنعمها عليهم، وأهمها خدمة الدين والإخوة والمحبة في الله.
وبالرغم من أن اليوم طويل وشاق، إلا أن مشهد المسجد يبقى حيوياً بالليل والنهار، فلا يخلو من راكع وساجد، ولا تخلو المسامع من النشيج والبكاء والدعاء، ولم تكن صلاة الإخوة تخلو من دعاء القنوت، تضرعا لله عز وجل، يسألونه سبحانه، إثخاناً بأعدائه، وتنكيلاً بهم، والشهادة في سبيله أغلى أمانيهم، فالحور والجنان كانت تملأ ذكرها كل فراغهم، وكانوا يوغلون في وصفهما والتشويق إليهما، وعلى هذه الشاكلة كانت تسير الأيام الأوائل في المعسكر.
في هذه الأثناء كان الأخ أبو أسامة الزهراني قد غادر الإخوة لقضاء بعض الأمور المهمة والعودة سريعاً إلى المعسكر فقد كان اسم أبو أسامة الزهراني لا يغيب عن دعاء القنوت في كل الصلوات متشوقين لرؤيته بينهم مرة ثانية.
وبعد أن اكتملت الخنادق الدفاعية بدأ أبو العباس المالكي وأبو حفص النجدي يتماثلون للشفاء ليعودوا لمكانهم بين إخوتهم فأن لأبي العباس مكانة خاصة لدى الإخوة.
ونظراً لازدياد عدد الإخوة وضيق المكان كان أبو رغد رحمه الله يريد أن يجد حلاً لينظم العمل أكثر من ذلك, فالإخوة منضبطين إلا أن الظروف كانت غير ملائمة، لذلك كان لا بد لهم من التقسيم إلى مجاميع، مما يحتم عليهم الانتشار في أرجاء المعسكر، ولهذا تم تقسيم الإخوة إلى ثلاث مجاميع، فكانت المجموعة الأولى بإمرة أبو يونس اليمني، والمجموعة الثانية بإمرة أبو عكاشة اليمني رفقاء الدرب من اليمن إلى أفغانستان ثم إلى العراق، أما المجموعة الثالثة فكانت بإمرة أبو أسامة الزهراني، ولأنه كان غائباً فقد نابه أبو الزبير التبوكي لحين عودته، وكانت أعدادهم تتراوح قرابة الاثني عشر أخاً لكل مجموعة، عدا الأمير، وبالطبع عدا أبو القعقاع الأردني، لأنه كان جل وقته في خدمة الإخوة في الطبخ وغيره.
وفي هذه الظروف لم يكن لنا بدٌ من التخندق في الأرض، فما كان أمامنا إلاّ حفر خندق كبير لكل مجموعة، فبدأت معنا مرحلة جديدة من العمل الشاق، وبدأ العمل من جديد فقام الإخوة في مجموعة أبو أسامة الزهراني بحفر خندق كبير جداً في بداية المعسكر قرب المسجد يتراوح حجمه بين الأربعة أمتار طولاً، والثلاثة عرضاً وبارتفاع متر وعشرين سنتمتراً، فكان كل وقتهم مسخر لحفر الخندق الكبير، فلا ينصرفون عنه إلاّ لصلاة أو لشيء من منهاج المعسكر اليومي، وبالطبع كان التدريب متواصلاً يومياً لم يتأثر بكثرة العمل.
أما سقف الخندق فقد رصف ببعض العوارض الخشبية، ووُضعت عليها صفائح الألمنيوم، ثم غُطيت بالتراب، فكان الخندق مموهاً تمويهاً جيداً، فلا يكاد يعرفه أحد إلاّ إذا اقترب من فتحته الصغيرة، وكذلك الحال بالنسبة لمجموعتنا، مجموعة أبي عكاشة، فقد قمنا بحفر خندقين، أحدهما بطول خمسة أمتار، وعرض مترين، والآخر بطول وعرض ثلاثة أمتار، وقد استمرت عملية الحفر لوقت طويل وبشكل متواصل في حر الشمس الملتهبة، دون كلل أو ملل، بتكاتف قل نظيره في غير هذا المكان.
