القرآن والحديــــــــد ..

 

القرآن والحديد
بقلم د. وسيم فتح الله
قال الله تعالى :" لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قويٌ عزيز"(الحديد – 25)، والمتدبر في معنى قوله تعالى :" وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب" يجده متجهاً إلى التكليف بهذه النصرة كما فسرته آية أخرى من كتاب الله تعالى :" ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم"(محمد – 31) .

وكأن الآية الكريمة تشير إلى قصور من يركن إلى حفظ الكتاب بمجرد تحكيمه والتحاكم إليه دون أن تكون له شوكة تحميه، وإلا فإن مجرد الهداية المحضة – أعني هداية الإرشاد – تتحقق بإرسال الرسل وإنزال الكتب وتحكيمها، ولكن هذا غير كافٍ البتة في تحقيق مراد الله تعالى وهو قهر الناس أجمعين تحت سلطان هذا القرآن، قال تعالى :"قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرِّمون ما حرَّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون"(التوبة – 29) .

ولا يشكل على هذا قوله تعالى :"لا إكراه في الدين"(البقرة – 256)، لأن منتهى آية الجزية أن تخضع رقاب الناس وتذل لحكم الله عز وجل سواءٌ أختارت الدخول في دين الإسلام طواعيةً أم لا، وحكم الله تعالى هنا – الجزية – مرادٌ منه أن تنكسر أعناق العبيد لرب العبيد شرعاً كما أنها منكسرة له قدراً، وفرقٌ مهم بين إجبار الناس على اعتناق الإسلام وهو ممتنعٌ شرعاً (للنهي عنه) وعقلاً ( لأن محل العقيدة القلب وهذا لا سلطان لأحد من البشر في قهره وإجباره على التزام عقيدة لا يدين بها) وبين إجبار الناس على الانصياع لحكم الله تعالى فيهم كفاراً كانوا أم مسلمين. وبيان ما تقدم أن القرآن الكريم – وهو المهيمن على ما سواه والناسخ لما سبقه من كتب – قد اشتمل على أحكام شرعية تخص المسلمين الذين هم أمة الإجابة وأخرى تخص غير المسلمين الذين هم أمة الدعوة .

ولا سبيل لتطبيق هذه الأحكام إلا باستعمال الحديد الذي سخَّر الله لنا الضرب به لخدمة الكتاب الذي يسر الله لنا الاسترشاد والحكم به، وباجتماع هذين – أعني المصحف والسيف – يقوم الدين، وبضياعهما أو أحدهما يضيع الدين، ألم تر معي إلى أن القرآن الكريم كان أول تنزُّله في اللوح المحفوظ ثم ثاني تنزُّله إلى بيت العزة في السماء الدنيا ثم ثالث تنزُّله على قلب المصطفى صلى الله عليه وسلم منجَّماً مفرقاً على الحوادث؛ ففي أي مرحلة من مراحل التنزيل هذه وجدت أثر القرآن الكريم في هذا الكون الفسيح .

أليس في آخر تنزلاته حين اقترن العلم بالعمل وتم تحكيم شرع القرآن قضاءً كما أنه كان مُحكَّماً ديانةً، وهل كان تحكيم قضاء القرآن الكريم إلا بالسلطان والحديد؟ تأمل معي كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال: "فالمقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب أن يقوم الناس بالقسط في حقوق الله وحقوق خلقه، ثم قال تعالى (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب) فمن عَدَل عن الكتاب قُوِّم بالحديد، ولهذا كان قوام الدين بالمصحف والسيف، وقد روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نضرب بهذا يعني السيف من عدل عن هذا يعني المصحف"( السياسة الشرعية)، وقلت: وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة :"وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله "(الأنفال – 39)، فالمعلوم أن من المعاني اللغوية لكلمة "الدين" الحكم .

ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى في سورة يوسف:"ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله"(يوسف – 76)، فإذا استحضرنا هذا المعنى إضافةً للمعنى المتبادر للذهن ابتداءً وهو الدين بمعنى الملة أي ملة التوحيد، تبين لنا أن غاية القتال هي القضاء على الفتنة بمعنى التخلية بين الإسلام ومن يريد الدخول فيه فيُمكَّن من ذلك دون خوف أو تردد ويعصم بذلك دمه وماله.

