القول المنمّـق في مسألـة التورق ..

 

الحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه
أجمعين ثم أما بعد :

فقد انتشر بين الناس في عصرنا ( بيع التورق ) وقد كثر الجدال
فيها ، والخلاف فيها قديم ، قدذكره أهل العلم في غير موضع ، واحتج كل بدليله ،
وفيما يلي مبحث مختصر ، في هذه المسألة ، مع نقل لبعض
الفتاوى المعاصرة ، بغية توضيح المسألة ، والله تعالى أسال أن ينفع بها ، ويجعل لي ثوابها ذخرا ليوم القيامة .

أولا : تعريف التورق :

جاء في الموسوعة الفقهية في الجزء الرابع عشر :

( التَّوَرُّقُ مَصْدَرُ تَوَرَّقَ , يُقَالُ تَوَرَّقَ الْحَيَوَانُ : أَيْ أَكَلَ الْوَرَقَ , وَالْوَرِقُ بِكَسْرِ الرَّاءِ الدَّرَاهِمُ الْمَضْرُوبَةُ مِنْ الْفِضَّةِ , وَقِيلَ : الْفِضَّةُ مَضْرُوبَةً أَوْ غَيْرَ مَضْرُوبَةٍ . وَالتَّوَرُّقُ فِي الاصْطِلاحِ أَنْ يَشْتَرِيَ سِلْعَةً نَسِيئَةً , ثُمَّ يَبِيعَهَا نَقْدًا - لِغَيْرِ الْبَائِعِ - بِأَقَلَّ مِمَّا اشْتَرَاهَا بِهِ ; لِيَحْصُلَ بِذَلِكَ عَلَى النَّقْدِ . وَلَمْ تَرِدْ التَّسْمِيَةُ بِهَذَا الْمُصْطَلَحِ إلاعِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ , أَمَّا غَيْرُهُمْ فَقَدْ تَكَلَّمُوا عَنْهَا فِي مَسَائِلِ ( بَيْعِ الْعِينَةِ ) .


( الْعِينَةُ ) :
الْعِينَةُ لُغَةً السَّلَفُ , وَاصْطِلاحًا : أَنْ يَبِيعَ سِلْعَةً نَسِيئَةً , ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا الْبَائِعُ نَفْسُهُ بِثَمَنٍ حَالٍّ أَقَلَّ مِنْهُ . وَلاصِلَةَ بَيْنَ التَّوَرُّقِ وَبَيْنَ الْعِينَةِ إلا فِي تَحْصِيلِ النَّقْدِ الْحَالِّ فِيهِمَا , وَفِيمَا وَرَاءَهُ مُتَبَايِنَانِ ; لانَّ الْعِينَةَ لا بُدَّ فِيهَا مِنْ رُجُوعِ السِّلْعَةِ إلَى الْبَائِعِ الاوَّلِ بِخِلافِ التَّوَرُّقِ , فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ رُجُوعُ الْعَيْنِ إلَى الْبَائِعِ , إنَّمَا هُوَ تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي فِيمَا مَلَكَهُ كَيْفَ شَاءَ )

ــــــــــــــــــــ
ثم قالت الموسوعة : ( جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى إبَاحَتِهِ سَوَاءٌ مَنْ سَمَّاهُ تَوَرُّقًا وَهُمْ الْحَنَابِلَةُ أَوْ مَنْ لَمْ يُسَمِّهِ بِهَذَا الِاسْمِ وَهُمْ مَنْ عَدَا الْحَنَابِلَةِ .

لِعُمُومِ قوله تعالى : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم - لِعَامِلِهِ عَلَى خَيْبَرَ : { بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا } وَلانَّهُ لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ قَصْدُ الرِّبَا وَلا صُورَتُهُ .

وَكَرِهَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ .

وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ : هُوَ خِلافُ الاوْلَى , وَاخْتَارَ تَحْرِيمَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ الْقَيِّمِ لانَّهُ بَيْعُ الْمُضْطَرِّ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إبَاحَتُهُ .) أ.هـ.
ـــــــــــــــــــ
وفيما يلي نقول لأقوال المبيحين له :

أ – الحنفية :
قال محمد بن فرموزا في درر الحكام ( ج 2 ص 305 ) : " ثُمَّ قَالَ الْكَمَالُ وَاَلَّذِي فِي قَلْبِي أَنَّهُ إذَا أَخَذَ ثَوْبًا بِثَمَنٍ مِنْ غَيْرِ اقْتِرَاضٍ وَرَدَّ بَعْضًا مِنْ الثَّمَنِ وَيَبِيعُهَا لِغَيْرِ مَنْ أَخَذَ مِنْهُ فَلا كَرَاهَةَ فِيهِ " . اهـ

ـــــــــــــــــــ

ب – المالكية :

قال الحطاب في مواهب الخليل ( ج 4 ص 404 ) : " أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ مِنْهُمْ يَعْنِي مِنْ أَهْلِ الْعِينَةِ فَيَقُولَ هَلْ عِنْدَك سِلْعَةَ كَذَا وَكَذَا أَبْتَاعُهَا مِنْكَ وَفِي الْبَيَانِ تَبِيعُهَا مِنِّي بِدَيْنٍ .

فَيَقُولَ لا فَيَنْقَلِبَ عَنْهُ عَلَى غَيْرِ مُرَاوَضَةٍ وَلا مُوَاعَدَةٍ , فَيَشْتَرِي الْمَسْئُولُ تِلْكَ السِّلْعَةَ الَّتِي سَأَلَهُ عَنْهَا ثُمَّ يَلْقَاهُ فَيُخْبِرُهُ أَنَّهُ اشْتَرَى السِّلْعَةَ الَّتِي سَأَلَهُ عَنْهَا فَيَبِيعُهَا مِنْهُ .

قَالَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ بِمَا شَاءَ مِنْ نَقْدٍ أَوْ نَسِيئَةٍ .

وَقَالَ فِي كِتَابِ الْبَضَائِعِ وَالْوَكَالَاتِ فَيَبِيعُ ذَلِكَ مِنْهُ بِدَيْنٍ .

وَقَالَ فِي التَّنْبِيهَاتِ الْجَائِزُ لِمَنْ لَمْ يَتَوَاعَدَا عَلَى شَيْءٍ وَلا يَتَرَاوَضُ مَعَ الْمُشْتَرِي كَالرَّجُلِ يَقُولُ لِلرَّجُلِ ، أَعِنْدَكَ سِلْعَةَ كَذَا فَيَقُولُ لا فَيَنْقَلِبُ عَلَى غَيْرِ مُوَاعَدَةٍ، وَيَشْتَرِيهَا ثُمَّ يَلْقَاهُ صَاحِبُهُ ، فَيَقُولُ تِلْكَ السِّلْعَةُ عِنْدِي فَهَذَا جَائِزٌ أَنْ يَبِيعَهَا مِنْهُ بِمَا شَاءَ مِنْ نَقْدٍ وَكَالِئٍ ، وَنَحْوِهِ لِمُطَرِّفٍ .

قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ مَا لَمْ يَكُنْ تَعْرِيضٌ أَوْ مُوَاعَدَةٌ أَوْ عَادَةٌ ، قَالَ وَكَذَلِكَ مَا اشْتَرَاهُ الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ بَعْدَهُ لِمَنْ يَشْتَرِيهِ مِنْهُ بِنَقْدٍ أَوْ كَالِئٍ ، وَلا يُوَاعِدُ فِي ذَلِكَ أَحَدًا يَشْتَرِيهِ وَمِنْهُ لَا يَبِيعُهُ لَهُ .

وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَشْتَرِي السِّلْعَةَ لِحَاجَةٍ ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فَيَبِيعُهَا أَوْ يَبِيعُ دَارَ سُكْنَاهُ ثُمَّ تَشُقُّ عَلَيْهِ النَّقْلَةُ مِنْهَا فَيَشْتَرِيهَا أَوْ الْجَارِيَةَ ثُمَّ تَتْبَعُهَا نَفْسُهُ ، فَهَؤُلاءِ إمَّا اسْتَقَالُوا أَوْ زَادُوا فِي الثَّمَنِ فَلا بَأْسَ بِهِ .

وَذَكَرَ ابْنُ مُزَيْنٍ : لَوْ كَانَ مُشْتَرِي السِّلْعَةِ يُرِيدُ بَيْعَهَا سَاعَتَئِذٍ فَلَا خَيْرَ فِيهِ وَلا يُنْظَرُ إلَى الْبَائِعِ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِينَةِ أَمْ لا , قَالَ فَيُلْحَقُ هَذَا الْوَجْهُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى قَوْلِهِ بِالْمَكْرُوهِ ا هـ . , فَيَكُونُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ عِيَاضٌ هَذَا الْوَجْهُ مُخْتَلَفًا فِيهِ , وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ جَائِزٌ وَقَوْلُ ابْنِ مُزَيْنٍ إنَّهُ مَكْرُوهٌ وَلَمْ يَحْكِ ابْنُ رُشْدٍ فِي جَوَازِهِ خِلافًا " .اهـ

ــــــــــــــــ

ج – الشافعية :

قال الرملي في نهاية المحتاج ج3 : " ( قَوْلُهُ : كَمَالُ اللاوِي ) أَيْ الْمُمْتَنِعُ مِنْ تَوْفِيَةِ الْحَقِّ ( قَوْلُهُ : كَبَيْعٍ بِمُحَابَاةٍ ) قَدْ يُقَالُ الْمَطْلُوبُ الْمُحَابَاةُ لَا نَفْسُ الْعَقْدِ إلَّا أَنْ يُقَالَ لَمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهَا وَهِيَ مَطْلُوبَةٌ كَانَ مَطْلُوبًا . قَالَ فِي الْمُخْتَارِ فِي الْمُعْتَلِّ : وَحَابَى فِي الْمَبِيعِ مُحَابَاةً ا هـ ( قَوْلُهُ : كَبَيْعِ الْعِينَةِ ) وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ شَخْصٍ شَيْئًا بِثَمَنٍ كَثِيرٍ مُؤَجَّلٍ ثُمَّ يَسْتَرِدُّهُ الْبَائِعُ بِثَمَنٍ قَلِيلٍ حَالٍّ . ثُمَّ رَأَيْت فِي الْعَلْقَمِيِّ فِي حَوَاشِي الْجَامِعِ عِنْدَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم { إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ } إلَخْ مَا نَصُّهُ : الْعِينَةُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ التَّحْتِيَّةِ وَبِالنُّونِ هُوَ أَنْ يَبِيعَهُ عَيْنًا بِثَمَنٍ كَثِيرٍ مُؤَجَّلٍ وَيُسَلِّمَهَا لَهُ ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ بِنَقْدٍ يَسِيرٍ يَبْقَى الْكَثِيرُ فِي ذِمَّتِهِ , أَوْ يَبِيعُهُ عَيْنًا بِثَمَنٍ يَسِيرٍ نَقْدًا وَيُسَلِّمُهَا لَهُ ثُمَّ يَشْتَرِيهَا مِنْهُ بِثَمَنٍ كَثِيرٍ مُؤَجَّلٍ سَوَاءٌ قَبَضَ الثَّمَنَ الاوَّلَ أَوْ لا ا هـ ( قَوْلُهُ : وَلا يُنَافِي الْجَوَازَ ) أَيْ جَوَازَ الْبَيْعِ ." اهـ

ــــــــــــــــــــ

د – الحنابلة : ( وهم الذين يطلقون عليه التورق )

قال المرداوي في الإنصاف ( ج 4 ص 337 ) : " فَائِدَةٌ : لَوْ احْتَاجَ إلَى نَقْدٍ , فَاشْتَرَى مَا يُسَاوِي مِائَةً بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ . فَلا بَأْسَ . نُصَّ عَلَيْهِ . وَهُوَ الْمَذْهَبُ . وَعَلَيْهِ الاصْحَابُ . وَهِيَ مَسْأَلَةُ التَّوَرُّقِ .

