نقد العلماء بين التعصب والإسقاط..

 

نقد العلماء بين التعصب والإسقاط

علماءُ الملةِ هم ورثةُ الأنبياءِ ـ عليهم السلام ـ ، وحماةُ الشريعةِ المطهرة ، ونور الأرضِ يستضاءُ بهم ، حبُهم عبادةٌ ، واجلالُهم نسكٌ ، فضلهم على العبّادِ كفضل النبي على الأمةِ ، هم كالعودِ يحترقُ ليطيبَ الآخرين ، فالله ما أعظم فضلهم ، وما أكبر حقهم وما أسوء من نالهم بسوء .

قال الإمام أحمد بن حنبل ـ رضي الله عنه ـ : (الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه وكم من ضال تائه قد هدوه فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عقـال الفتنة فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب مجمعون على مفارقة الكتاب يقولـون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهـال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتن المضلين ).

أثنى اللهُ تعالى عليهم في غيرِ ما موضعٍ من كتابِهِ العظيمِ فقال جل وعـــــلا : ( إِنَّمَا
يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) [فاطر : 28 ] .

بل أشهد اللهُ هؤلاء العلماء على أعظمِ مشهودٍ وهو ألوهية الربِ جل وعلا فقـال سبحانــه : ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) [ آل عمران : 18 ].

وأما ثناءُ عبد اللهِ ورسوله صلى الله عليه وسلم عليهم فقد كثرُ وتنوع ، ومما قالهُ رسول الله ـ صلى الله عليه وآله سلم ـ: ( مُعَلِّمُ الْخَيْرِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الحِيتانُ فِي الْبَحْارِ ) [حديث صحيح] .

وفي البخاري قال ـ صلى الله عليه وآله سلم ـ :
( الأنبياء ورثوا العلم من أخذه أخذ بحظ وافر ومن سلك طريقا يطلب به علما سهل الله له طريقا إلى الجنة ) .

وقد نبه الله جل وعلا تنبيها من باب التعجب فقال : ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ) [ الزمر : 9 ] لا والله لا يستوون مثلاً .

وقد صح في السير والأخبار من حسن تعامل السلف مع علمائهم الشيء الكثير فمنها أن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ذهب لبيت جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ ليتعلم منه فلما قدم وجد جابر نائما فبقي عند البيت ينتظره فلما خرج سلم عليه وقبل يده وقال : (هكذا أمرنا أن نكون مع علمائنا ...) .

----------

وإن أهل السنة وسط في التعامل مع العلماء ، بين غلو الرافضة والصوفية ، وبين جفاء الخوارج الغلاظ ، فأهل السنة لا يدّعون عصمة لعلمائهم ولا يتعصبون لهم مقابل الدليل ولكن لا ينقصون قدرهم ولا يحقرون أمرهم .

وقد كثر الكلام عن هذه المسألة في الآونة الأخيرة بين متعصب قد وضع عقله في يد غيره ، وصار بين يدي شيخه كالميت في يدي مغسله ، وشابه الروافض والصوفية في هذا ، وبين رجل قد نزع الحياء عن وجهه وغلّب السوء وأراد إسقاط أهل الفضل والخير والإيمان فشابه الخوارج في هذا .

والعلماء أضراب وأقسام فمنهم :
------------------

عالم السلطان .

وعالم العامة .

وعالم الملة .

وهاك شيئا من تفصيل هذه الأقسام :

عالم السلطان :
ــــــــ

وهو العالم الذي يفتي ويأمر بهوى السلطان ، فقد يكون له رأي في مسألة ينصره ويؤيده فلما رأى هوى السلطان مال لشيء مال معه ، ولا يظهر لمثل هذا أمر بالمعروف ونهي للمنكر تجاه السلطان أو حاشيته ، بل أشد موقف له مع السلاطين هو السكوت .

