ثورهْ ثورهْ .. تونس حرهْ!

 

ثورهْ ثورهْ .. تونس حرهْ!


بقلم د . حاكم المطيري

هناك نقطة فارقة بين الثورة التونسية وحركات الاحتجاج في مصر والجزائر والدول العربية الأخرى، تتمثل في غياب المسجد عن حركة الصراع السياسي في تونس، حيث تحرك الشعب بعفوية وفطرية نحو حريته والدفاع عن كرامته، ولم تشعر الجماهير الثائرة للدفاع عن لقمة عيشها بأن ما تقوم به يصطدم بدينها وعقيدتها، ودون أن يوظف أحد الدين والمسجد ليوقف حركته، بينما نجحت الدكتاتوريات العربية في تدجين الدين وتوظيف المساجد في تحييد عامة الشعوب في العالم العربي، ولهذا لا تكاد الجماهير تتحرك في بلد حتى تضج المساجد وهي أشد منابر التأثير خطورة في توجيه الرأي العام نحو الهدوء وتجنب الفتن وطاعة ولي الأمر، لتتحول المساجد في كثير من الدول إلى مساجد ضرار تحارب الله ورسوله والأمة دفاعا عن الطواغيت وطاعتهم والركون إليهم! لقد حارب النظام التونسي المسجد وحد من نشاطه في توجيه الرأي العام، فكان هذا التحييد في حد ذاته هو سبب نجاح الثورة وسقوط الطاغية!

لم يتوقع أحد - فيما أظن - أن يحدث ما حدث في تونس قبل المفكر والسياسي الجزائري محمد العربي زيتوت أحد قيادات حركة رشاد الجزائرية المعارضة، وقد كان يتوقع حدوث الثورة في تونس منذ أكثر من سنتين، وكان دائما ما يؤكد لنا في لقاءاتنا على هامش المؤتمرات العربية والإسلامية التي نشارك فيها بأن الثورة في تونس ستكون قبل الجزائر وقبل البلدان العربية الأخرى!


وآخر مرة أكد زيتوت فيها نجاح الثورة في تونس قبل غيرها كان في لقائه مع فيصل القاسم بقناة الجزيرة في برنامج الاتجاه المعاكس قبل سقوط طاغية تونس بأسبوع تقريبا، حيث استشرف المستقبل بحس سياسي رائد، ونظر ثاقب نافذ، تجاوز حجب الزمن، في الوقت الذي كان الضيف التونسي في الحلقة مستخفا بهذه التوقعات، مؤكدا بأن هذه المظاهرات احتجاجات عمالية عابرة، لن تسقط النظام التونسي الراسخ منذ نصف قرن!


إن هذه الثورة الشعبية المجيدة التي ما زالت لم تكتمل أهدافها بعد، حيث ما زال هناك من يحاول اختطاف الثورة والالتفاف عليها، وهناك من يريد اجهاضها وتشويه صورتها بإثارة الاضطرابات في تونس لتفقد الثورة نقاءها وطهرها، قد أصبحت أنموذجا للثورات الشعبية السلمية، وهناك حقائق يجب الوقوف عندها وهي :


1- أثبتت الثورة التونسية قدرة الشعوب على التغيير، مهما كانت الأنظمة دكتاتورية إجرامية، فالإرادة الشعبية فوق إرادة السلطة {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} وقد أبطلت هذه الثورة كل النظريات الكاذبة التي كانت تصور الثورة بأنها فوضى وفتنة وخراب ودمار، وأن (إمام غشوم خير من فتنة تدوم)، وكأن الإمام الغشوم غير الفتنة التي تدوم!


فكانت تضحيات الشعب التونسي في مدة ثورته وهي خمسة وعشرين يوما لا تتجاوز ضحايا حوادث المرور في يوم واحد، ولعلها لم تصل إلى مائة قتيل، انتزع فيها الشعب حريته وكرامته من جلاديه الذين ذهب على أيديهم من الضحايا مئات الآلاف بين مقتول وسجين ومهجر ومفقود، ووطن مسلوب، وشعب مضطهد، وكرامة إنسانية ووطنية مهدورة مدة ربع قرن!