أما مجموعة أبو يونس اليمني فقد قاموا بنصب خيمة في مكان وسط، بين مجموعة أبو أسامة ومجموعة أبي عكاشة، وبالطبع لم تكن أماكنهم متقاربة أو مرئية للناظر، فالمكان واسع والصحراء كلها أمامنا، والمنطقة وعرة، فنستغل الأودية للاستقرار فيها، أو للتنقل بين جنباتها لتحاشي صيادي السمك الذين يجوبون النهر ذهاباً وإياباً يسعون لرزقهم الذي كتبه اللهُ لهم، فكانوا يلاحظون وجود أُناس في هذا المكان، ولم يعرفوا بعد حقيقة أمرنا، ومن نحن، إلا أنه وبشكل عام كان أمراً غريباً بالنسبة إليهم..
في تلك الأثناء جاءنا الخبر بقدوم أبي أسامة الزهراني، فأستبشر الإخوة لذلك، وأخذ يبشر بعضهم بعضاً، وعلمنا بأن أبي أسامة سيكون في المعسكر عند غروب الشمس، وأنهم عند أبي نسيم، وقد جاء معهم ثمانية من الإخوة الجدد، فكانت فرحة الإخوان لا توصف لمجيء أبي أسامة الزهراني، وعند العصر أقبلت من بعيد سيارة نحو المعسكر، ولما اقتربت عرف الإخوة أن أبا أسامة الزهراني هو من في السيارة برفقة شخص، فأمتشق الإخوة سلاحهم ورُميت بعض الاطلاقات فرحاً بأبي أسامة، فأستقبله الإخوة استقبالاً حاراً لا يوصف، وأحتضنهم واحداً تلو الآخر، فكان من أعجب الإخوة وبالرغم من أنه بلغ الأربعين عاماً، إلا أنه في قمة النشاط، وعلو الهمة، وكان طليق الوجه، لا يعرف اليأس أو الخمول إليه سبيلاً، وعند انتهاء اللقاء الحميم، أمر أبو أسامة كل من أطلق ببندقيته أن يضغط عشرة ضغطات، كعقوبة لطيفة، وكان قد أحضر معه بعض الطلبات التي طلبها منه الإخوة في سفره، فبدأ يوزع الأغراض وغيرها ما أدخل الفرحة إلى قلوب الإخوة، وجلب معه بعض الملابس، والأحذية الرياضية للإخوة، فقام بتوزيعها أبو وقاص الفلوجي، وقد لاحظنا عدم مجيء الإخوة الستة معه، فأخبرنا بقدومهم بعد غروب الشمس.
قرر أبو رغد أن يستقبلهم استقبالاً مميزاً، فأمر أن نكون خلف ساتر مرتفع في بداية المعسكر، وقد امتشق كل منا سلاحه ووقف خلف ذلك الساتر، وكنا بانتظار الإخوة حتى إذا ما أصبحت السيارة تحت الساتر من الجهة الأخرى نُظهر أنفسنا ونبدأ بإطلاق النار في الهواء فوق السيارة، وكان عددنا ستة منهم أبو بكر النجدي، وأبو صقر اليمني، وغيرهم، وقد أمرنا أبو أسامة الزهراني بالبقاء في أماكننا لحين قدوم الإخوة.
ثم جاءنا أبو دجانة اليمني يوزع علينا أعواد الأراك، التي احضرها أبو أسامة، فكان يدور على الإخوة ليكسب ذلك الأجر، وكانت تلك المساويك قد أدخلت الفرحة إلى قلوب الإخوة لأن من أهم المهمات في الجهاد الاهتمام بالأفراد، وكسب ثقتهم، وإشعارهم بأن هناك من يهتم بهم، وأن لذلك الأثر الأكبر في السيطرة على كل صغيرة وكبيرة في الجماعة، وما لذلك من تسيير الأمور على الشكل المطلوب.
