ثورة إسلامقراطية لا ثورة ديمقراطية

 

ثورة إسلامقراطية لا ثورة ديمقراطية

إن العجب لا ينقضي من أمةٍ أنعم الله تعالى عليها بخاتم المرسلين ليطيعوه فتولَّت عن أمره، وأفضل الشرائع والناسخة لما سواها فابتغت حكماً غيرها، وبأحسن الكتاب والمهيمن على ما سواه فأعرضت عنه، ثم نزل بها الضنك والشقاء فتلفتت يميناً ويساراً فتاهت في ظلمات الشيوعية تارة، والرأسمالية تارة، ثم فاقت لما أفاقت تنشد نجاتها وعزها وسؤددها في منظومة وضعية اسمها الديمقراطية، فأخذت تنفض عن كاهلها رواسب حقبة التخلف والظلام التي قبعت فيها لمخالفتها منهج الكتاب والسنة، وجرت تلهث وراء سراب الديمقراطية مرخصةً في سبيل ذلك الدماء والأعراض والأموال ومفرطةً بالأمن والإيمان في سبيل هذه العقيدة الجديدة. وزاد الأمر سوءً أن زل كثيرٌ من أهل العلم في هذه المدحضة فأخذوا ينادون بمفردات هذه العقيدة ويفرِّعون عليها دون ضبطٍ لمعانيها، ولا تنبهٍ لمراميها، ولا تحريرٍ لما وافق الشرع منها أو خالفه، فأصبح حال الكثيرين من منسوبي العلم حال باقي أفراد الأمة من ترديد شعارات جوفاء ونداءات بلهاء، وكأن شريعة الله لا دور لها في سياسة الناس والحكم بينهم، وكأن دين الله مجرد تصورات ذهنية أو روحية لا مساس لها بواقع الناس ولا مرجعية لها في إخراجهم من الظلمات إلى النور، من العبودية للهوى إلى العبودية لخالق الورى.
قال الله تعالى: (وما أرسلنا من رسولٍ إلا لِيُطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توَّاباً رحيماً. فلا وربك لا يؤمنون حتى يُحكِّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويُسلِّموا تسليماً) ، فأين أنت يا أمة الإسلام من طاعة رسولك ومن استغفار الله تعالى حين ظلمت نفسك بالتحاكم إلى غير سنته، وماذا بقي من الإيمان بعد أن تركنا التحاكم إلى الشريعة المحمدية ولهثنا وراء صناديق اقتراع جوفاء يستوي فيها قول وارث علم خاتم الأنبياء بقول السفيه والحائض والنفساء؟ وأين أنت يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم من قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً. وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدُّون عنك صدوداً) . وأين أنت عن لفظٍ مهجور من ألفاظ حديث أركان الإسلام؛ عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"بني الإسلام على خمس: على أن يُعبد الله ويُكفر بما دونه" الحديث، نعم هذا اللفظ هو المعنى المغيَّب للفظ المشهور:"شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله"، وإليك مصداق ذلك في كتاب الله تعالى: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى) ، فلا إيمان لمن لم يكفر بالطاغوت كل الطاغوت، ولا توحيد لمن لم يخلع من عنقه عبودية الطاغوت كل الطاغوت، كيف وقد قال تعالى: (وإن الشياطين لَيوحون إلى أوليائهم لِيجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) . قال الإمام أحمد رضي الله عنه في رواية الفضل بن زياد:" نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاثةٍ وثلاثين موضعاً ثم جعل يتلوا: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة) الآية، وجعل يكررها ويقول: وما الفتنة؟ الشرك! لعله إذا ردَّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيءٌ من الزيغ فيزيغ قلبه فيهلكه" .
هذا بالنسبة لخيانة دعاة الديمقراطية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما خيانتهم لشريعة الله سبحانه وتعالى فبترك شريعة الرحمن والتحاكم إلى شريعة أولياء الشيطان، فقد قال الله تعالى يفضح ويقرع اليهود: (سمَّاعون للكذب أكَّالون للسحت فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تُعرض عنهم فلن يضروك شيئاً وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين. وكيف يُحَكِّمونَّك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولَّون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين) ؛ يفضح رب العزة حال اليهود في تركهم الحكم بشريعة التوراة التي يقرون بها فهم للحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم التي يكذبون بها أشد تركاً وتولياً وإعراضاً، وتأمل كيف نفت الآية الإيمان عمن تولى وانصرف عن تحكيم شرع الله. وحسبك القوارع التالية في سورة المائدة: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) ، (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) ، (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) ، فتأمل كيف جمع من تحاكم إلى غير ما أنزل الله تعالى من النظم الوضعية الوضيعة التي يحكم بها الشعب نفسه كما يقولون – وهذا هو معنى كلمة الديمقراطية بالإغريقية أي: حكم الشعب – تأمل كيف جمع معاني الكفر والظلم والفسوق، ولقد جمعت الآية التالية هذه المعاني تحت عنوان الجاهلية حيث قال تعالى: (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون) ، أي لا أحد أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون.