وَعَنْهُ يُكْرَهُ .

وَعَنْهُ يَحْرُمُ . اخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ .

فَإِنْ بَاعَهُ لِمَنْ اشْتَرَى مِنْهُ : لَمْ يَجُزْ . وَهِيَ , الْعِينَةُ . نُصَّ عَلَيْهِ .

قَوْلُهُ ( وَإِنْ بَاعَ مَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا نَسِيئَةً , ثُمَّ اشْتَرَى مِنْهُ بِثَمَنِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ مِنْ جِنْسِهِ , أَوْ مَا لا يَجُوزُ بَيْعُهُ نَسِيئَةً : لَمْ يَجُزْ ) وَهُوَ الْمَذْهَبُ . وَعَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الاصْحَابِ .

وَقَطَعَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْهُمْ . وَاخْتَارَ الْمُصَنِّفُ الصِّحَّةَ مُطْلَقًا , إذَا لَمْ يَكُنْ حِيلَةٌ .

وَقَالَ : قِيَاسُ مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ أَخْذُ عَيْنِ جِنْسِهِ . وَاخْتَارَهُ فِي الْفَائِقِ .اهـ

أدلة القائلين بالإباحة :

1 – عموم قوله تعالى ( وأحل الله البيع وحرم الربا ) .[ البقرة 275 ] .

2 – قول النبي صلى الله عليه وسلم لعامله في خيبر : ( بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا ) . متفق عليه .

وقد ذهب شيخ الاسلام ابن تيمية إلى تحريمه

جاء فـــــــي الفتاوى الكبرى ( ج 5 ص 392 ) : " َيَحْرُمُ مَسْأَلَةُ التَّوَرُّقِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَمَنْ بَاعَ رِبَوِيًّا نَسِيئَةً حَرُمَ أَخْذُهُ عَنْ ثَمَنِ مَا لا يُبَاعُ نَسِيئَةً مَا لَمْ تَكُنْ حَاجَةٌ" . اهـ

وقد ذكر الادلة على التحريم
في الفتاوى الكبـــرى ( ج 6 ص 45 – 46 – 47 ) : "

قال : ( مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ , قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : { إذَا ضَنَّ النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ وَاتَّبَعُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَتَرَكُوا الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِمْ بَلاءً فَلا يُرْفَعُ حَتَّى يُرَاجِعُوا دِينَهُمْ } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ .

قَالَ : أَنْبَأَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ , حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ , عَنْ الاعْمَشِ , عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ , عَنْ ابْنِ عُمَرَ .

وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إلَى حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ الْمِصْرِيِّ .


عَنْ إِسْحَاقَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخُرَاسَانِيِّ , أَنَّ عَطَاءً الْخُرَاسَانِيَّ حَدَّثَهُ , أَنَّ نَافِعًا حَدَّثَهُ , عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : { إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلا لا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إلَى دِينِكُمْ } .

وَهَذَانِ إسْنَادَانِ حَسَنَانِ , أَحَدُهُمَا يَشُدُّ الاخَرَ وَيُقَوِّيهِ - فَأَمَّا رِجَالُ الْأَوَّلِ فَأَئِمَّةٌ مَشَاهِيرُ لَكِنْ نَخَافُ أَنْ لا يَكُونَ الاعْمَشُ سَمِعَهُ عَنْ عَطَاءٍ , فَإِنَّ عَطَاءً لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ ابْنِ عُمَرَ .

