حصـــــــة تاريـــــــــخ ..

 

حصة تاريخ

ناشدتك الله يا أستاذي، اشرح لي خارطتي هذي، هل هي من عالمنا هذا؟ أخبرني، كيف ولماذا؟

نظر الأستاذ وقال لأحمد: دعني أنظر كي أتأكد، وبهذا يا سادة يا كرام، تبدأ قصتنا بالسلام، على خير البرية والأنام، فلنسمع القصة ولنتدبر، فقد آن الأوان أن نتذكر...

في جبلٍ من جبال الوطن، في حقبةٍ من غابر الزمن، كانت قرية اسمها يَعرُب، تطلع فيها الشمس وتغرُب، قريتنا عن باقي الدنيا معزولة، وأبواب اتصالها بالعالم مقفولة، إلا ما أذن به الملكُ المعظَّم، وبغير ذلك لا يجوز أن نتكلم، وهكذا تمر سنون وأيام، نعيش حياتنا كالبُهم والأنعام، حتى جاء ولدٌ يسأل ويفكِّر، ولصفو حياة القرية يعكِّر، ولدٌ اسمه يا سادتي أحمد، وللاسم دلالته فانظر وتأكد، في مدرسة القرية يدرس هذا الصغير، وهو أبداً في تمعنٍ وتفكير، من نحن، من أين أتينا؟ ولأي شعوب الأرض انتمينا؟

سؤالاتٌ وسؤالاتٌ تتردد، وخواطر ترتادك يا أحمد، أحقاً تريد الحقيقة يا ولدي، إني أخاف عليك حرقة الكبدِ ! قال: نعم يا أستاذي أريد الحقيقة، فما عدت أطيق الصبر دقيقة، فقال الأستاذ بصوت ممزوج بالغصة : تعال غداً يا بني إلى الحصة، وأحضر معك ما شئت من وثائق وخرائط، وعدني ألا يجاوز حديثنا الباب والحائط، فإني رجلٌ فقير ذو عيال، والحق في بلادنا تتبعه ويلاتٌ وأهوال، فتهللت بالفرح أسراير الصبي، فغداً سيعلم تاريخ قريتنا الأبيّ، وما غمض لأحمد جفنٌ في السرير، فهو ينتظر الحصة والسر الخطير...


تأبط أحمد خارطةً وكتاباً، وهرول للمدرسة ذهاباً، وجلس أحمد في الصف يتعلم، وأخذ أستاذه في الدرس يتكلم:

يا أحمد، قريتنا من دولة صغيرة، مساحة أرضها مساحة حقيرة، لهذا سموها:

\"مايكروعرب\" المستقلة، لها سيادتها على أرضٍ مضمحلة، ولها عَلَمٌ كبيرٌ ذو ألوان، ولها ملكٌ عظيمٌ ذو تيجان، دولتنا يا أحمد والملك في العمر أقران، كي نحتفل بعيدٍ واحدٍ لا عيدان، فعيد استقلال دولتنا هو أيضاً عيد الجلوس، أليس هذا مما يبعث البهجة في النفوس؟

أما علاقتنا مع دول الجوار فشديدة الحفاوة، شريطة أن نؤدي لها الجزية والأتاوة، كل هذا بفضل نضال مليكنا والكفاح، ولعمري إنه شريف النسب لا ولد سفاح، نعم قد كان في تاريخنا مآذن وللعلم منارات، لكنها استحالت بنضالنا مواخير وخمارات،

وكل ذلك حكمةٌ ساميةٌ من ملكنا وسلطةِ الحُكم، حتى نستطيع أن نجاري ركب الحضارة والعلم، والكل يعيش بعدلٍ لا ظلم ولا مظالم، طالما رؤوسنا خانعةٌ ولا تقاوم، وقريتنا يا أحمد ذات تاريخٍ مرموق، فهي بهدوئها وسلمها كل القرى تفوق، نقنع بالخبز واليسير من القوت، فنحن نحب الدنيا لا نحب أن نموت،

هذا تاريخ بلادنا يا أحمد، فارفع الرأس عالياً وللملك فاحمد...