وأن يكون الحكم الكلي على وجه الأرض لشرع الله تعالى ووجه ذلك بالنسبة للكفار أن يقبلوا واحداً من ثلاث : الإسلام أو الجزية أو الحرب فأي واحدٍ قبلوا من هذا فقد نزلوا علىحكم الله تعالى وبالتالي انصاعوا لأمره سبحانه وتعالى وتحقق انفراد الله بالحكم شرعاً كما أنه منفرد به قدراً دون أن يستلزم الإكراه على اعتناق الإسلام،ويشهد لهذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم :" من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"(صحيح البخاري- الجهاد والسير) .

وقد جاء تقرير علو كلمة الله تعالى في القرآن في مقابلة الكلمة السفلى للذين كفروا حيث قال تعالى:" وجعل كلمةَ الذين كفروا السفلى وكلمةُ الله هي العليا"(التوبة – 40)، فجعلُ كلمة الذين كفروا السفلى يكون بكسر شوكتهم وإنزالهم على حكم الله فيهم كرهاً وبهذا يكتمل كون الدين كله لله شرعاً، وإن غفلة الكثير عن تحرير هذه الفروق الدقيقة توقع في اللبس وفي توهم إجبار الناس على اعتناق الإسلام بالسيف وليس الأمر كذلك كما تقدم.

إذا علم ما تقدم تبين لنا أن منصب الإمامة والسلطان إنما جُعل لتقوم به شوكة الدين ولتناط به مسؤولية إظهار شعائره وحفظ بيضته؛ ومن أعظم مظاهر ذلك تحكيم الشريعة وإقامة الحدود وتأمين السبل وعقد لواء الحج وحفظ الثغور وإرسال الكتب والبعوث وبث العيون وتجييش الجيوش لجهاد الطلب ونشر رسالة القرآن واستنفار المسلمين عند دهم العدو، وإنما كان الأمر بالسمع والطاعة للإمام في غير معصية والأمر بالصبر على ظلمه وجوره إن كان ظالماً وأخذَ المال وجلد الظهر بغير حق أو تلبُّسه بغير ذلك مما يخل بشروط الإمامة بعد انعقادها بوجه صحيح إنما كان الأمر بالصبر على ذلك كله من أجل تحصيل هذه المنافع الأعظم التي مر ذكرها، فاحتمل الأذى الخاص تحصيلاً للنفع العام واحتمل فوات المكملات من عدالة الإمام ونحوه تحصيلاً لحفظ الأصل وهو وجود الإمام وتسخير سلطانه في ترسيخ دعائم الأمن والاستقرار في الأمة الإسلامية .

وتأمل معي تعريف الإمام الماوردي للإمامة قال :"الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به"(الأحكام السلطانية) قلت: هذا والله الذي يستحق أن أصبر على جلد ظهري وسلب مالي لأجله، وهذا والله الذي يستحق أن أتمسك ببيعة الإمام لأجله متناسياً حظ النفس غير مؤثرٍ لهواها، وما ذلك كله إلا لعظم دور الإمامة والسلطان في حفظ الدين وهذا هو معنى أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن .

وهذا ما يشهد له الواقع فانظر كم من الناس يرتدع من فتوى عالم بحرمة كذا ثم انظر أضعاف أضعاف ذلك ممن يلتزمون أمر السلطان بتحكيم هذه الحرمة في حياة الناس وليس لكثير منهم رادعٌ سوى هيبة السلطان والإمامة وهذا هو المطلوب لحفظ الدين على مستوى الأمة أما كونه قادحاً في عمل الفرد من جهة عدم إخلاصه النية لله فهذه مسألة فردية لا تعلق لمسائل السياسة الشرعية بها .

فالسلطان والإمام يراد منه إظهار الحق بالشوكة ثم يكون قوله تعالى :"وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر "(الكهف -29) متجهاً للأفراد على سبيل التهديد، فيتبع الحق من اختار عن بيِّنة ويتبع الهوى من اختار عن بيِّنة كما قال تعالى:" ليهلِك من هلك عن بيِّنةٍ ويحيى من حيَّ عن بيِّنة"( الأنفال – 42). أما أن يتلبَّس السلطان بالفسق والظلم وربما بمناط الكفر ثم هو يضيِّع ما أنيط به من مهام حفظ الدين وإظهار شوكته فلا يعقد للحج لواءً ولا يرفع للجهاد رايةً ولا يؤمِّن للمسلمين ثغراً ولا يقيم لنشر القرآن منهجاً ومسلكاً فأي علةٍ بقيت لاحتمال أذاه وانخرام عدالته ومقومات إمامته، وأي مصلحةٍ راجحة تحتم خنق الأمة بلزومٍ متوهمٍ لبيعته وطاعته والولاء له!

