يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف!

 

يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف

قال الله تعالى:"يحذر المنافقون أن تُنزَّل عليهم سورةٌ تنبّئُهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مُخرجٌ ما تحذرون"(التوبة-64)، ومن أصدق من الله تعالى حديثاً، ومن أحسن من الله تعالى قيلاً، فلقد صدق الله تعالى رسولَه وعده حين قال :"ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولَتعرفنَّهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم"(محمد – 30)،

والحقيقة إن فضح القرآن الكريم للمنافقين أعني نفاق العقيدة من أعجب وألطف ما جاء في القرآن الكريم من حيث مقابلة الجزاء للعمل، بل إن مدار كيد الله تعالى ومكره بمن يمكر به إنما هو – فيما يظهر لي من القرآن الكريم - على المقابلة، إذ أن المنافقين لما استتروا بظاهر قولهم ليدخلوا في حكم الإسلام فيعصموا دماءهم وأعراضهم وأموالهم كما قال تعالى:" اتخذوا أيمانهم جُنَّةً"(المنافقون -2) أي وقايةً من السيف الذي أعمله الله تعالى في رقاب الكفار المعاندين،

قلت : لما استتر المنافقون بقولهم جعل الله تعالى أداة فضيحتهم من جنس ما استتروا به ألا وهو القول؛ فقال تعالى:"ولتعرفنَّهم في لحن القول"، ومفردات هذا القول عديدة تظهر لمن استقرأها في نصوص القرآن الكريم، ولئن أمسكت نصوص الشريعة عن الأمر بإعمال السيف في رقاب المنافقين المستترين بأقوالهم لحكمةٍ يعلمها الله تعالى، فإن نصوص الشريعة ما فتأت تحذر المجتمع والأمة الإسلامية من مظاهر لحن المنافقين في الأقوال والأفعال تنبيهاً للأمة من أن تؤتى من قِبَلهم، وقطعاً لدابر الفتنة الآتية من طريقهم؛

ولئن شاء الله تعالى بحكمته أن يخالط المنافقون مجتمع الإسلام فإن ذلك لم يأت أبداً على سبيل الإقرار لما في قلوبهم من عفن ولا على سبيل التوهين لما يمثلونه من خطر، بل واجب الجماعة المسلمة أن ترصد وتميز وتفضح هؤلاء بظاهر أقوالهم وأعمالهم

ولعمري إن ذلك غاية العقوبة لهم، إذ لما انطوت قلوبهم على الكفر واستتروا بظاهر القول منحهم الله تعالى ظاهر الأمان ثم ترك قلوبهم في خوفٍ ووجل تتساءل على الدوام وتتلفت يمنةً ويسرة: هل افتضح أمرنا؟ هل علموا بنا؟ هل رأونا ؟ هل شعروا بنا؟ فيعيش هؤلاء الهلكى محقوني الدماء في الظاهر مقطعةً قلوبهم في الباطن جزاءً وفاقاً من رب العزة سبحانه وتعالى.

أقول هذا ونحن اليوم نعيش في فتنة عظيمة تحيَّرت فيها عقول وشخصت منها أبصار ونكتت بسوادها قلوب، ولا شك أن الكفار قد تربصوا بهذه الأمة من خارج وأن المنافقين أتوا عليها من داخل، فكان حرياً بنا معاشر المسلمين المرابطين على ثغر التوحيد أن نتعرف على مفاضح القوم ومخازيهم وأن نستقرئ تلك الملامح وذلك اللحن في كل من حولنا حتى لا نؤتَى من قِبل المنافقين،

ولا يعني ذلك النظر بعين الريبة إلى كل من قال السلام عليكم ورحمة الله وإنما يعني أن لا نقف عند ظاهر هذه التحية فحسب، ولسوف أقتصر في هذا المقام على عرض واحد من أخطر ملامح اللحن في القول عند المنافقين ليكون نموذجاً لتطبيق وسائل الأمن القرآني في حياة الأمة الإسلامية، وأحذر وأنبه على أننا لا نطلق في هذا المقام أحكاماً بالكفر – أعني من جهة التلبس بهذا اللحن – وإنما نطلق صيحات تحذير وتنوير للمسلمين في كل مكان ولسان حالنا يقول: هذا ما حذر الله تعالى منه فاحذروا، ونكِل ما في القلوب إلى علّام الغيوب سبحانه، فتأمل.

قال الله تعالى:"المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقون هم الفاسقون"(التوبة-67)، فهذه مظاهر لحن القوم في القول قد فضحهم الله تعالى بها على رؤوس الأشهاد؛ فنفس اللسان الذي نطق بلا إله إلا الله في الظاهر لِيسترَ كُفرَ باطنه قد لحن بالقول لحناًَ افتضح به ذلك الباطن، فإذا هو يأمر بالمنكر وإذا هو ينهى عن المعروف وإذا هو يوالي من يأمر بالمنكر وإذا هو يوالي من ينهى عن المعروف...

