قراءة في تجارب الإضراب المفتوح: دلالاته السياسية والفكرية

 


قراءة في تجارب الإضراب المفتوح: دلالاته السياسية والفكرية

كتب د. رمضان عمر*

13/04/2012

"قاوم" خاص - لقد كشفت معارك الأمعاء الخاوية عن استراتيجية جدية في فرض منطق العزة على جبروت الظلم، فقد تحرر عدنان خضر رغم أنف سجانيه، وأنهت هناء شلبي إضرابها بعد أن فرضت على سجانها الخضوع لإطلاق سراحها، وإن جاء هذا الإفراج على شكل إبعاد، لكن طبيعة التحدي جلت حقيقة الأثر، فلم تستطع جولات الدبلوماسيين الذين يملؤون صفحات الإعلام على تقديم أي شيء في سبيل وضع حد لسياسة القمع والتنكيل التعسفي بحق الأسرى إلا أن إضراباً واحداً وفق مبدأ العزة قد فعل فعله، مما يعني أن الحق لا يرد بتوسل بل بجهاد وتضحية.

-------------------------

قال تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواَ بْدِيلاً) (الأحزاب : 23).

آية جليلة كريمة تحدد استراتيجية التقويم الفعلي لكل من ساد وانتمى، قد تجدها في نعي شهيد غاب وارتحل، ولكنك قد تجدها-أيضاً-- قد نقشت على قبر فاسق عاث في الأرض فساداً، فلما انتقم الله منه نقش مناصروه على قبره هذه الآية، وربما استغلوها في الترويج لبرنامج انتخابي لزعيم مناهض للإسلام، كاره لأولياء الله الصالحين، لا يحذِّر أتباعه إلا من الأصولية الدينية، ولا يطمئن أسياده إلا بإصراره بمنع قيام دولة إسلامية .

لكن مشهداً واقعياً واحداً لا تغطيه غرابيل الفتنة والخديعة، ولا أبواق التزييف والضلال، ولا أقلام التزوير وتقارير الخيانة، إنه مشهد الأسود العمالقة الرابضين خلف القضبان، القابضين على الجمر، إنهم أسود الإسلام الحقيقيين، الذين يصنعون مجد الرباط، وأساطير التحدي، هناك بعيداً عن أعين الكاميرات الإعلامية خلف زنازين الموت، في معركة ساحاتها الأمعاء الخاوية، وأدواتها الصدق الفعلي، والنبل الخالص في مواجهة الغطرسة الظالمة، والعنصرية الحاقدة، أولئك هم وحدهم الذين يستحقون الاستظلال في أفياء هذه الآية الكريمة .

نعم، لقد استطاعت الحركة الأسيرة في فلسطين أن تقدم نماذج بطولية لا تحصيها التقارير المعدة، ولا تفيها الوقفات المساندة، لكن نمطاً جديداً من عبقرية البطولة والفداء بدأ يرتسم على صفحة هذا التحدي البطولي الشامخ بريشة شيوخ السياسة (الإسلاميين) الذين ضربوا أمثلة نادرة في التمثيل السياسي الصادق، بعيداً عن البهرجة والترف والنزق، عرفوا أن السيادة والقيادة تكليف لا تشريف، فشمروا عن ساعد الجد، وغاصوا في أعماق التجربة البرلمانية من خلال صدق الانتماء؛ فأغاظوا عدوهم بعد أن كشفوا سوأته وأثبتوا زيف ادعاءاته وبينوا أنه عنصري حاقد لا يعرف لغة الديمقراطية، وأن الديمقراطية التي يريدها بزعمه لا تعني له إلا التبعية والخيانة.

لقد ولدت هذه التجربة الديمقراطية الحقيقية التي فازت فيها الحركة الإسلامية فوزاً ساحقاً ومشرفاً قراءة جديدة لمواصفات النائب الصادق مع شعبه، وكشفت عن زيف التمثيل السياسي لنواب ما عرفوا بعد فوزهم إلا بسياراتهم الفارهة، وسفرهم السياحي المكوكي المتكرر، وسفور نسائهم، والتباهي أمام أعدائهم بكرههم لله ولرسوله وللمؤمنين، واعترافهم لعدوهم بحقه في وطنهم .