فسأل أحمد وكانت القاصمة: لماذا لم تحدثني عن العاصمة ؟ فاضطرب الأستاذ وتلفّت، وتقبضت العروق منه وجفّت، العاصمة يا أحمد يا ولدي الصغير؟ دع عنك هذا السؤال الخطير، وأصرَّ صبينا هذا إصراراً، وما ترك لأستاذه خياراً، فأجابه بصوته الممزوج بالغصة: تعال غداً يا ولدي نكمل القصة، فما غمض لأحمد جفنٌ في السرير، فهو ينتظر الحصة وذاك السر الخطير...


الدرس الثاني عن مايكروعرب قد ابتدأ، وأحمد ينتظر لسؤاله الجواب والنبأ، يا ولدي ليس لمايكروعرب عاصمة، نحن مستعمرةٌ صغيرة بجوار دولةٍ آثمة، استبقينا القليل من الأرض بعد كفاحٍ مرير، وبعناهم عاصمتنا بثمنٍ يسير، القدس بعناها وقبضنا الثمن: كرسياً للملك وللشعب الرسن، مايكروعرب يا ولدي قطعةُ أرضٍ جدباء، قوت أهلها ثمرة تذللٍ واستجداء، ألوان عَلَمها من دماء الخيانة، وتيجان مليكها من أموال الخزانة...

فقاطعه أحمد متلهفاً: فحدثني عن القدس يا أستاذي، فلعلي أجد في حديثك ملاذي، القدس يا أحمد في القلب غصة، تعال غداً كي نكمل القصة، فما غمض لأحمد جفنٌ في السرير، لقد اقترب الآن من معرفة السر الخطير...


ومضى الليل وموعد الحصة اقترب، وكان الدرس الثالث عن دولة مايكروعرب، وتاق الفؤاد من أحمد والنفس، أن يتعلم شيئاً عن القدس، ولما قرعَ باب أستاذه وهمَّ بالدخول، شخصت من أحمد العينان وأصابه الذهول؛ كيف حصل هذا الأمر الرهيب؟ والله ما خنت عهدك يا معلمي الحبيب، والله ما بُحت بسرِّ حديثنا المكتوم، فكيف أصابك هذا الأجل المحتوم؟ ولكن ما الفائدة قد فات الأوان، قد امتدت يد الغدر من جديدٍ لتقتل الإنسان، لقد اغتالوك يا معلمي في حرم المدرسة والصفِّ،

ولم يراعوا فيك الشرع واستهتروا بالعرفِ، الآن عرفت تاريخ أمتي المجيد، الآن عرفت حاضرنا والماضي البعيد، رحمة الله عليك يا معلمي، عرفت الآن لماذا كتمت سر أمتي، وها أنت اليوم تُقتَل فوق خارطة الوطن، يظنون أن بقتلك سر أمتي اندفن،

وما علموا أني سأقرأ من بين دمائك السطور، وأني سأحمل رسالتك رغم الفسق والفجور، فامض إلى جنتك وخلدك يا أستاذي، امض ولا تتلفت فإني على دربك أحاذي، ولن تموت رغم ألف طعنة سكين، لن تموت قدسنا لن تموت فلسطين...


انتهت حصة التاريخ يا أحمد، فهل ستطوي القصة أم للجهاد تتعهد؟ ما ظنكم يا إخواني السامعين: أينضم لقطيع الخراف أم لقافلة المجاهدين، ما ظنكم؟...

مضى أحمد ومضى أستاذ التاريخ، وستبقى في قمة الجبل قرية ينطلق منها ألف أحمد وألف حصة تاريخ، لتُعلِّم الطفلَ والرضيعَ والجنين، درساً واحداً اسمه القدس وفلسطين.....


د.وسيم فتح الله

الكاتب: د. وسيم فتح الله
التاريخ: 01/01/2007