وعندما بدأ قرص الشمس بالاختفاء خلف المرتفعات البعيدة بدأت سيارة (الدانيا) تلوح في الطريق، وما هي إلاّ بضع دقائق حتى أصبحت في أحضان المعسكر عند الساتر، عندها ارتقينا الساتر، وبدأنا بإطلاق النار فرحاً، فمرت السيارة بقربنا والإخوة يرفعون برؤوسهم ويحدقون بأبصارهم، لا يدرون ما الذي يحدث حولهم، فما أن تجاوزنا حتى رأوا بقية الإخوة يصطفون صفين مرت خلالهما السيارة، ثم توقفت قرب المسجد، ليجتمع حولها الإخوة مرحبين بالإخوة الجدد فنزلوا من السيارة وبدأ الإخوة يحتضنوهم ويسلمون عليهم واحداً واحداً، وكان من بين هؤلاء الثمانية أبو محمد اللبناني، فقد كانت هذه هي أول دخوله لأرض الرافدين، وأُولى محطاته كانت في ذلك المعسكر، ليبدأ بعدها رحلة طويلة، خدم فيها دين الله عز وجل، وقدم له ما لم يقدم غيره من الإخوة على كثرتهم وخبرتهم، فقد فتح الله على يد هذا المجاهد، وألهمه الرشد والصواب، نحسبه والله حسيبه، وكان من بين الإخوة أيضاً أبو تمام اليمني، أحد اسود معسكر الفاروق في أفغانستان، وأبو الدرداء اللبناني وأبو شهيد الجزائري، وهو فرنسي الجنسية وأبو الفتح السوري وأبو مصطفى السوري وأبو طارق اليمني، الذي كان يسكن في الجزيرة العربية، وأبو مالك الطائفي، فسلمنا عليهم وعُدنا بهم إلى المسجد، وأجتمع الإخوة دون أن يكون هناك فيهم غائب، فجلسنا والفرحة تملأ علينا المكان بعد أن قُرت العيون برؤية الأصحاب.

وبعد كلمة ألقاها أبو رغد، ثم تلاه أبو يونس مرحبين بالقادمين الجدد، بدأ أبو أسامة بتقسيم الإخوة، وتوزيعهم على المجاميع، فأختار أبو عكاشة أبو طارق اليمني وأبو مالك الطائفي، ثم اختار أبو يونس أبو طارق اليمني كذلك، فقال له أبو أسامة (سبقك بها عكاشة)، فضحكنا لقولته تلك، فأختار أبو يونس أبو الفتح السوري وأبو تمام اليمني وأبو الدرداء اللبناني، فكان بذلك أبا محمد اللبناني وأبو شهيد الجزائري وأبو مصطفى السوري في مجموعة أبي أسامة الزهراني.
أنصرف الكل مع مجموعته الجديدة، ولأول ليلة يبيت الإخوة خارج المسجد، لينتشروا في أرجاء المعسكر، كلٌ عند مكانه الجديد، إلاّ إننا، (أي مجموعة أبي عكاشة)، بتنا ليلتنا في خندق مجموعة أبي أسامة، فأخذ كل من الإخوة فراشه، واتجه نحو الخندق، ولما دخلنا أحضر الإخوة وجبة العشاء، وكانت عبارة عن خبز وتمر، ولأول مرة مفتوح الكمية، إكراماً لإخواننا الجدد!!
أحضر لنا الإخوة كيس تمر ليكون مصدر غذاؤنا مع كيس خبز، وكانت تلك بداية مرحلة جديدة في حياة المعسكر فيها نوع من التنظيم والترتيب، وهو ما زاد الإخوة محبة وتكاتفاً.. وبعد مجيء أبو أسامة الزهراني بدأ هو بتدريب الإخوة تدريباً قاسياً وشديداً، فقد كان عسكرياً من الطراز الأول، وله خبرة واسعة في الأمور العسكرية، أما الموقع الذي كنا نتدرب فيه فكان عبارة عن وادٍ من أودية المكان.