2- كما أثبتت الثورة التونسية بأنه مهما مارس الطاغية تزييف الوعي وتضليل الرأي، فإنه لا يستطيع أن يجعل من الباطل حقا، فقد تظاهر النظام التونسي بديمقراطية وليبرالية زائفة، وبرلمان مزور، ودستور صوري، ومعارضة وهمية، كما هو الشأن في كل البلدان العربية، فلما جاء الحق زهق الباطل، وتجلى المشهد أمام العالم بكل مخازيه، وجرائمه ومساويه!


لقد كانت النخبة الحاكمة في تونس تتدثر بالنخب الثقافية الفاسدة، وبالنخب السياسية الكاسدة، وبجوقة من الإعلاميين والصحفيين وعلماء الدين والمثقفين، وكان آخرهم برهان ذلك الدجال الذي ظهر على قناة الجزيرة في برنامج الاتجاه المعاكس ليمارس دجله باسم الثقافة والديمقراطية والعقلانية، ليضلل العقل العربي، ويزيف وعيه دفاعا عن الطاغية ونظام حكمه، فكان أشبه بسحرة فرعون فما أغنى عنه سحره ولا دجله وقد فضحه الله وأخزاه بعد أسبوع واحد فقط من مقابلته تلك!


لقد نسي هؤلاء قول الله تعالى {ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير. ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون} فركنوا إلى الطغاة الظالمين طمعا بما في أيديهم من فتات، فلما جاءت الثورة فإذا النار تحرقهم كما أحرقت الطاغية من قبلهم، وإذا هم لا أولياء لهم ولا هم ينصرون من دون الله، وهذا عذابهم في الدنيا، حيث الهوان والقصاص، والآخرة أشد وأنكى!


3- ومن الحقائق التي يجب تدبرها أن الثورة كالعاصفة لا يستطيع أحد التنبؤ بوقت حدوثها، ولا بوقت هدوئها، ولا بنتائجها، فقد خرجت مظاهرات عفوية غضبا وسخطا على الأوضاع المعيشية، وانتهت بسقوط أشرس دكتاتور في العالم العربي، وعلى يد أكثر شعوب العالم العربي مسالمة ومسامحة، فنصرهم الله بالرعب وبجنود لم يروها، ونزل في الطاغية قضاء الله الذي لا ينقض، وبأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين!


لقد أثبت الشعب التونسي أن الثورة حين تحدث تخلق رجالها وقياداتها ورموزها فكان البوعزيزي الشاب العاطل الذي أحرق نفسه الرمز الذي ألهم الجماهير روح الثورة ليحرق معه الطاغوت وحزبه!


4- كما إن من أهم أسباب نجاح الثورة وجود نقابات مهنية وأحزاب سياسية استطاعت أن تقود الثورة إلى بر الأمان، وقد كان لاتحاد العمال ونقابة المحامين ونقابة الصحفيين دور رئيسي في قيادة حركة الشارع التونسي وتوجيهها وتنظيمها، فما حدث لم يكن عفويا كما يتوهم الكثيرون، بل كان وراءه تنظيمات سياسية ومهنية محترفة نجحت في استثمار حدث عفوي وحولته إلى ثورة شعبية عامة سلمية، حيث دعا اتحاد العمال التونسي إلى الإضراب العام، احتجاجا على تردي الأوضاع المعيشية، وقد اشترك الشعب التونسي بكل ألوان طيفه في هذه الثورة التي دامت خمسة وعشرين يوما، تخبو يوما وتستعر يوما، ولا يدري أحد كيف تنتهي، لتفاجأ الجميع بمحاصرتها وزارة الداخلية واختراقها للمناطق المحظورة، فإذا الطاغية يسقط في لمح البصر!