وَالإسْنَادُ الثَّانِي يُبَيِّنُ أَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلا مَحْفُوظًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ , فَإِنَّ عَطَاءً الْخُرَاسَانِيَّ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ , وَحَيْوَةَ بْنَ شُرَيْحٍ كَذَلِكَ وَأَفْضَلُ , وَأَمَّا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَشَيْخٌ رَوَى عَنْهُ أَئِمَّةُ الْمِصْرِيِّينَ مِثْلُ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ , وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ , وَيَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ , وَغَيْرِهِمْ .


وَقَدْ رَوَيْنَا مِنْ طَرِيقٍ ثَالِثٍ فِي حَدِيثِ السَّرِيِّ بْنِ سَهْلٍ الْجُنَيْدِ سَابُورِيّ بِإِسْنَادٍ مَشْهُورٍ عَالِيهِ , وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَشِيدٍ , حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ , عَنْ لَيْثٍ , عَنْ عَطَاءٍ , عَنْ ابْنِ عُمَرَ , قَالَ : لَقَدْ أَتَى عَلَيْنَا زَمَانٌ وَمَا مِنَّا رَجُلٌ يَرَى أَنَّهُ أَحَقُّ بِدِينَارِهِ وَبِدِرْهَمِهِ مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ . وَلَقَدْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : { إذَا ضَنَّ النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ , وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ وَتَرَكُوا الْجِهَادَ وَاتَّبَعُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذُلا لا يَنْزِعُهُ حَتَّى يَتُوبُوا وَيُرَاجِعُوا دِينَهُمْ } . وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ لِلْحَدِيثِ أَصْلا عَنْ عَطَاءٍ .

قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ : الْعِينَةُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ السَّلَفُ , وَالسَّلَفُ يَعُمُّ تَعْجِيلَ الثَّمَنِ وَتَعْجِيلَ الْمُثَمَّنِ , وَهُوَ الْغَالِبُ هُنَا .

يُقَالُ : اعْتَانَ الرَّجُلُ وَتَعَيَّنَ إذَا اشْتَرَى الشَّيْءَ بِنَسِيئَةٍ , كَأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْعَيْنِ وَهُوَ الْمُعَجَّلُ , وَصِيغَتْ عَلَى فِعْلِهِ , لانَّهَا نَوْعٌ مِنْ ذَلِكَ .

وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بَذْلَ الْعَيْنِ الْمُعَجَّلَةِ لِلرِّبْحِ , وَأَخْذَهَا لِلْحَاجَةِ كَمَا قَالُوا فِي نَحْوِ ذَلِكَ : التَّوَرُّقُ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْوَرِقَ .

قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ : أَنَا أَظُنُّ أَنَّ الْعِينَةَ إنَّمَا اُشْتُقَّتْ مِنْ حَاجَةِ الرَّجُلِ إلَى الْعَيْنِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ فَيَشْتَرِي السِّلْعَةَ وَيَبِيعُهَا بِالْعَيْنِ الَّذِي احْتَاجَ إلَيْهِ وَلَيْسَتْ بِهِ إلَى السِّلْعَةِ حَاجَةٌ وَتُطْلَقُ الْعِينَةُ عَلَى نَفْسِ السِّلْعَةِ الْمُعْتَانَةِ .

وَمِنْهُ حَدِيثٌ ذَكَرَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارَ فِي النَّسَبِ , عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ , أَنَّهُ قَالَ لابِيهِ عَبْدِ اللَّهِ : اُغْدُ غَدًا إلَى السُّوقِ فَخُذْ لِي عِينَةً , قَالَ : فَغَدَا عَبْدُ اللَّهِ فَتَعَيَّنَ عِينَةً مِنْ السُّوقِ لابِيهِ , ثُمَّ بَاعَهَا فَأَقَامَ أَيَّامًا مَا يَبِيعُ أَحَدٌ فِي السُّوقِ طَعَامًا ، وَلا زَيْتًا غَيْرُ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ تِلْكَ الْعِينَةِ , فَلَعَلَّ هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِمْ : كِسْرَةٌ وَمِنْحَةٌ لِلْمَكْسُورَةِ وَالْمَمْنُوحَةِ .

وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ الْعِينَةِ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ وَإِلا لَمَا أَدْخَلَهَا فِي جُمْلَةِ مَا اسْتَحَقُّوا بِهِ الْعُقُوبَةَ .

وَكَذَلِكَ فِي الاخْذِ بِأَذْنَابِ الْبَقَرِ , وَهُوَ عَلَى مَا قِيلَ الدُّخُولُ فِي الارْضِ الْخَرَاجِ بَدَلا عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ , وَقَدْ تَقَدَّمَ , عَنْ الاوْزَاعِيِّ , عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : { لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَسْتَحِلُّونَ الرِّبَا بِالْبَيْعِ } . يَعْنِي الْعِينَةَ . فَهَذَا شَاهِدٌ عَاضِدٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ .


وَكَذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ : { مَا ظَهَرَ فِي قَوْمٍ الرِّبَا وَالزِّنَا } .

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْعِينَةِ يَعْنِي بَيْعَ الْحَرِيرَةِ فَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ لا يُخْدَعُ هَذَا مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } . رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْكُوفِيُّ الْحَافِظُ الْمَعْرُوفُ بِمُطَيْنٍ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ .

وَالصَّحَابَةُ إذَا قَالَ حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , أَوْ أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , أَوْ أَوْجَبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ , أَوْ قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَنَحْوَ هَذَا , فَإِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ مَا لَوْ رَوَى لَفْظَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الدَّالَّ عَلَى التَّحْرِيمِ وَالامْرِ وَالإيجَابِ وَالْقَضَاءِ . لَيْسَ فِي ذَلِكَ إلا خِلافٌ شَاذٌّ .

لأنَّ رِوَايَةَ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى جَائِزَةٌ , وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَعْنَى مَا سَمِعَ ، فَلا يُقْدِمُ عَلَى أَنْ يَقُولَ أَمَرَ , أَوْ نَهَى , أَوْ حَرَّمَ إلاّ بَعْدَ أَنْ يَثِقَ بِذَلِكَ , وَاحْتِمَالُ الْوَهْمِ مَرْجُوحٌ كَاحْتِمَالِ غَلَطِ السَّمْعِ . وَنِسْيَانِ الْقَلْبِ .


وَقَدْ رَوَى مُطَيْنٌ أَيْضًا , عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : اتَّقُوا هَذِهِ الْعِينَةَ , لا بَيْعَ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ وَبَيْنَهُمَا حَرِيرَةٌ .

وَفِي رِوَايَةٍ , عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ رَجُلا بَاعَ مِنْ رَجُلٍ حَرِيرَةً بِمِائَةٍ , ثُمَّ اشْتَرَاهَا بِخَمْسِينَ , سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ ذَلِكَ , فَقَالَ : دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ مُتَفَاضِلَةٍ دَخَلَتْ بَيْنَهَا حَرِيرَةٌ .

ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ , وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّدٍ النَّجَشِيُّ الْحَافِظُ وَغَيْرُهُ , عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْعِينَةِ يَعْنِي بَيْعَ الْحَرِيرَةِ فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ لا يُخْدَعُ هَذَا مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . ذَكَرَهُ عَنْهُ أَبُو الْخَطَّابِ فِي خِلافِهِ .