وأما خيانة دعاة الديمقراطية لكتاب الله عز وجل، فبترك كتاب الله الذي أمر نبيه صلوات ربي وسلامه عليه بالحكم به وترك التحاكم للأهواء حيث قال سبحانه وتعالى: ( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عمَّا جاءك من الحق لكلٍ جعلنا منكم شِرعةً ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمةً واحدةً ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون.وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولَّوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون) ، نعم، لقد اتخذ دعاة الديمقراطية القرآن الكريم كتاباً مهجوراً فكان لهم أوفر نصيب من قوله تعالى: (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً) ؛ فلا عجب أن تعيش الأمة اليوم حالة الضنك والوحشة والكرب والضيق جزاءً وفاقاً على الإعراض عن كتاب الله، قال تعالى: ( ومن أعرض عن ذِكري فإن له معيشةً ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى.قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً.قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تُنسى. وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولَعذاب الآخرة أشد وأبقى) . وتأمل تفصيل هذا الضنك والشقاء في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:" يا معشر المهاجرين، خمسٌ إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قومٍ قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم" .
من العجيب إذاً أن غالب الأمة قابعٌ منذ عقود تحت ذل الحكم بدساتير وقوانين وضعية خلفها أعداء الإسلام واستعمل عليها عملاء منافقين وزنادقة مندسين ضمن نظم حكمٍ قمعيةٍ علمانيةٍ تعطل حدود الله وتقصي كتاب الله وشريعة الله عن حياة الناس، ثم تفيق الأمة حين تفيق لا لتطالب بتحكيم شرع الله والتمرد على ما سواه، ولا لتعلن إيابها إلى الله وتوبتها إليها وتحكيمها لشرعه وتحكيم كتابه في دمائها وأعراضها وأموالها، بل تفيق حين تفيق لترفع شعاراتٍ ضبابية كالحرية غير المقيدة، ولتطالب بتنكيس صنمٍ لبناء صنم آخر، وتدعو لإزالة طاغية ليحلوا محله طاغوتاً آخر، وإن العجب ليزيد حين تدرك أن الأمر ليس عن غفلة بل يعلن الكثير ويجاهر الكثير ببراءتهم من المطالبة بتحكيم الشريعة وتعبيد الناس لله عز وجل، بل إن قيادات جماعات إسلامية ومنسوبين إلى العلم وأهل العلم يعلنون أن عنوان مطالبهم هو الحرية والدولة المدنية الحديثة التي يتساوى فيها الناس مؤمنهم وكافرهم، طائعهم وفاسقهم، برهم وفاجرهم، في حين يقول رب العزة سبحانه وتعالى: ( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواءً محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون) ، وليت شعري إن هذه الديمقراطية التي يطالبون بها هي عين الذل الذي يزعمون أنهم يتحررون منه، وأي شيءٍ أذل من أن يستعبد الناس بعضهم بعضاً، وأي شيءٍ أشقى من أن ينازع العبد ربه سبحانه وتعالى في ألوهيته كما قال تعالى: ( اتخَذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أُمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) ؛ عن عدي بن حاتم قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال: يا عدي اطرح عنك هذا الوثن، وسمعته يقرأ في سورة براءة (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) قال: أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلّوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرّموا عليهم شيئاً حرّموه" .