5- ويبدو أن هناك نقطة فارقة بين الثورة التونسية وحركات الاحتجاج في مصر والجزائر والدول العربية الأخرى، تتمثل في غياب المسجد عن حركة الصراع السياسي في تونس، حيث تحرك الشعب بعفوية وفطرية نحو حريته والدفاع عن كرامته، ولم تشعر الجماهير الثائرة للدفاع عن لقمة عيشها بأن ما تقوم به يصطدم بدينها وعقيدتها، ودون أن يوظف أحد الدين والمسجد ليوقف حركته، بينما نجحت الدكتاتوريات العربية في تدجين الدين وتوظيف المساجد في تحييد عامة الشعوب في العالم العربي، ولهذا لا تكاد الجماهير تتحرك في بلد حتى تضج المساجد وهي أشد منابر التأثير خطورة في توجيه الرأي العام نحو الهدوء وتجنب الفتن وطاعة ولي الأمر، لتتحول المساجد في كثير من الدول إلى مساجد ضرار تحارب الله ورسوله والأمة دفاعا عن الطواغيت وطاعتهم والركون إليهم!


لقد حارب النظام التونسي المسجد وحد من نشاطه في توجيه الرأي العام، فكان هذا التحييد في حد ذاته هو سبب نجاح الثورة وسقوط الطاغية!


لقد تم اختطاف المساجد من قبل الطواغيت فلم تعد المساجد كما قال تعالى {وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا} بل تحولت إلى منابر إعلامية تدعو للطاغوت وتسبح بحمده وتثني عليه في كل خطبة جمعة {والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل.. لا تقم فيه أبدا}!


إن المساجد على ثلاثة أقسام مسجد تقوى كما في قوله تعالى{لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين} وهذا أفضل المساجد، بل ولا يتصور قيام الطاغوت فضلا عن استمراره، حين تقوم مساجد التقوى بدورها في الدعوة إلى الحق والعدل والقسط والطهر..الخ


ومساجد ضرار وهي التي تدعو إلى حرب الله باسم الله، وإلى حرب الإسلام باسم الإسلام، وإلى طاعة الطاغوت وتحريم التصدي له باسم القرآن والسنة..الخ


ومساجد عامة تقتصر على العبادة والذكر، وهي خير من مساجد الضرار، وقد كان حيادها أهم أسباب نجاح الثورة في تونس، ليتأكد مدى خطورة المسجد ودوره، وقد حاول النظام التونسي ومنذ سنة تدارك الموقف والاستعانة بدعاة وشيوخ دين من خارج تونس ليوظفهم في خدمته بعد أن استشعر بالخطر، لتلميع صورته وتسويقه بعد كساده، إلا أن الأوان قد فات، فقد كانت مساجد تونس حيادية، لم يتول منابرها دعاة الطاغوت وخطباء الضلالة ومشايخ الفتنة الذين يضلون الأمة ويغوونها لتظل تحت حكم الطاغوت وسطوته، وكما في الحديث(أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون)!


6- كما كشفت الثورة التونسية خطورة شعار الشهادة، الذي كانت تردده الجماهير التونسية وهي تحمل نعوش شهدائها وتسير في جنائزهم (لا إله إلا الله الشهيد حبيب الله)، فقد أدرك الشعب التونسي بفطرته الدينية السمحة، كما في الحديث (بعثت بالحنيفية السمحة)، بأن هؤلاء القتلى هم أحق بوصف الشهادة كما في الحديث الصحيح (سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله)، وحديث (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)، وقد نص الفقهاء على أن المقتول ظلما بيد السلطة شهيد، وقد خرج فقراء تونس والمستضعفون يقولون للطاغوت كفى ظلما وتجويعا واستبدادا، فقتلهم الطاغوت ظلما وعدوانا، فكانوا شهداء بإجماع الفقهاء، ولهم أحكام الشهداء في الدنيا، وأمرهم إلى الله الملك العدل في الآخرة، وسيد شهداء تونس محمد البوعزيزي فقد كان أول مقتول بيد الطاغوت ظلما، فقد أدى الاعتداء عليه من قبل زبانية الطاغوت إلى قهره وغضبه وطيش عقله حتى أحرق نفسه، فارتفع عن مثله التكليف، إذ لا خلاف بين الفقهاء على أن من أخرجه غضبه عن وعيه، لا يؤاخذ بما صدر عنه كطلاق الغضبان إذا بلغ به الغضب حد فقدان الوعي كما في الحديث(لا طلاق في إغلاق)، ولا يتصور أن يقدم إنسان على إحراق نفسه إلا وقد خرج به غضبه عن حد الوعي، والحريق شهيد بنص الحديث الصحيح (شهداء أمتي سبعة .. والحريق شهيد)!