هل تأملت حولك أيها المرابط على ثغر التوحيد لترى كم ممن حولك يتساقطون صرعى أمام هذه الآية؟ إن فسق قوم لوط عليه السلام وفحشهم كان في كفة، ولكن إجرامهم المتمثل في تقرير المنكر ومنع المعروف كان في كفة أخرى، بل ربما كان هو مناط الجرم والكفر عندهم، تأمل قوله تعالى :" فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون"(النمل- 56)،

نعم أصبحت الطهارة تهمة عند قوم لوط تماماً كما أن الإسلام اليوم تهمة يُنكر على من تلبَّس بها، وأعني بطبيعة الحال الإسلام الحق الذي يسعى أهله إلى تحكيم شرع الله في كل مكان وفي كل زمان وعلى كل إنسان، أصبحت الطهارة تهمة عند قوم لوط تماماً كما أصبح الحق اليوم تهمة والصلاة تهمة والحجاب تهمة وتحكيم الشريعة تهمة والجهاد في سبيل الله تهمة بل أصبح طلب الشهادة في سبيل الله تهمة أيضاً...

إن عدونا اليوم أيها المرابطون على ثغور الدين هم المنافقون في الداخل وإنْ هالَنا حجم المحاربين في الخارج، وإن أكبر ردءٍ يمكن أن نقدمه لأهل الرباط الحقيقي ممن يُفتنون تحت بارقة السيوف هو فضح المنافقين بين ظهراني الأمة من جهة والعمل على مكافحتهم بالمنهج الرباني من جهة أخرى؛ ولتكن البداية من الآية التي بين أيدينا، فمهما رأيت من يأمر بالمنكر اليوم فاعلم أنه منافقٌ بنص الآية، ومهما رأيت من ينهى عن المعروف اليوم فاعلم أنه منافقٌ بنص الآية أيضاً ،

ومهما رأيت هذا وهذا متوالين متحابين متشابكي الأيدي فاعلم أنهم منافقون بنص الآية، ثم لتعلنها على الملأ محذِّراً بقوله تعالى:" المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف"(التوبة- 67) حتى يرعوي الجاهل وينكشف العدو المنافق فهذا من جهة افتضاح القوم، أما من جهة مجابهتهم ومناجذتهم فاعلم أن الله تعالى قد وضع لك مقابل صورة اللحن الهالك ذاك صورة الحلية المنجِّية والسمت القرآني القويم وذلك في قوله تعالى:"والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيزٌ حكيم"(التوبة-71)

، نعم ؛ هكذا قابلت الآية كل عنصر من عناصر اللحن النفاقي بعنصر من عناصر الحلية الإيمانية فمهما رأيتك توالي في الله وتعادي في الله فهذا سمت المؤمن، ومهما أمرت بالمعروف غير مبالٍ ولا خائفٍ اللهم إلا من تقصيرك في ذلك فذلك سمت المؤمن، ومهما نهيت عن المنكر وتحملت في ذلك الأذى ولسان حالك مع الله تعالى (فما لجرحٍ إذا أرضاكمُ ألمُ) فذلك سمت المؤمن، ومهما أقمت الصف الأول في جماعة الفجر والعشاء فذلك سمت المؤمن، ومهما عجَّلت بالزكاة لإبراء ذمتك من أصحابها فذلك سمت المؤمن، ومهما وقفَتْ أمامك الدنيا بأسرها لتصدك عن طاعة الله ورسوله فأبيت إلا أن تطيعهما فذلك سمت المؤمن، ومهما قطعت قلبك من علائق الدنيا وتعلقت برحمة الله واعتززت بالانطراح على عتبة عبوديته فذلك سمت المؤمن، ومهما تمثلت بذلك كله ذاب ذلك المنافق والمنافقة كما يذوب الدجال كمداً عند طعنة عيسى بن مريم له وذلك سمت المؤمن...

إذا عُلم هذا فاعلم أن أمر الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم جاء صريحاً بمناجزة أعداء الدين المُعلِن منهم بكفره والمستتر، قال تعالى:"يأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير"(التحريم – 9)، ولئن كان أكثرنا قد حُرم شرف المناجزة بالسيف لأكابر المجرمين في الخارج، فلا يفوتنا المناجزة بالمصحف لأكابر المجرمين في الداخل،

ثم اعلم رحمني الله وإياك أن مِن عدو الخارج من يتَّجه إليه خطاب المصحف أحياناً، كما أن من عدو الداخل من يتَّجه إليه خطاب السيف أحياناً ولكن لذلك الأمر الخطير أهله وللحكم باستحقاقه جهابذته ورجاله، فالزم ما هو أسلم، واعمل بما لا شبهة فيه ودع ما سوى ذلك لأهله، فإن واقع الفتنة لا يحتمل مزيد هرج ولا يحتمل مزيد زلل، بل هو التسديد والمقاربة والثقة بوعد الله سبحانه وتعالى:" والذين جاهدوا فينا لنهدينَّهم سُبُلَنا وإن الله لمع المحسنين"(العنكبوت-69)، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

د.وسيم فتح الله

الكاتب: د. وسيم فتح الله
التاريخ: 01/01/2007