واذكر أننا وفي أول تدريب لأبي أسامة كنا نهرول صعوداً على المرتفعات في تدريب قاسٍ وطويل، وبعد إكمال التدريب نعود لنسير بخط واحد نحو المركز حتى نعود إلى المكان الذي تركنا فيه أسلحتنا وبعض ملابسنا، حيث أن أبا أسامة أمرنا بترك أسلحتنا ونزع أغطية الرؤوس والملابس الزائدة عن السروال الطويل والقميص وبقي أحد الإخوة يحرس عندها.
أبو رغد لا تزال ساقه لا تساعده على كثرة الحركة، ورغم ذلك فهو دؤوب، لا يقر له قرار، ولا يقدر على فراق إخوته طويلاً من الزمان، فساقه لا تزال تؤلمه قليلاً خاصة وأن الجرح لم يكتمل التئامه بعد، ومع ذلك فتراه يجوب الديار بسيارته، ذهاباً وإياباً، سعياً في تأمين النواقص التي هي من ضروريات المعسكر، خاصة بعض الأسلحة التي يكون نقصها مشكلة كبيرة تعيق عمل الإخوة، مثل الحشوات الدافعة لصواريخ الـ(RBG)، فقد كانت لدينا كميات كبيرة منها إلاّ أن أبا عكاشة عندما أراد أن يدرب أبو طارق وأبو مالك لاحظ بأن الصواريخ تخرج بدون مسار ثابت، فهي تذهب يمنة ويسرة، وتصعد وتنزل كما يحلو لها فأكتشف أن الحشوات الدافعة بدون زعانف توجيه، فلم تكن عندنا إلا حشوات لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، وهو ما كان يمثل اكبر مشكلة، فلو أن المعسكر تعرض لهجوم برّي فلن تكون هناك مقاومة قادرة على صد الهجوم.
بقى الإخوة جالسين في المسجد خلال النهار، وأبو محمد اللبناني يتوسطهم، وكأنه لم يعرف من أمور الجهاد شيئاً من شدة تواضعه، وهذا كان حال أبي تمام اليمني هو الآخر، وكان من عادة أبي محمد اللبناني أن يسأل الإخوة أسئلة في الفقه والعقيدة، وكأنه يبحث عن جواب فعلاً، إلاّ انه كان يرمي من وراء ذلك أن يجعل الإخوة يبحثون عن الإجابة، ليستفيدوا من وقتهم، ويعرفوا أمور دينهم، وكان كذلك يشدهم أثناء التدريب بالصيحات والتكبيرات، فتلتهب بذلك نفوس الإخوة حماساً وهمة.
في غمرة فرحتنا بقدوم أبي أسامة ومن معه، وحينما اجتمعنا للتدريب صباحا مع أبي أسامة أخذ الإخوة يطرحون مواضيع ونصائح شتى تخص الإخوة داخل المعسكر، كالتأكيد على تطبيق بعض السنن وغيرها من المواضيع، حينئذ أخبرنا أبو أسامة الزهراني بأنه سيسافر هذا اليوم لإنجاز بعض الأعمال المهمة، فحزن الإخوة لذلك وطلبوا منه تأجيل سفره، حتى أن أبا قسورة السوري دعا الله أن يمرض أبو أسامة الزهراني، كي يبقى عندنا في المعسكر ويؤجل سفره، إلا أن العواطف ما كانت لتقف في طريق مصلحة الجماعة مع شدة حزن أبا أسامة لفراق الإخوة أيضاً.
أنفضّ المجلس، وعاد أبو أسامة ليجلس مع الإخوة في المسجد، وما أن حانت صلاة الظهر حتى بدأ أبو أسامة الزهراني يشعر بصداع، إلى جانب بعض الآلام، التي اشتدت عليه، حتى أنه قال لأبي محمد اللبناني (أصابتني دعوة صاحبك)، يعني أبا قسورة السوري، فقد كان هناك سابق علاقة بين الاثنين، إلا أن أبا أسامة لم يُردِه المرض طريح الفراش أبداً، فمهما بلغ من المرض فهو لا يستطيع أن يجلس في الفراش، ولكن هذه العزيمة لم تمكنه من السفر، فأضطر لتأجيله، وبقى معنا يوماً آخر، إلاّ أنه غادرنا في اليوم التالي، وودعه الإخوة جميعاً.