إن الواقع المر الأليم الذي أخذ ينجلي مع هذه الثورات العربية يتمحض في أمرين: أولهما هو غياب تحكيم شرع الله عن أهداف الثورة بل حتى عن مفردات خطابها، وثانيهما هو السعي إلى إقامة نظم حكمٍ بديلةٍ للنظم القمعية منتهية الصلاحية لتملأ فراغ الحكم منعاً ومحاربةً لقيام نظامٍ إسلاميٍ شرعيٍ يحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس أحد هذين الأمرين بأشد استغراباً من الآخر، ذلك أن تحكيم الشريعة لم يكن محركاً لهذه الثورات أصلاً، كما أن محاربة الشريعة كان هو الهدف الأصيل من وضع نظم الحكم القمعية المستبدة، وليس ما يجري سوى تغيير في الوسيلة لا المقصد، وهذا هو سر المسألة؛ فريقٌ من الأمة غفل عن أن حاجته لتحكيم شرع الله أشد من حاجته للماء والهواء فانشغل عن ذلك بمتطلبات الشهوتين البطن والفرج، وفريق من الأمة بارز الله الحرب واستفرغ الوسع في محاربة شريعة الرحمن والتمكين لشريعة الشيطان، وبقيت قلة قليلة تنادي بتحكيم شرع الله فتنغص على أصحاب الشهوتين متعة البطون والفروج، وتتصدى بما تملك لأعداء الله وما يبثونه من شبهات وما يثيرونه من حروب تضليلية في سياق صراع خطير يواجه الأمة في صميم عقيدتها وفي أصل وجودها. وإني كلما قلبت ناظري في الأمر وجدت أن سر فشل الأمة وضياعها إنما يكمن في نكول علمائها عن أداء الواجب أداءً تبرأ به الذمة وينجلي فيه الخطر، وهذا في حق العلماء هو نظير الوهن الذي استحكم في قلوب العامة كما حذر منه نبينا صلى الله عليه وسلم: حب الدنيا وكراهية الموت، فإن وهن العالم ليس كوهن العامة من الناس، وإن فساد العلماء كفساد الأمراء أمرٌ خطير وشرٌ مستطير.
بناءً على ما تقدم، فإنا نعلن للدنيا بأسرها بل نعلن للكون بأسره أن ثورتنا لن تكون ثورة خبز وكساء، ولن تكون ثورة حرية جوفاء، ولن تكون شيوعية ولا رأسمالية، ولن تكون ثورة صناديق اقتراع غبية يسمونها الديمقراطية، ولكنها ستكون ثورة حقيقية اسمها ثورة الإسلامقراطية...
نعم الإسلامقراطية أو حكم الإسلام أو الخلافة الإسلامية أو الإمامة العامة أو تحكيم الشريعة سمها ما شئت فلا مشاحة في الاصطلاح، إنما المشاحة كل المشاحة في منازعة حق الله في تعبيد الخلق له، وفي حق عباد الله أن يعبدوا الله تعالى بأمن وأمان، لتظهر شعائر الإيمان وتنكس رايات الكفر والصلبان، شاء من شاء وأبى من أبى، فالله تعالى شهيدنا على أن هذا هو مقصد بعث الرسول بالهدى ودين الحق حيث قال سبحانه: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق لِيُظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً) ، والله تعالى وعد بإتمام نوره وظهور دينه ولو كره الكافرون والمشركون فقال: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون.هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) .
ختاماً، فهذا ما ندين لله تعالى به، وهذا ما نرخص الدماء لأجله، أما أن ترخص الدماء وتستباح الأعراض والأموال، ويستعان بجيوش وساسة الكفار في سبيل إقامة نظم علمانية مدنية حديثة تحاد الله ورسوله وتعاند حكم الله بحكم طاغوتي خبيث، وتجاهر برفضها لتحكيم شريعة الله وتتهم من ابتغى ذلك بالتطرف والإرهاب فلا، ووالله إن أحداً لن يخرج عن ضنك العيش والهرج والشقاء الذي تعيشه الأمة اليوم إلا بأداء حق الله في توحيد ألوهيته وتحكيم شريعته، أما أمانٌ وشرك بالله فلا يجتمعان ورب الكعبة، فقد قال الله تعالى: (وحاجّه قومه قال أتحاجُّونّي في الله وقد هدانِ ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئاً وسع ربي كل شيء علماً أفلا تتذكرون.وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون. الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ أولئك لهم الأمن وهم مهتدون. وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجاتٍ من نشاء إن ربك حكيم عليم) ؛ هذه هي منظومة الأمن في الإسلام، وهي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمنظومة الحكم في الإسلام، فمتى تحاكم الناس إلى شرع الله كان الأمن والإيمان، ومتى تحاكموا إلى شرائع الشيطان لم يكن أمنٌ ولا إيمان، ولنستقرئ العبرة في قصة الرجل المؤمن من آل فرعون حيث قال تعالى: (ويا قومِ ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار. تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار. لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار.فستذكرون ما أقول لكم وأفوِّض أمري إلى الله إن الله بصيرٌ بالعباد) ...
وكتب / الفقير إلى عفو ربه
وسيم فتح الله


الكاتب: د.وسيم فتح الله
التاريخ: 10/04/2011