مذكرات مجاهد.الحلقة الرابعة

 

حلقة رابعة من مذكرات المجاهد (أبو حفص العراقي) الذي قتل وهو يدافع عن دين الله، وأرض المسلمين، وعرضهم الذي أنتهكه أعداء الله، عباد الصليب، والفرس المجوس عبدة النار، وبني صهيون، أخزاهم الله، مذكرات كتبت بحبر مداده دماء الشهداء، وأقلام رؤوسها أسنة الرماح، لتظهر إلى العلن بصوت أزيز الرصاص..

حيث يواصل أبو حفص العراقي سرد مذكراته وهو يروي حكايات تكاد لا تصدق عن ثلة من أبناء هذه الأمة هجروا الديار وصحبة الأحباب حباً في الله وطمعاً وطلباً للجنان، تلك الصفوة المختارة التي بدأت في هذه الحلقة أولى عمليات استهداف المحتلين، فراحت تحصد الرؤوس وتحطم الآليات وتسقط الطائرات، وتتزامن معها أولى التضحيات، حينما توقف في محطتهم قطار الشهادة ليحصد أولى ثمرات السعي والجهاد، أبي عبدالله المدني وأبو عكاشة اليمني تقبلهما الله..

تفاصيل ذلك تابعوه على لسان أبي حفص وهو يقول:

كنتُ أرى بعض الإخوة وقد تغيرت أحواله، وأصبح وكأنه في عالم آخر، وكأنه يرى ما لا نرى، فهذا أبو مجاهد الشمري عندما رأيته أول مرة حسبتُ أنه يعاني إعاقة في النطق من كثرة سكوته وسكونه، فهو حتى وأن جلس مع الإخوة في مجالسهم يظل محتفظاً بصمته، مع أنه طالب علم لا بأس به، ولكنه كان كبقية الإخوة ممن يشغل وقته بذكر الله عز وجل، وقراءة القرآن.. ويطول الحديث إذا تحدثنا عن أبي محجن النجدي، فهو كان مرحاً جداً، غير أنه بدأ ينطوي على نفسه شيئاً فشيئاً، ويجد الراحة في مناجاة ربه عز وجل، أما أبو رغد العتيبي فقد بدأ يعاني الكثير من التعب، خاصة وأن ساقه لا يزال الألم يعاودها، إلاّ انه لا يفتر عن الحركة شرقاً وغرباً، بحثاً عن كل ما يوفر لأخوته الراحة والسعادة، لا يعرف ليلاً ولا نهاراً، ففي أي وقت يجد فيه ما يخص الإخوة وخدمتهم هرع إليه، غير آبه بآلامه ومتاعبه، وقد أحسست، كباقي الإخوة، أنه لا بد له من أن يستريح، وكنا جميعا نشفق عليه لما يلاقي من مصاعب ومتاعب، ولا يزيد أمره إلاّ شدة وألماً، أما النوم فأصبح لا يعرف إليه سبيلاً، وكان كل واحد يتمنى أن يرفع عنه شيئاً من آلامه، ولكننا كنا نعجز عن ذلك، فقد كان لا يُجارى ولا يُبارى في خدمة دين الله عز وجل، وكان مثالاً نادراً، ونموذجاً فريداً من القادة الناجحين الذين رزقهم الله نعمة البصيرة، فكان يعرف كيف يملك أسباب النجاح، وقلّما رأيت له نظيراً من القادة الذين خاضوا في هذا الأمر في بلاد الرافدين، فألامير الذي يلاقي من التعب أكثر ما يلاقي جنوده ويكون أكثر اهتمامه منصباً في توفير كل ما من شأنه تسيير الأعمال، ومواصلة القتال، وهو أحق من يُولى هذا الأمر، فكان بين الإخوة وكأنه أخوهم الأصغر، أما أبو يونس اليمني فلم يكن حاله يختلف كثيراً عن صاحبه، فقد كان من أفضل الكوادر، وكان قد نفر إلى أفغانستان منذ عام 1998، وله خبرة ممتازة بكل أساليب القتال والأسلحة، وكان مقاتلاً شرساً قلّ نُظرائه، وكان يمتاز بعذوبة الصوت، فضلاً عن تواضعه، وهدوءه، وحبه لأخوته، وكذلك كان أبو رغد يعتمد عليه في كل صغيرة وكبيرة، فهو يثق به أيّما ثقة، وكانت له زوجة، وابنة صغيرة اسمها (رقية) لم تكن لتُقعده عن الجهاد في سبيل الله، فقد كان الدين يشغل أكثر اهتماماته، ولقد أرخص لأجله دمائه وروحه مع بقية الأخوة، وطالما كان يُنشد للأخوة بأناشيده الحماسية، وكلما سمعتُ تلك الأناشيد التي كان ينشدها هو، ترآءتْ صورته وحركته أمام ناظري، لتعود مخيلتي إلى ذلك المحيط الذي كنتُ أعيش فيه، فقد أغناني الله بهم عن العالم بأسره، وكان لأبي يونس اليمني رفيق سار معه الدرب منذ الخطوات الأولى، ألا وهو أبو عكاشة اليمني، ولم يكن أبو عكاشة ليختلف بجلسته ومتعة الحديث معه عن أبي يونس، ولا تكاد تعرف انه أميرهم من شدة تواضعه وصدقه، نحسبه، والله حسيبه، ولا يغيب عن هذا المقام أبو حكيم اليماني، أو (حكيم) كما كنا نسميه، لما يحمل من الحكمة، ورجاحة الرأي، ناهيك عن العلم الشرعي، وكان عمره يناهز السابعة والعشرين، وقد كان مدرّساً في أحد المعاهد الشرعية، وبلغني عن أحد الإخوة الذين درسوا في ذلك المعهد أنه يقول دخلتُ إلى غرفة أبي حكيم، فرأيتُ مكتوباً على الجدار(هذه غرفة أبو حكيم الذي يعشق الحور العين)، فكان الحال كالمقال، وكان حاضراً في كل صغيرة وكبيرة مع الإخوة، وكانوا يهرعون إليه في كل مسألة، شرعيةً كانت أو شخصية، وكانت روح الدعابة والطرفة حاضرةً فيه، مما شد الإخوة إليه وزادهم تعلقاً به، ولم يكن ذا جسم جسيم، بل كان ضعيف البُنية، قوي الإيمان، صلب الإرادة، وكان من أكثر الناس حرقة وحرصاً على دينه، أما أبو العباس المالكي فكانت له مكانة خاصة في نفوس الإخوة جميعاً، بالرغم من أنه لم يتجاوز الخامسة والعشرين من العمر، أو أقل من ذلك، إلاّ أن رأيه سديد، وكان بديناً جداً حين التحاقه بالجهاد، فكان أبو رغد يُشدّد عليه في التدريب، أكثر من بقية الإخوة، فكان يضغط عليه في اليوم ألف ضغطة مع قلة الطعام، ولذلك كان وزنه يقل بشكل واضح، فما هي إلا أسابيع قليلة حتى أصبح جسده معتدلاً، وكان يعشق الـ(RBG) عشقاً، فلا يفارقها، ولا تفارقه في كل الأحوال، وكان قوياً في تأويل الرؤيا، خاصة وأن الأخوة كانت لهم رؤى عجيبة، لا تعدو كثير منها عن البشرى بالشهادة، وتحذير من أمر ما، أما أبو سليمان النجدي، ذلك الأخ الذي مهما كتبت فلن أمِلَّ ذكراه، وليت لي نصيباً وافراً من دقة الوصف، وحسن التعبير، كي أجزل له العطاء من المدح والثناء، وكان من أقرب الإخوة إلى قلبي، ولما رأيته أول مرة، اُلقي في روعي أني اعرف هذا الشخص معرفة أكيدة منذ مدة بعيدة، إلاّ أن ذاكرتي لا تسعفني لتذكّره، إلاّ أن ذلك كان احتمالاً بعيداً كل البعد، ولم يفارقني ذلك الشعور طيلة كوني في المعسكر، وفي أحد الأيام، وبينما هو وبعض الإخوة يصلون المغرب، كنتُ بقربهم وعيناي لا تفارقان وجهه وحركاته، فلما انتهى من الصلاة أنتبه لأمري، فقال لي لماذا تنظر إلي هكذا، فقلتُ له: والله يا أخي منذ أن رأيتك أول مرة شعرتُ بأني أعرفك منذ زمن بعيد، فضحك وعجب لقولي، فقال: (والله أني كذلك منذ رأيتك أول مرة، أحسست بأني أعرفك منذ أن كنتُ في بلادي) فقلت له: أن هذا لا يعدو تصديقاً لحديث النبي، صلى الله عليه وسلم (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ءإتلف، وما تناكر منها اختلف)، فلله درك يا أبا سليمان، كم هو مُرّ فراقك، وكم هي الحياة لا تستحق أن نحياها وقد فارقها صحبة الخير، ورفقة الجهاد، فوالذي نفسي بيده لا تُشوقني الحور العين إلى الجنة، مهما بلغ وصفها، وليس زُهدا فيها، بقدر ما يُشوقني لقاء الأحبة محمداً وحزبه وثلة الخير المباركة تلك، واني لأنتظر ذلك اليوم الذي يعود فيه اجتماعنا سوية، في خير دار، وعند خير جار، حُسن ظنٍ بالله عز وجل، واني لأحتار ويدور فكري في حلقة مفرغة، فعمّن أكتب، وأي شيء أكتب، فهل لي من الخيال، وحسن المقال ما يستوعب ذلك الحديث عن أولئك الشهداء، ولا زلتُ أقول في نفسي، ترى ما حكمة الله من أن رزقني صحبة هؤلاء، وما الحكمة من بقائي بعدهم، دون أنيس منهم، وأيضاً دون جواب يروي ضمأي, فليت الغضا لم يقطع الركب عرضه، وليت الغضا ماشي الركاب لياليا.