وفي مثل هذا قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ : (وَأَيُّ دِينٍ ، وَأَيُّ خَيْرٍ فِيمَنْ يَرَى مَحَارِمَ اللَّهِ تُنْتَهَكُ ، وَحُدُودَهُ تُضَاعُ ، وَدِينَهُ يُتْرَكُ ، وَسُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُرْغَبُ عَنْهَا ، وَهُوَ بَارِدُ الْقَلْبِ سَاكِتُ اللِّسَانِ ؟ شَيْطَانٌ أَخْرَسُ ، كَمَا أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِالْبَاطِلِ شَيْطَانٌ نَاطِقٌ ، وَهَلْ بَلِيَّةُ الدِّينِ إلا مِنْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ إذَا سَلَّمْت لَهُمْ مَآكِلَهُمْ وَرِيَاسَاتِهِمْ فلا مُبَالاةَ بِمَا جَرَى عَلَى الدِّينِ ؟ ، وَخِيَارُهُمْ الْمُتَحَزِّنُ الْمُتَلَمِّظُ ، وَلَوْ نُوزِعَ فِي بَعْضِ مَا فِيهِ غَضَاضَةٌ عَلَيْهِ فِي جَاهِهِ أَوْ مَالِهِ بَذَلَ وَتَبَذَّلَ وَجَدَّ وَاجْتَهَدَ ، وَاسْتَعْمَلَ مَرَاتِبَ الْإِنْكَارِ الثَّلاثَةِ بِحسَبِ وُسْعِهِ . وَهَؤُلاءِ - مَعَ سُقُوطِهِمْ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ وَمَقْتِ اللَّهِ لَهُمْ - قَدْ بُلُوا فِي الدُّنْيَا بِأَعْظَمَ بَلِيَّةٍ تَكُونُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ، وَهُوَ مَوْتُ الْقُلُوبِ ؛ فَإِنَّ الْقَلْبُ كُلَّمَا كَانَتْ حَيَاتُهُ أَتَمَّ كَانَ غَضَبُهُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أَقْوَى ، وَانْتِصَارُهُ لِلدِّينِ أَكْمَلُ) .

وقال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ : ‏وَرَوَيْنَا عَنْ الأستاذ أَبِي الْقَاسِم الْقُشَيْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّه قَالَ :سَمِعْت أَبَا عَلِيّ الدَّقَّاقَ يَقُول : (مَنْ سَكَتَ عَنْ الْحَقّ فَهُوَ شَيْطَان أَخْرَس ) .

فهذا وأمثاله لابد للأمة من بيان حاله لأنه أخطر على الأمة من الفساق والزنادقة لأنــه
يهدم دين الناس بدعوى الإصلاح .

قال تعالى : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ** أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ ) [ البقرة :11،12 ] .

وقد نقل لنا أن أحدهم دخل على الخليفة وهو يلاعب حمائم عنده فقال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : (لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل أو جناح ) فكذب قبحه الله على رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ رغبة بما عند السلطان فويل له يوم يقوم الناس لرب العالمين .

وكم ابتليت هذه الأمة في شتى عصورها بهذا الصنف فيكثرون عندما تمر الأمة بأزمات ويحتاج السلاطين لفتاواهم، وقد رأينا من هؤلاء من يفتى بجواز مظاهرة الكفار على المسلمين ، فذهب ليهدم مذهب أهل السنة في باب الولاء والبراء إرضاء لفلان ، أفلا يكون مثل هذا ظالما ؟؟ بلى وربي .

ألم يسع هذا وأمثاله أن يسكت فيكون شيطان أخرسا ، خيرا من أن يحمل المعول ليهدم ملة إبراهيم ؟ ، مع أن حكامه لم يطلبوا منه ذلك بل قد يسخطهم فعله لأنه مخالف للسياسة.

وصدق في هؤلاء قول الله جل وعلا : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) (المائدة:52) .

اللهم أورثهــم الغمّ والهمّ والحزن والندم على فعلهم هذا ، اللهم وأرهم تبرؤ أسيادهم منهم في الدنيا والآخرة .

ألم يسمعوا هؤلاء قول القاضي أبي الحسن الجرجاني ـ رحمه الله ـ :

يقولون لي فيـك انقباض وإنمـا *** رأوا رجلا عن مواطن الذل أحجما
أرى الناس من دانـهم هان عندهم *** ومـن أكرمته عزة النفس أكرما
وإني إذا ما فـتني الأمـر لـــم أبت *** أقلــب كفــــي إثـــــره تنـدِّمـــــــا
ولم أقض حق العلم إن كان كلَّمـا *** بـدا طمعٌ صـيرتــه لي سـلمــــــا
إذا قيل هذا منهـلٌ قلت قـد أرى *** ولكن نفس الحـرِّ تحتمــــل الظَّمــاَ
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتـي *** لأخَدمَ من لاقيتُ ولكن لأخُدمــاَ
أأشقـى به غرسـاً وأجنيه ذلَّـةً *** إذا فاتباع الجهل قد كان أحزمـــــا
ولـو أن أهل العلم صانوه صانهم *** ولو عظموه في النفوس لَعُـظِّمــا
ولكن أهانـوه فهـان ودنـسـوا *** مـحيـاه بالأطماع حتــــى تجـهمـــــا

أم إن قلوبهم قد خربت وأفهامهم قد بليت وأذواقهم قد أنحطت بحثا خلف منصب أو مال ؟
ويستحق من كان هذا حاله أن يسمى بأبي عامر الفاسق .