وَالاثَرُ الْمَعْرُوفُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ امْرَأَتِهِ , أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ هِيَ , وَأُمُّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَامْرَأَةٌ أُخْرَى , فَقَالَتْ لَهَا أُمُّ وَلَدِ زَيْدٍ : إنِّي بِعْت مِنْ زَيْدٍ غُلامًا بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ نَسِيئَةً وَاشْتَرَيْته بِسِتِّمِائَةٍ نَقْدًا , فَقَالَتْ : أَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلا أَنْ يَتُوبَ ، بِئْسَ مَا اشْتَرَيْتِ وَبِئْسَ مَا شَرَيْتِ . رَوَاهُ الإمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ , ثِنَا شُعْبَةُ , عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ , وَرَوَاهُ حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ فِي حَدِيثِ إسْرَائِيلَ , حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ , عَنْ جَدَّتِهِ الْعَالِيَةِ يَعْنِي جَدَّةَ إسْرَائِيلَ , قَالَتْ : دَخَلْت عَلَى عَائِشَةَ فِي نِسْوَةٍ فَقَالَتْ : حَاجَتُكُنَّ ؟ فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ سَأَلَهَا أُمَّ مَحَبَّةَ فَقَالَتْ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ هَلْ تَعْرِفِينَ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ . قَالَتْ : فَإِنِّي بِعْته جَارِيَةً بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى الْعَطَاءِ , وَأَنَّهُ أَرَادَ بَيْعَهَا فَابْتَعْتهَا بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ نَقْدًا .

فَأَقْبَلَتْ عَلَيْهَا وَهِيَ غَضْبَى . فَقَالَتْ : بِئْسَ مَا شَرَيْتِ وَبِئْسَ مَا اشْتَرَيْتِ أَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ إلا أَنْ يَتُوبَ . وَأُفْحِمَتْ صَاحِبَتُنَا فَلَمْ تُكَلِّمْ طَوِيلا , ثُمَّ أَنَّهُ سَهُلَ عَلَيْهَا فَقَالَتْ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْتِ إنْ لَمْ آخُذْ إلا رَأْسَ مَالِي ؟ فَتَلَتْ عَلَيْهَا : { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ } .


فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَحَادِيثَ تُبَيِّنُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ هَذَا . حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي فِيهِ تَغْلِيظُ الْعِينَةِ - وَقَدْ فُسِّرَتْ فِي الْحَدِيثِ الْمُرْسَلِ بِأَنَّهَا مِنْ الرِّبَا , وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ , وَابْنِ عَبَّاسٍ بِأَنَّهَا أَنْ يَبِيعَ حَرِيرَةً مَثَلًا بِمِائَةٍ إلَى أَجَلٍ , ثُمَّ يَبْتَاعَهَا بِدُونِ ذَلِكَ نَقْدًا .

وَقَالُوا هُوَ دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ وَبَيْنَهُمَا حَرِيرَةٌ . وَحَدِيثُ أَنَسٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا : " هَذَا مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ " . اهـ

والخلاصة أن رأي شيخ الاسلام هو التحريم قال رحمه تعالى ( وأما إن كان مقصوده الدراهم فيشتري بمائة مؤجلة ويبيعها في السوق بسبعين حالة فهذا مذموم منهي عنه في أظهر قولي العلماء . وهذا يسمى " التورق " قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنها التورق أخية الربا ) ـ
ولينظر مجموع الفتاوى 29/442
ــــــــــــــــــــــــــــــــ

وممن ذهب إلى إباحة التورق من المعاصرين ، اللجنة الدائمة للافتاء في المملكة العربية السعودية

فقد جاء في فتاوى اللجنة الدائمة ( م 13 البيوع 1 فتوى رقم 19297 ) :

" س 3 : نرجو إفادتنا عن مسألة التورق وما حكمها ؟

ج 3 : مسألة التورق هي أن تشتري سلعة بثمن مؤجل ثم تبيعها بثمن حال على غير من اشتريتها منه بالثمن المؤجل من أجل أن تنتفع بثمنها , وهذا العمل لا باس به عند جمهور العلماء وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه
وسلم "

بكر ابوزيد
صالح الفوزان
عبدالله بن غديان
عبدالعزيز آل الشيخ
عبدالعزيز بن عبدالله بن باز


هذا وقد قصدت تقريب المسالة واختصارها ، للقارىء ، وليس الاسهاب في البحث والاستقصاء ، وأسأل المولى عز وجل أن يوفقني لما يحبه ويرضاه إنه ولي ذلك والقادر عليه .

فهيد بن معيض العجمي

الكاتب: فهيـد بن معيض العجمي
التاريخ: 01/01/2007