ولا أبرح هذا المقام حتى أعرج على ذكر من أقيم على أكتافه، كبقية الأخوة، أول معسكر للمجاهدين في بلاد الرافدين ألا وهو أبو دجانة اليمني الذي لم أرَ له مثيلاً بهدوئه وسكينته، فكان الوقار تاجاً يتحلى به في الدنيا، فكيف به بتاج الوقار هناك، هنيئاً له، وهنيئاً لأُمٍ وأمة أنجبت هكذا رجل، مفخرة في الدنيا، ومنجاة في الآخرة أن شاء الله تعالى..

كان أبو دجانة كثير الصمت، هادئ السمت، أسمر البشرة، كثير العبَرة، يحفظ كتاب الله، وبعض كتب الحديث، وهناك أيضاً أبو عاصم اليماني فكان كأبي دجانة، وكانت له مكانة مميزة لدى سائر الإخوة، لِما له من ظل خفيف، وأسلوب لطيف، فيا لعذوبة ذلك الصوت، فوالله لم اسمع في حياتي صوتاً يصدح بالآذان أجمل من صوت أبي عاصم، ولم أسمع في حياتي أجمل من قراءة أبي دجانة دون ميل في الرأي، وحينما أعرج على سيرة الأخوة فلابد أن أتوقف عند أبو دجانة الجزائري الذي كان مستنير الوجه، شديد الأتباع لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، كثير العبادات، لا يتكلم إلاّ بالعربية الفصحى، وله نصيب وافر من العلم الشرعي، وكان ممن وصل إلى الفلوجة أيام الحرب الأولى، وبعد الاحتلال كان قد بقى مع بعض الإخوة عند أبي وقاص الفلوجي، فأصطحب أحدهما الآخر غرباً، ليجتمع شملهم بالإخوة في القائم، ومن ثم إلى راوة، وكان يُكِنُّ حباً شديداً للأخوة، فهو عطوف جداً، وكان لا يُبارى في الركض، فقد كان أسرعهم جرياً، واذكر له موقفاً قال فيه أنني أتمنى الزواج في حياتي، لا رغبة، أو شهوة، ولكني أحب أن يكون لي ولد يُبقي ذكري في الدنيا بعد موتي، وكم تحزنني هذه العبارة كلما تذكرتها، ولكني اسأل الله عز وجل أن يخلد ذكره في هذه القصة، أو غيرها لعلها تحقق شيئاً من أمنيته، ولا أدري أي سبب يجعلني أرى صورته في مخيلتي كلما ذكرتُ أذكار الصباح والمساء دون بقية الإخوة، وأتذكر انه قد جلس يوماً وأطال الجلوس وهو يكتب وصيته على أوراق صغيرة، وكلما كُلِف بعمل أنجزه، وعاد لكتابة وصيته، فكنت أقول في نفسي من سيوصل وصيتك إلى أهلك يا أبا دجانة، وسبحان الله الذي لا تعلم نفس بأي أرض تموت، إلا بتقديره وحكمته.