لكن الفوز الأسطوري للإسلام السياسي، خلق تجربة جديدة على واقع الأرض في فلسطين تتمثل في شخصيات مخلصة ثابتة على منهج الله لا تفرط ولا تساوم، ولا تخاف في الله لومة لائم، تتقن فن السياسة، لكنها لا تعرف طريقاً للتفريط والمهادنة.

هذه الثلة المؤمنة القليلة من النمط القيادي الفريد تستدعي قراءة في العمق لأنها كما قلنا تكشف عن سؤال المفارقة في حقيقة من يمثل الشعب؟ ومن يخوض معركة التمثيل لتثبيت حقه؟ وفي المقابل من يرقص على جراح الشعب ويبيع أستار خيمته، ويجفف الدم المسال ليلعب به نرداً على طاولة التنازل؟!

لقد كشفت لنا الحركة الأسيرة في هذه الأعوام الماضية عن أسماء تستحق أن نقف معها ونجلي تجربتها، لأنها شموع صدق لا يجوز أن تنطفئ.

عرفتنا تجربة الأسر، ومعارك الأمعاء الخاوية في زنازين الموت بأسماء أبت إلا أن تسجل تاريخها بمداد العزة، عرفتنا بأحمد الحاج علي، وعدنان خضر، وعباس السيد، وجمال أبو الهيجا، وهناء شلبي، ومروان البرغوثي، وأحمد سعدات، وعشرات من النواب النبلاء الذين غيبوا عن الساحة السياسية لتمرير مشاريع التفريط، وتذويب الهوية الفلسطينية في بوتقة التعايش السلمي الكسيح، فغاب رأس الشرعية التشريعية عزيز دويك، وإخوان من نواب الحركة الإسلامية في الضفة الغربية .

معارك الأمعاء الخاوية على أعتاب يوم الأسير الفلسطيني:

تمر في هذه الأيام ذكرى يوم الأسير الفلسطيني -في السادس من أبريل- والحركة الأسيرة في سجون الاحتلال الغاشم قد أنهت استعداداتها لخوض إضرابها المفتوح عن الطعام في ظل واقع مأساوي كشفت عنه إضرابات السجناء النبلاء في المرحلة السابقة حيث بلغ عدد المضربين عن الطعام بشكل فردي حتى الأول من أبريل من هذا العام خمسة وعشرين مضرباً .

رسائل المضربين:

لم تكن إضربات العمالقة الأسود نزقاً وتكتيكاً إعلامياً للفت الأنظار، وتسجيل نقاط إعلامية في برنامج تلفزيوني مباشر لكنها حقائق مزلزلة لحجم المعاناة وحجم التحدي كشفت عنها رسائل المجاهدين السرية، فقد وجه القائد القسامي الأسير عباس السيد، رسالة من داخل عزله في سجن جلبوع إلى جميع المتضامنين والداعمين لقضية الأسرى، ونشر موقع "أحرار ولدنــا" رسالة الأسير القائد عباس السيد، كما وردت من داخل عزله.. وجاء فيها:

"الإخوة والأخوات الأفاضل المتضامنين والمتعاطفين في كل مكان..

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أبعث لكم من زنزانة العزل في سجن جلبوع، راجياً من المولى أن تكونوا بأفضل حال ورضوان من الله.

الغوالي: من خلف القضبان، ومن زنازين العزل والظلم، التي جُعلت لتحطم الأسير وذويه، كوسيلة لإذلال الحركة الأسيرة بشكل خاص، والشعب الفلسطيني بشكل عام، ولكل الأحرار والمتضامنين بالعالم، حيث الجميع وقف عاجزاً أمام إغلاق هذا الملف.