عالم العامة :
ـــــــ
وهو الذي ينظر في رغبات الأتباع والجمهور فما وافقهم قال به ، حتى قال بعضهم : بحثا في مسألة حكم بقاء المرأة المسلمة مع زوجها الكافر حتى نجد من يقول بالجواز فلم نجد إلا حكاية قول عند ابن القيم : فأخذنا به !!! .

وأفتى أحدهم لبعض الجنود المنتسبين للإسلام بالقتال مع دولتهم الكافرة ضد المسلمين وأفتى للمسلمين بقتال هذه الدولة !!! فأي عقل مع مثل هذا ؟؟ ، بل أي دين مع هؤلاء الذين ركبوا موجة الفتوى برخص الفقهاء ـ للتيسير زعموا ـ وما هم إلا مفسدون لدين الناس منسلخون من طاعة رب الناس .

وإن كان العلماء قد قرروا أن من تتبع رخص الفقهاء تزندق فيكف بمن تتبع رخص الفقهاء ليفتي الناس بها ؟؟ أفلا يكون زنديقا ؟؟ . وفي أمثالهم قال الله جل وعلا : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [ لأعراف : 175 ]

عالم الملة :
ـــــــ

وهو العالم الموحّد الذي يدعو لتوحيد رب العالمين ، وينهى عن شرك القبور والقصور ، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويظهر الحق ، زاهد في الدنيا ، صاحب نسك وطاعة ، وقد يقع في شبهة أو شهوة ، فنحن لا نشترط في العلماء العصمة ، وتجده يحترق على دين الله تعالى ، يبكي قلبه لمنظر المسلمة التي تنتهك في أفغانستان ؛ أو ذاك الطفل الذي يبحث عن أمه بين ركام دارهم في فلسطين ؛ أو شيخ فانٍ قد وضع العلج الصليبي نعله على وجهه في دار الخلافة بغداد .

وتتفتت كبده لما يسمع زنديقا يقول : ( الله والشيطان وجهان لعملة واحدة ) ، ولا يعتذر لمثل هذا بأي عذر كان ، يأبى عليه دينه إلا قول الحق ، وقد ضعف أحيانا ، أو يتحرف لقتال أعداء الدين والملة أخرى ، قد استجمع شرائط الاجتهاد ، وقد يكون متوليا لمنصب ديني في الدولة ؛ أو عار عن المناصب قد حلق في السماء ، ينظر بعيني البصيرة إلى قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) [آل عمران:18 ]

فيرتعد قلبه ويقول : يا ليتني كنت شجرة تعضد . متوكل على الله فقد علم أن من توكــل
على الله فهو حسبه ( وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[المائدة:23]

وكلما خوفه مخذل تلا عليه قول ربه : (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران:175] .

وازداد يقينه وعلم علم اليقين أن الله حسبه وصدع بقوله تعالى : (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) [آل عمران : 173] .

وعلم أن قول الله : (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران:139] فيه وفي أمثاله من الصادقين ، وقد يخالطه شيء من البخل أو شيء من الخوف من قمع سلطان جائر مما يعتري البشر.

فهذه أقسام العلماء.

وأما القسم الأول والثاني فلابد من بيان حالهم وفساد أفعالهم ليحذرهم الناس ، وهذا التحذير طاعة وعبادة ، وقربة من المولى جل شأنه وتقدست أسماؤه ، وقد يخالط فسادهم مع السلاطين أو العامة فساد في معتقد ، وقد لا يخالطه ذلك .

وكم رأينا من علمائنا من يرد على أمثال هؤلاء الضلال في القديم والحديث ، ومع ردنـا
عليهم يجب مراعاة الأدب الجم وعدم التنقص لعله أن يتوب أو يرعوي ، وقد يتنبـه بعض الأتباع إذا أحسنا العبارة ، فإن التابع قد يرفض الحق إذا صاحبته شدة أو تهكم ، وكـل إناء بما فيه ينضح ، واللسان عنوان ما في القلب .