أما أبو الزبير التبوكي فلا يغيب عن ذهني أبداً صوته الخافت وعذوبته وهو يتلو آيات الله في المسجد حين فراغه، وكان متعصباً بعصابة سوداء طيلة يومه وليلته، لا يكاد ينزعها عن رأسه، وكان من أهل الرأي في المعسكر، وينوب أبا أسامة الزهراني إذا غاب عن مجموعته، وكان مرحاً، طيب الحديث، وممن يتقدم الإخوة في الأعمال والتدريب، كنت أتحدث إليه طويلاً في شتى الأمور، وكان هو كذلك يحب الحديث معي خاصة، وهو يحب أن يعرف الكثير عن أحوالنا قبل بدء الحرب، وكم يحز في نفسي وأتألم وأنا أتذكر معاناته، أما أبو خالد الأردني فكم كنت أعجب لهذا الرجل الذي لا يفتر عن صوم يوم وإفطار يوم، وفي أي من تلك الأيام لا يدخل جوفه سوى التمر والخبز والشاي، فمهما تنوع طعامنا لم أره يوماً ذاق غير طعامه المألوف، حتى أن أبا رغد كان يطلب منه، ويُلح عليه بأن يأكل شيئاً من طعامنا فلا يفعل ذلك، وكان رحمه الله من أكثر الإخوة نشاطاً في التدريب بالرغم من صيامه، وكان مولعاً بحمل سلاح الـ (آر بي كي) الثقيلة نوعاً ما، وكان طيباً إلى أبعد الحدود.