أحبتي: ومن الرغبة في التخلص من هذا الواقع، والإصرار على رفع الظلم أعلنها للجميع، أنني أريد الخروج وكل إخواني المعزولين من الزنازين.

الغوالي: أرجو أن يعمل الأخوة الذين أبرموا الصفقة على إخراجنا، بالتعاون مع الوسيط المصري، حيث قالوها مراراً أن إخراجنا هو جزء من ضمن الصفقة، ولغاية الآن لم يحدث شيء. وأرجو أن يعلم الوسيط المصري أن الظلم طال، وأن إخراجنا من هذا الواقع هو من أبسط الحقوق، التي وعدنا بها ووعد بها أهلنا أيام إبرام الصفقة.

الغوالي: من وحي الربيع العربي، الذي رفع رؤوسنا عالياً وناطح عنان السماء، وبالرغم من قضبان السجن، ومن وحي التجربة الفلسطينية، التي خاضتها الحركة الأسيرة، عبر سنينها الطوال، وبعد التجربة الرائعة والنموذج الذي قدمه الأسير البطل خضر عدنان، واتبعته الأسيرة البطلة هناء الشلبي، فإننا نجد أنفسنا، بدعائكم لنا وبتوفيق الله أولاً، قادرين بعونه على إرغام هذا العدو، لتحقيق ما نصبو إليه. أدعو لنا واستعدوا لنصرتنا من الآن بأفكار ونوايا طيبة، حيث سيكون الموعد معروفاً، قبل الانطلاق بهذه الخطوة بوقت كاف، كي يبدأ التضامن من اليوم الأول.

دعائي وأشواقي ومحبتي في ظهر الغيب لكم جميعـًا.


واسلموا لأخيكم المحب المشتاق للحرية، ولكم.

عباس السيد/ أبو عبد الله"

ومن قبله بعث النائب عن المجلس التشريعي الشيخ أحمد الحاج علي والمختطف لدى الاحتلال الصهيوني برسالة لأهله يطلب فيها أن يبعثوا له بالكفن لأنه يتوقع الوفاة بعد فترة قصيرة، وذلك بعد أن رفضت المحكمة العليا الصهيونية طلباً له بالاستئناف والإفراج عنه.

وقال محامي الشيخ: "لقد بَلغّتُ الشيخ أن قرار الالتماس المقدم لمحكمة العدل العليا الإسرائيلية للإفراج عنه رُفِضَ ولقد قلت له ما جرى بالمحكمة، ولقد تقَبَل الشيخ القرار بكل استغراب حيث رغم مرارة القرار وغرابته وظلمه وإجحافه تقبله والحمد لله."

وأضاف المحامي: "لم يبق سوى أن أطلب من إدارة السجن والسلطة الإسرائيلية قوائم ما هو النشاط الممنوع وما هو النشاط المسموح لكي يخرج من هذه المسألة ويحظى بحريته المسلوبة، لأنه لا يرى ولا يفهم لماذا رفض الإلتماس وأنه لا يوجد شيء محدد بقضية وأنه لا يوجد عقاب بدون جريمة".

وقال النائب أحمد الحاج علي في الرسالة التي نقلها المحامي: "أنا رجل دين فقط لا غير، لي مكانتي في المجتمع، وفي الضفة الغربية عامة، أطلب من أهلي تحضير كفن لي لأنني أتوقع وفاتي بأي وقت، فنحن عائلة غير معمرة وأنا مسلم، مؤمن بالقضاء والقدر وهذا حق على كل مسلم، الرجاء إدخاله لي لأكون جاهزاً، أريد كفني بأسرع وقت، أتوقع الموت هنا بالقريب والحمد لله على كل حال، أرجو إعلام وسائل الإعلام بذلك، إنه طلب غريب لكنه شرعي".

ولما لم تستجب سلطات الاحتلال لمطلب الشيخ قرر أن يخوض إضراباً مفتوحاً عن الطعام رغم سنه الطاعن وصحته المتدهورة لكنها الارادة والعزة، والولاء الصادق لدين الله .