تأمل معي كلام شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله قال :"ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لا بد للناس من إمارة برَّةً كانت أو فاجرة. فقيل يا أمير المؤمنين هذه البرة قد عرفناها فما بال الفاجرة؟ فقال: تقام بها الحدود وتأمن بها السبل ويجاهد بها العدو ويقسم بها الفيء"(السياسة الشرعية)، قلت: ولا شك أن الطامة أكبر والمصيبة أعظم عندما يضاف إلى تعطيل هذه المهام العظام المنوطة بالإمام تورط الإمام والسلطان في محاربة الدين وتعطيل حدوده وهجر التحاكم إليه ومخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإمضاء الجهاد إلى يوم القيامة ومناجزته أهل الحق ومهادنته أهل الباطل .

وعجيب كل العجب أن يأتيك من يقرر لمثل هؤلاء حق السمع والطاعة ولزوم البيعة محتجاً بنصوص الشرع التي إنما جُعل الإمام ليقوم على حمايتها فإذا به يقوم بتقويض أركانها .

فهل يقبل شرعاً أو عقلاً أن يتحول القرآن إلى سور وقاية لمن يعمل على هدمه وتعطيله، أو أن يتحول السلطان الذي جُعل لقتال أهل الكفر إلى حارس للكفار يسهر على راحتهم ويجاهد في سبيل القضاء على من يقض مضاجعهم من دعاة التوحيد وحملة راية الجهاد خلفاً عن سلف، سبحانك هذا بهتان عظيم! ثم حذار أن تغتر أيها المسلم بسماح بعض هؤلاء السلاطين بقيام بعض مظاهر العلم والدين فتقنع بذلك عن صفة الكمال .

فلقد قرر الله تعالى تلازم الأمرين أعني القرآن والحديد كما في الآية، وتأمل معي كلاماً نفيساً جداً لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى قال :" وهاتان السبيلان الفاسدتان - سبيل من انتسب إلى الدين ولم يكمله بما يحتاج إليه من السلطان والجهاد والمال، وسبيل من أقبل على السلطان والمال والحرب ولم يقصد بذلك إقامة الدين - هما سبيل المغضوب عليهم والضالين، الأولى للضالين النصارى والثانية للمغضوب عليهم اليهود" (السياسة الشرعية) .

قلت: ووجه ذلك أن الأول سبيل إلى ضياع الكتاب وهو مفضٍ إلى الجهل والضلال الذي هو صفة النصارى، وأن الثاني سبيل إلى اتخاذ الطرق الموصلة إلى الآخرة مطايا لأغراض الدنيا وشهواتها وهي صفة اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم الدين.

فإلى كل ذي سلطان نقول : أين أنتم من قوله تعالى :" قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أُنزل إليكم من ربكم"(المائدة – 68)، وإلى كل ذي علم من الكتاب نقول :أين أنتم من قوله تعالى:" فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلُّوا سبيلهم إن الله غفور رحيم"(التوبة- 5)

وإلى الجميع نقول إن واجب كل أحدٍ ممن انتسب إلى هذه الأمة العظيمة وحمل في قلبه هذه العقيدة الغالية المفدَّاة بالأرواح أن يعمل ما استطاع ويبذل جهده أشد ما يطيق حتى يتفق القرآن والحديد ويجتمع نور الحق ولمعان السيف ليخرق الأول حجب الظلام ويكسر الثاني شوكة الكفر وأهله، واعلم أن الرجل اليوم إما مجاهد في سبيل الله قرآناً وسيفاً وإما مجهزٌ أو خالفٌ لمجاهد وإما مُحدِّثٌ نفسه بالجهاد حديثاً صادقاً يعد له عدته، وما عدا ذلك فليس بشيء، ليس بشيء البتة...

اللهم استخدمنا ولا تستبدلنا، واجعلنا حيث ترضى عنا جنداً من جنود القرآن وسيفاً من سيوف الحق، اللهم واكفناهم بما شئت أنت مولانا ولا مولى لهم ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

د.وسيم فتح الله

الكاتب: د. وسيم فتح الله
التاريخ: 01/01/2007