وأما عالم الحق فنتأول له مالا نتأول لغيره ، ونعذره مالا نعذر غيره ، ونتلطف معــه مالا نتلطف مع غيره ، لكمال فضله وجلالة قدره ، ولا يمنعنا هذا من الرد عليه أبدا ، ولا يقـال سلم منك الترك والديلم ولم يسلم منك أخوك المسلم ، فإن هذا يقال في مقام الرد بجهـل أو ظلم ، وقد تقع المخالفة بزلة عالم ، وفلتته بقول شاذ أو فائل فارد ، لا تجد لـه عليـــه تبيعا ، وهكذا من مسالك الشذوذ الأخرى ، والمغادرة إلى مجاهيل التلون في ديـــن الله ، وضغط الإسلام للواقع ، وتطويع الأحكام الشرعية
للحياة الغربية .

وتفنيد دعاوى الخصوم للدين بغير علم الذين يضغطون الإسلام للواقع ويسخّرون النصوص لآرائهم الشاذة وأقوالهم الفجة من أجل الواجبات وبيان زلة العالم محمدة في الإسلام .

وبيان زلة العالم بأدب مما تميز به منهج أهل السنة والجماعة على سائر الفرق بل على سائر الأديان والملل ، فكل أتباع الفرق والملل هم عبيد لعلمائهم وصدق فيهم قول الله تعالــى : (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة:31) .

أما أهل السنة فقد وضعوا جباههم على عتبات ربهم راغبين وراهبين ، وهو قد وعدهم وأوعدهم وهم بين حبه والخوف منه سائرين إلى جنته برحمة منه وفضل .

ثم إياك ثم إياك أن تغتر بقول من قال : رد على الكفار واترك المسلمين ، أو بين الحـــق للناس وأترك الردود على الخطأ ، فهذا ضعف وخور و نزعة عصرانية خبيثة يسمونها حرية الرأي والتعبير وما هي إلا حرية الكفر والإلحاد والزندقة والفسق .

ولهذا فإذا رأيت من رد على مخالف في شذوذ فقهي أو قول بدعي فاشكر له دفاعه بقدر ما وسعك ولا تخذله بتلك المقولة المهينة (لماذا لا يرد على العلمانيين) فالناس قدرات ومواهب ورد الباطل واجب مهما كانت رتبته وكل مسلم على ثغر من ثغور ملته .

والمعرض عن رد الباطل بعد تذكيره ، يخشى أن يدخل في الذين إذا ذكروا بآيات ربهم : يخرون عليها صما وعميانا .

والبصراء يعرفون أن المخذل قد لا يقصد التخذيل ، وإنما يرمي إلى الاعتذار لنفسه ، عن القيام بهذا الواجب ، وحجب تقصيره عن العذل والملام .

والتخذيل لا يسري في أمة إلا وتعمل على إسقاط نفسها بنفسها ، وتوجد من تقصيرها ، وتخذيل الناصحين فيها ، معاول لهدمها .

وقل لي بربك إذا أظهر المبطلون ـ ولو كانوا متأولين ـ أهواءهم والمرصدون في الأمة :

واحد يخذل وواحد ساكت فمتى يظهر الحق ؟

ألا إن النتيجة تساوي : ظهور الأقوال الباطلة ، والأهواء الغالبة على الدين الحق بالتحريف والتبديل وتغير رسومه في فِطَر المسلمين .

ألا إن السكوت على كل مبطل وباطله أبدا : هو هُنا أبطل الباطل ، وخوض في باطـن الإثم وظاهره .

وأما حال كثير من الناس حال الأتباع الذين أجروا عقولهم لغيرهم بثمن بخس دراهم معدودة ،وباعوا أفهامهم ، بل باعوا خوفهم من الله تعالى لمن وسموهم بسمة المجتهدين والأئمــة الأطهار حتى صاروا إمامية عصرية .

وهؤلاء أعداء كل طالب علم أو عالم يريد الرد على خطأ عالم لعله أن يؤوب ، ويدّعون أن هذا تشهير !! ونقص لحق العلماء الأماجد !!

ويرضون منك بقول: ما بال أقوام يزعمون أن هذه سنة أحمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، وهذا محض افتراء عليه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، لأن هذه العبارة النبوية الشريفة تقال لمن أستتر بخطئه ، ولم يخش أن يضل الناس بسببه .

(وإن المسلم الموحد ليصاب بأذى مضاعف من المُقَرَّنِينَ بالتخذيل ، إذا خفقت في الصف رِيحُهُم ، فما أن يقبض عالم قبضة من الهداية ليرمي بها على بدعة وعماية إلا وترى في الصف نزراً رغبت بطونهم ، ملتفين بملآتهم ، أشغلتهم دنياهم عن آخرتهم دأبهم دأب (المْوَالِسَة) يرمون بالتخذيل والتحطيم صبرة بلا كيل ولا وزن فيبسطون ألسنتهم بالنقد حيناً والاستعداء أحياناً ، وينزلون أنفسهم في (روزنة) يفيضون فيها الحكمة ، والتعقل ، والذكاء الخارق في أبعاد الأمور وهكذا في أمور !