في تلك الفترة بدأ خبر المعسكر شائعاً ومعروفاً نوعا ما لدى أهالي مدينة راوة، وكان موقف الإخوة محرجاً للغاية، فالإجراءات الأمنية لا تسمح بمثل هذا الأمر، إلاّ إنه لا حيلة لهم ولا حول ولا قوة، فهل من المعقول أن يقوم الإخوة وهم غرباء بتأمين مأوى ما يزيد على الأربعين أخاً بسلاحهم، مع تأمين احتياجاتهم، إلاَ أن أهالي المدينة كانوا متعاطفين جداً مع الإخوة، مع إن القلة القليلة كانت تزورهم هناك، كصيادي الأسماك الذين ما زالوا يكررون زيارتهم إلينا، وفي غمرة تلك الظروف الصعبة جاءنا خبر نزل علينا كالصاعقة، فبينما كان أبو رغد يسبح في نهر الفرات، قُبيل صلاة الظهر، وكنتُ بقربه أقوم بغسل ملابسه بعد إلحاح مني شديد، جاء أبو أحمد إلى المعسكر ووقف في المركز والإخوة مجتمعين في المسجد، فسألهم عن أبي رغد فأخبروه إنه في النهر، وكانت قسمات وجهه تنبئ بأمر سيئ، فهرع أحد الإخوة إلى النهر لينادي أبا رغد، فخرج من النهر وصعد إلى المعسكر، متكئاً على كتفي، ولما وصل انفرد به أبو أحمد، فحدّثه بحديث ليس بالطويل، فإذا بوجه أبي رغد يتغير لونه وتبدو عليه علامات الحزن والاضطراب، وما هي إلاّ لحظات حتى عرف الجميع بالخبر الذي لم يكن ساراً، ألاّ وهو إن أبا أسامة الزهراني أُسر مع عشرة من الإخوة، فحدثت جَلبَة، وأثّرتْ في نفوس الإخوة جميعاً، فما ترى فيهم وجهاً مستبشراً، أو ثغراً باسماً، فأنفرد أبو رغد بأبي العباس المالكي وأبو يزيد العتيبي، وكان أبو أحمد لم يزل واقفاً في المسجد، وبسرعة لا تعرف التردد عاد أبو رغد للأخوة يُصبّرهم، ويُصبّر نفسه على هذا المصاب الجلل، إلاّ إن العواطف لا يمكن لها ان تتحكم بمجرى الأمور في اللحظات الحرجة وبسرعة غادر أبو رغد مع أبو قسورة السوري وأبو العباس المالكي وأبو وقاص الفلوجي متوجهين صوب المدينة التي يقيم فيها أبو نسيم ليلتقوه.

بعدها عاد أبو رغد رحمه الله إلى المعسكر ليواصل مسيرته ويشق طريقه مع الإخوة إلى الجنة ذلك الطريق الذي حُف بالمكاره، وهنا لا يغيب عن البال ومما تجدر الإشارة إليه ان أبا محمد اللبناني كان قد غادر المعسكر في تلك الفترة، وكان غيابه مفاجئاً ودون أن يعلم أحد منا بذلك سوى أبو رغد وبعض الإخوة، لذلك فأنه لم يكن حاضراً في تلك الإحداث إلاّ إنه لم يكن بعيداً عنها، وكذلك فإنه لم يطل غيابه فكان مُلماً بكل هذه التفاصيل.

حينها كنتُ أريد أن أعود إلى منطقتي بأسرع وقت، والتي يقيم فيها أبو نسيم، لأجلس معه كي أستفسر منه عن بعض الأمور التي تتعلق بالمعسكر ومستقبله، مع أني لا يطيب لي الخروج من المعسكر وفراق الإخوة، ولو لساعات، إلاّ إن ما كان يدور حولي من الأحداث كان يثير شجوني من حال الأخوة، فلا أملك أن أقف متفرجاً، لذلك قررتُ العودة إلى مدينتي للقاء أبي نسيم، ومن ثم أرجع سريعاً إلى المعسكر، وكنت أنتظر فرصة سانحة للنزول، إلاَ إنه لم يأتي أحد من المدينة وكذلك أبو رغد لم تكن له حاجة للذهاب إلى هناك كي أرافقه، وفي أحد الأيام جاء أبو احمد إلى المعسكر قبل الظهر لأمرٍ ما، فأخبرته برغبتي بالذهاب معه إلى أبي نسيم، فلم يمانع، وأخبرني بأنه سيغادر بعد صلاة الظهر، فبقينا قبل الصلاة في النهر، ثم عدنا للمسجد وبقينا جالسين حتى صلينا الظهر، إلاّ إن أبا احمد لم يرغب بالذهاب، لذلك تأخرنا لغير سبب حتى بعد العصر، فقرر أبو أحمد عندها الذهاب، وعندما غيرتُ ملابسي وتركتُ سلاحي وأودعته المخزن، وعدتُ كما لو أنني لازلت طالباً في الجامعة، ودعتُ الإخوة، وقلبي يعتصر ألماً لفراقهم، ولولا تراكُم الأحداث التي كانتْ تجري بلا حُسبان لما فكرت بالعودة لمدينتي مرة ثانية، فمنذ اللحظة الأولى التي وطِئت بها قدماي أرض المعسكر، ومنذ النظرة الأولى التي وقعت بها عيناي على الإخوة، قررت عدم العودة ثانية إلى المنزل مهما كَلّف الأمر، واحتسبتها هجرة في سبيل الله.