وبغض النظر عما لهذه النواة من أهمية في إشعال جذوة الجهاد في هذه البلاد في تلك الفترة بالذات، والتي كان الإخوة المهاجرون يحيون أجمل حياة، إلا أنه وبالطبع لم يكن الأمر ليخلو من بعض الشوائب، ولكن هذه الشوائب والسلبيات لم تكن داخل المعسكر أو بشيء يخص أوضاع الإخوة وأمورهم على الإطلاق، بل لأمور تنظيمية..
ذهبتْ كل مجموعة إلى مقرها، عدا مجموعة أبو أسامة، لأن مقرها انتقل إلى مكان بعيد جداً، ونصبوا خيمة يجلسون فيها، لذا لم يكن بمقدورهم الذهاب والإياب إلاّ بالسيارة، فكانوا يأتون صباحاً للتدريب، ثم يعودون ظهراً لمكانهم، ويأتون عصراً إلى المسجد.
في هذه الفترة كان الإخوة قد اجتازوا مرحلة التدريب البدني والتدريب على كافة الأسلحة، فكان لا بد لهم من البدء بالعمليات العسكرية، فالعدو يصول ويجول في البلاد، والإخوة على أتمّ الاستعداد، فهذا الذي من أجله تركوا الديار والأهل والأصحاب، غير أن الأمور لم تجر بما تشتهي النفس، فقد كان هناك تقصير شديد في مسألة السلاح، إذ أن صواريخ الـ(RBG) كانت قرابة ثلاث آلاف صاروخ، إلاّ أن ألفان من الحشوات الدافعة تبين أنها كانت غير صالحة، وكانت هي كل رصيدنا من الحشوات، ماخلا بعضها التي لا تتجاوز العشرة.
أثناء ذلك كان الحال في المعسكر مستقراً نوعاً ما، فلا يعكر صفوه سوى غياب أبي أسامة الزهراني، وتأخر البدء بالعمليات، وذات يوم جاء أبو أحمد وهو شقيق أبو نسيم يقود شاحنة للإخوة، كانت محملة بأنواع مختلفة من الأسلحة كان قد جمعها الشيخ (عمر حديد) في الفلوجة وأرسلها للإخوة، وبالرغم من أنها كانت من حيث النوعية والكمية لا بأس بها، إلاّ أنها لم تُعِنّا على البدء بالقتال فحشوات الـ( RBG) كانت السلاح الأهم المفقود، وبدونه لا نستطيع الخروج لأي عملية.
وكان أبو رغد لا يتحرك من مكان لآخر إلا وأخذ معه كامل عدة القتال، وكان يرافقه بعض الإخوة على أهبة الاستعداد للمواجهة، وفي فترة من الفترات بلغ الجوع من الإخوة مبلغاً، فبدأ أبو رغد يذهب إلى مدينة راوة، ويقوم بتأمين احتياجات المعسكر بنفسه، مستعيناً بأحد الإخوة الأنصار من أهالي راوة كان هو المُعين الوحيد لنا، و لم يكن لنا اتصال بسواه من أهل المدينة.. وأذكر أنه ذهب يوماً إلى راوة وعاد وسيارته محملة بالعديد من المواد الغذائية والأمور التي يحتاجها الإخوة، ولم يقتصر الأمر على ذلك فقد بدأ يعمل على توفير السلاح المطلوب، وغيرها من أساسيات العمل، فبدأ يوسع علاقاته مع الثقات من الإخوة في راوة في مرحلة جديدة من مراحل المعسكر، فأصبح لزاماً عليه أن يجتاز كل الحواجز التي تقف في طريق العمل.