ما إن تفور إلا وتغور ؟ وهم في الحقيقة : المخذلون المنزوون عن الواقع الفرّارون مــن المواجهة وارثوا التأويل الخاطئ لقوله تعالى {عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم}

والذين يلوون ألسنتهم باستنكار نقد الباطل وإن كان في بعضهم صلاح وخير لكن الوهن وضعف العزائم حيناً وضعف إدراك مدارك الحق ومناهج الصواب أحياناً بل في حقيقته من التولي يوم الزحف عن مواقع الحراسة لدين الله والذب عنه ، وحينئذ يكون الساكت عن كلمة الحق كالناطق بالباطل في الإثم .

وأي دعوى لعدم الرد على المخالف هي دعوى خرجت من رحم رافضية صوفية ، وأصحابها يريدون هدم أعلام الإسلام شاؤوا أم أبوا ؛ فإن الرد على المخالف منهج لنا وعقيدة .

وأما محاولة إسقاط العلماء وأننا لا نأخذ عنهم الدين فهذه دعوى للإلحاد والزندقة ، فكيف يأخذ الناس دينهم إن أسقطنا كل عالم زل زلة أو سقط في شبهة أو شهوة ؟؟!!.

كيف للناس معرفة الحلال والحرام ، هل يرجعون لأشباه المتعلمين وأنصاف طلبة العلم مما اشتهر عبر الشبكة العنكبوتية ولا يعرف له أشياخ قرأ عليهم ولا علماء يزكونــه ويثنون عليه ، أم يرجع أحدهم بقلة علمه وضعف إدراكه للكتاب والسنة مباشرة ؟؟!! .

وأنى للعوام بفهم كلام الله تعالى أو كلام رسوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ مباشرة ؟ بل أنى لهم بفهم كلام العلماء ؟؟ .

وأنا لا أعنى أن كلام الله تعالى عسر صعب ، ولكنه يحتاج لأدوات فقدها كثير من طلبة العلم فضلا عن العوام .

وبعد :

فإياك أخي أن ترد على عالم بقصد التشفي وإرواء الغليل لخلاف في مسألة أو فهم دليل ، وليكن مرادك وجه الله وعالج نيتك مرة بعد مرة ، وإياك أن ترد شبهة بأعظم منها أو زلة بأكبر منها ، وعليك بسلوك دروب العلم والعرض على العلماء .

ولا تعجل فتزل قدمك فتدق رأسك ، وإياك ثم إياك وسلوك طريق أرباب المهن الوضيعة ممن رضعوا ألبان أمهاتهم بين الطرقات والسكك فلم يعرفوا الأدب ولا الحياء بزعم أن التشديد والتثريب على المخالف جائز وأن بعض العلماء قد فعله ، فلكل مقام مقال ولكل خطأ رد بحسبه .

ومن سلك هذا المسلك بغير حجة من كتاب وسنة وقد تعرى من الذوق والأدب فقد صدق فيه قول ابن عساكر ـ رحمه الله ـ : ( أعلم يا أخي ـ وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلني وإياك ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته - أن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موتـــه بموت القلب ..) .

وكم من شخص رأيناه قد أطلق لسانه في العلماء ثم سقط على قارعة الطريق وصار عبرة لكل معتبر ، قد بلاه الله بالكبائر ويخشى عليه من الهلاك التام والردة ، وكلما مر عليه عامي استرجع أو محتسب فيقول له : هلا تنحيت عن طريق الناس . وعند الله تجتمع الخصوم .

هذا وقد أكثرت النقل عن كتاب : (الرد على المخالف من أصول الإسلام ) ففتش عنه واغنمه وعض عليه بالنواجذ ، وكرر النظر فيه مرة تلو مرة ، وهو لشيخ من شيوخ الإسلام والمسلمين العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرا لما بين وحقق .

وهذه لبنة في طريق الإصلاح فمن أرادها فليأخذها مشكورا ، ومن أبت نفسه فليتركها فإن لها طالبا سيأخذها بيد شاكرة وعين مقدرة، والله من ورائنا محيط وهو العزيز الحكيم .

وكتبه
عبد الرحمن بن محمد الهرفي ـ الرياض

الكاتب: الشيخ عبدالرحمن بن محمد الهرفي
التاريخ: 01/01/2007