فاجتمع للبوعزيزي وصف الشهادة الدنيوية من جهتين كونه مقتولا ظلما بيد السلطة التي تسببت بقتله باعتداء رجالها عليه، وكون وفاته كانت بالحريق وهو شهادة!


أما إن كان البوعزيزي لم يفقد وعيه حين أحرق نفسه، واستحضر نية إسقاط الطاغوت بفعله ذلك، فإن حاله كحال الغلام المؤمن والملك الطاغية - كما في صحيح مسلم - الذي دل الطاغية على كيفية قتله والتخلص منه، بقصد هداية الناس وإثبات عجز الطاغية، وقد احتج الفقهاء بهذا الحديث على جواز قتل الإنسان نفسه لمصلحة شرعية كبرى، وبنية صالحة، كما في الحديث (إنما الأعمال بالنيات)، وقد استفتى المجاهدون الجزائريون مفتي المملكة الأسبق الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ عن جواز أن يقتل المجاهد نفسه إذا خشي من أن يقع في يد الجيش الفرنسي، الذين يعذبونه ويستخرجون منه أسرارا تضر بالمجاهدين، فأفتى لهم بجواز أن يقتل الإنسان نفسه في مثل هذه الحال، واحتج بقصة الغلام والملك!


ومما يؤكد حسن نية البوعزيزي ما جعل الله له من القبول في قلوب الشعب التونسي، وقلوب الأمة كلها، وما كتب الله له من الذكر الحسن والخلود في ضمير الأمة وذاكرتها، والشهادة له بالشهادة كما في الحديث (أنتم شهداء الله في أرضه)، وما ترتب على فعله ذلك من بركة إحياء الأمة كلها، وإسقاط الطاغوت وحزبه، وكل ذلك من البشارات الطيبة له، وهي عاجل بشرى المؤمن!


ومن هنا يجب إدراك أهمية الإسلام وإحياء مضامينه الداعية للعدل ومواجهة الظلم، بل وجعله أفضل الجهاد جهاد الطغاة الظالمين، وأفضل الشهادة الشهادة في سبيل الحق والعدل والقسط {قل أمر ربي بالقسط}!


7- كما إن الظروف التي أدت للثورة في تونس متحققة في أكثر البلدان العربية اليوم، والحالة متشابهة إلى حد كبير، وبالإمكان تكرار التجربة إذا وجدت العزيمة والإرادة القوية، فقد ضحى المعارضون التونسيون وهجّروا من بلدهم، ورفضوا المصالحة مع النظام على حساب كرامتهم وحريتهم، وعملوا بكل وسيلة على إسقاطه حتى منع كل وسائل الإعلام وحجب مواقع الإنترنت، فقد كان إسقاط النظام هدفا للمعارضة التونسية منذ سنوات، وقد عملت على هذا الأساس، ولم تتورط مع أي طرف خارجي أجنبي، بل كانت الأطراف الدولية تدعم النظام القمعي، بينما المعارضة في كثير من البلدان العربية تورطت مع أطراف دولية، وجبنت عن الإفصاح عن هدفها، بل ونفت أن يكون هدفها تغيير النظام، ودعت إلى إصلاح جزئي، فلم يتغير النظام ولم يتحقق الإصلاح الجزئي!


لقد وصل الحال في كثير من حركات المعارضة أن صارت تحرص على بقاء النظام القمعي خشية من سقوط الدولة أكثر من حرص النظام نفسه!

وحتى قيل بأنه بزوال هذا النظام أو ذاك ستزول الدولة كلها!

وقد أثبتت التجربة التونسية أن الشعوب أقدر على حماية دولها وترتيب شئون بلدانها حتى في حال سقوط النظام، الذي يغيب في ظل سطوته وطغيانه الشعب نفسه، وتختزل فيه الدولة، ليصبح الشعب قطعانا من العبيد في وطن لا كرامة لهم فيه، وفي دولة لا حرية لهم فيها!

وطن تشيده الجماجم والدمُ
تتهدم الدنيا ولا يتهدمُ


الكاتب: مسلمة
التاريخ: 18/01/2011