ورافق تلك المرحلة أن بعض صيادي السمك الذين كانوا يقطعون النهر ذهاباً وإياباً قد لاحظوا وجود اُناس في ذلك المكان، ما دفع الفضول ببعضهم للاقتراب مِنّا ومعرفة حقيقة ما يدور، وكان هذا أيضاً من الأمور التي زادت الروابط بين الإخوة وأهالي المدينة، فعندما رأى هؤلاء الصيادون حال الإخوة وما هم عليه من الأمر، رقّوا لحالهم بصدر رحب ووجه طليق، وجلسوا في المسجد، وما أن اجتمع الإخوة هناك حتى كانت قسمات وجوه الصيادين تنمُّ عن استغراب، وتعاطف شديدين، وكأنهم في عالم آخر، فلم يكادوا يصدقوا أعينهم، فكنتُ انظر إليهم وأرى دموعهم تملأ أعينهم.. آنذاك حانت صلاة العصر فأذن أبو عاصم اليمني، وصلينا، وهم معنا، وبعد الصلاة انفض المجلس، وغادر الصيادين المكان عائدين إلى قاربهم الصغير، وهناك صور غريبة لم تألفها أعينهم لم تزل عالقة في أذهانهم، وبعد يومين عاد هؤلاء الصيادين وقاربهم مُحمّلٌ بالفواكه وغيرها، وقد أحضروا معهم الثلج، ولأول مرة في المعسكر نشرب الماء البارد، فكان الإخوة يتلذذون به، وكأنه عصير، أو شراب لذيذ، وهكذا استمرتْ زيارات هؤلاء، فكانوا يرون ما لا يمكن أن يروه في مكان آخر من البلاد، وكأنهم سافروا إلى بلاد أخرى لساعات قليلة، وفي إحدى المرات جاء إلى المعسكر رجل من أعيان مدينة راوة بمفرده، وجلس في المسجد والإخوة من حوله وحاله لا يختلف كثيراً عمن سبقه من الصيادين، وفي المرة الثانية جاء نفس الشخص، ومعه جهاز اتصال، وبندقية كلاشن، تسمى في العراق (ربع أخمص)، فأهدى البندقية لأبي رغد، وأعطى جهاز الاتصال للإخوة، فكان بعضهم يتشوق لإبلاغ أهله بحاله ومكانه، خاصة وقد خرج بعضهم ولم يُبلّغ أهله بنيته أو وجهته، وأذكر أن أبا محجن النجدي أتصل بوالدته، وعاد بعد الاتصال فرِحاً مغتبطاً، وقد أخبرنا بأن أمه ليست حزينة لفراقه، بل أنها سُعدتْ بذهابه إلى الجهاد، وهي تكلمه وتضحك من فرحتها، فكان أبو محجن سعيداً بذلك وقد ارتفعتْ معنوياته كثيراً حتى انه بدون أن يشعر قد أنفلت منه اسم أمه، واسمه هو أيضاً، وكان هذا من المحظورات الأمنية عندنا.
كان الحال فيما يخص الإخوة لا يسير على ما يرام، من أعداد وقلة السلاح، ولكن ذلك لم يكن ليؤثر على نفسيتهم ومعنوياتهم بل العكس، فقد كانوا يزدادون شوقاً للقاء ربهم عز وجل، ويتحرقون لقتال عدوهم والتنكيل به، لذلك كان جو المعسكر مفعماً بالإيمانيات، ومليئاً بمشاعر المحبة والإخوّة في الله، فكانوا على قلب رجل واحد، كيف لا، وهم من هجر الأهل والأحباب، مفضلين رفقة إخوانهم على كل رفيق أو حبيب، يتألم احدهم لألم أخيه، وأني لأقف بحيرة أثناء كتابتي لهذه الكلمات، فكيف يُوصف أمثال هؤلاء، وبأي العبارات يُكتب عنهم، فقد رأيت بعدهم الكثير الكثير من المجاهدين، ورزق الله الشهادة للكثير من أخوة الجهاد ممن صاحبوني من بعدهم، لكن لماذا يظل هذا الفرق الشاسع بينهم وبين الآخرين، ولا أملك من القول إلاّ بأنْ اسأل الله عز وجل أن يجمعني بهم في الفردوس الأعلى كما جمعنا في هذه الدنيا.


وللمذكرات بقية..


حسين المعاضيدي

hussein.almaadidi@gmail.com


الكاتب: ابومحمد العراقي
التاريخ: 21/07/2010