إن تجربة القادة النواب تمثل ظاهرة جديدة في التمثيل الشعبي فحينما نتحدث عن ثلاثين نائباً تغيبهم أقبية السجون فهذا يعني أننا نتحدث عن واقع سياسي له دلالته.

معركة السجون: الدلالات السياسية:

كثيراً ما تعنى التحليلات السياسية بالحدث الدبلوماسي؛ ولذا يتصدر الصفحات الأولى من المجلات والصحف والمواقع الإلكترونية الساسة والزعماء، أصحاب البدل الرسمية والألقاب المتعددة، ويتوارى خلف النص عمالقة مجهولون يصنعون الحدث الفعلي، يقلقون مضاجع الغافلين ويقلبون الطاولة على رؤوس المتآمرين بعد أن تسلحوا بإرادة الوفاء .

لقد كشفت معارك الأمعاء الخاوية عن استراتيجية جدية في فرض منطق العزة على جبروت الظلم، فقد تحرر عدنان خضر رغم أنف سجانيه، وأنهت هناء شلبي إضرابها بعد أن فرضت على سجانها الخضوع لإطلاق سراحها، وإن جاء هذا الإفراج على شكل إبعاد، لكن طبيعة التحدي جلت حقيقة الأثر، فلم تستطع جولات الدبلوماسيين الذين يملؤون صفحات الإعلام على تقديم أي شيء في سبيل وضع حد لسياسة القمع والتنكيل التعسفي بحق الأسرى إلا أن إضراباً واحداً وفق مبدأ العزة قد فعل فعله، مما يعني أن الحق لا يرد بتوسل بل بجهاد وتضحية.

من نحو آخر كشفت هذه السجالات اللامتناهية عن حقيقة الواقع الفلسطيني الأليم، وأن جوهر الصراع يتعلق بالإنسان وحريته، وأن الحرية هي العنوان الأرفع في فصول هذه المعركة، ولا بد أن يتنبه الساسة الى هذا الفصل لأنه بوابة التحرير وعنوان الصمود، إذ لا قيمة لأي شرعية سياسية دون أن يمتلك صاحبها إرادته، فاعتقال النواب وتغييبهم يثبت أن القوانين الدولية التي ملأت الأوراق قد وقفت عاجزة أمام هذا العدوان السافر، لذا لا بد من استراتيجيات فاعلة لحماية الإنسان وضمان حقه في تمثيل ذاته وفق مفهوم ديمقراطي غير مزيف.

الثوابت الفلسطينية وعلى رأسها حق تقرير المصير وتحرير الأرض والعودة وإقامة الدولة ثوابت لا تخضع للمساومة، ولا تقع ضمن مناكفات السياسة؛ ومن هنا فلا وجود لأي تمثيل سياسي على الأرض دون أن يكون صاحب التمثيل السياسي مسؤولاً عن إرادته فإذا كان النائب الفلسطيني لا يتمتع بحصانة تحميه؛ فإن الواقع الفلسطيني بكافة تشكيلاته لن يتمتع بأي ميزة تثبت وجوده السياسي على الأرض وهنا تتجلى الحقيقة الكاملة في أن بقاء النواب تحت الأسر يعني أننا نعيش مرحلة تحرر وطني لا مرحلة بناء دولة، أي أننا بحاجة إلى تحرير قراراتنا السياسية من عقال التبعية كما نحن مطالبون بتحرير نواب الشرعية من براثن التغييب القمعي، بعده نكون قد وضعنا عربة الاستراتيجيات السياسية على سكتها الصحيحة، لأن تحرير الأرض والإنسان واسترجاع الكيان المغتصب لا يأتي هبة من الاحتلال، بل بالجهاد والصبر.

كاتب وباحث فلسطيني.


الكاتب: د. رمضان عمر
التاريخ: 18/05/2012