على كل حال صحبتُ أبا احمد في طريق العودة حتى وصلنا المدينة ليلاً، وترجلتُ من السيارة قبل أن أصل إلى المنزل بمسافة، فقد كانت الحركة ليلاً قليلة جداً، بل معدومة في تلك الفترة التي تلت الاحتلال، فطرقتٌ باب منزلنا، وفُتح لي الباب، واستقبلني الأهل بذهول، فلم يكن أحد يعرف وجهتي، وسبب غيابي عن المنزل، سِوى أمي وأبي، خاصة وأن الحياة لا زالت شبه متوقفة، فلا مدارس، ولا جامعات، ولا دوائر حكومية، ولا زالت الحياة مُبهمة للجميع, ولا حاجة لتفصيل موقف أهلي مما يجري لي، لأن كل ما حدث كان بعيداً عن تصورهم، خاصة وأنهم لا يعلمون بأني كنت خارج المدينة.. بعدها انتظرت الصباح بفارغ الصبر، وما إن أشرقت الشمس حتى ذهبت إلى أبي نسيم وألتقيته في منزله الجديد، فقد ترك منزله الأول لكثرة المترددين عليه خشية الشبهة، فجلستُ معه وقتاً طويلاً، وكان وقتها يفكر في تأسيس معسكر ثان.

وقتها التقيت بالإخوة الموجودين عند أبو نسيم، وكان عددهم خمسة، إضافة إلى صبي معهم لا يتجاوز عمره الرابعة عشر كان اسمه(عبدالقادر السوري)، وكان أمر هذا الصبي عجيباً، فبالرغم من صغر سنه إلاّ انه كان فطِناً، حذِقاً، مدركاً لكل ما يدور حوله، وعند عبدالقادر نقف وقفات، نسكب عندها الدمع والعبرات، فقد كان رجلاً في أثواب صبي، وأعجب العجب، وأغرب الغرائب كيف أن صبياً في الرابعة عشرة من عمره ينفر للجهاد في سبيل الله، لما يرى من هوان أمته، وتكالب الأعداء عليها، مع أنه ليس ذو علم أو معرفة واسعة بأمور دينه، وما يدعوك للضحك والبكاء في آن واحد هو أن الرجال الذين يُعوّلُ عليهم في مثل هذه الأمور، ومن تتعلق فيهم آمال الأمة، تجدهم نيام، لا تحركهم رؤية الدماء، ولا الأشلاء، ولا يهمهم انتهاك الأعراض في طول البلاد وعرضها، شغلتهم الدنيا عن الآخرة.

وأجمل ما في عبدالقادر هو همته العالية، وإصراره على البقاء في ارض الجهاد، وما يجب الإشارة إليه أن أبا نسيم قد أعاد عبد القادر إلى أهله ثلاث مرات، فلا يكاد يصل حتى يقفل راجعاً، عابراً الحدود لوحده، ليعود إلى حيث الإخوة حتى إنه في إحدى المرات عاد ليجد أهله يقيمون مجلس عزاء له، بسبب وصول أنباء إليهم بأنه قتل في العراق، وتجدر الإشارة أنه في أول دخوله العراق دخل إلى مدينة الفلوجة مع أفواج المقاتلين العرب الذين شاركوا القوات العراقية في كثير من المعارك، وبعد نهاية الحرب، وانكسار الدولة العراقية، استقر عبدالقادر في الفلوجة عند بعض الإخوة كانت بينهم وبيننا علاقة، فأرسلوه إلينا فيما بعد.

كان يقطن مع عبدالقادر أبو أيمن الدمشقي، وأبو مصطفى السوري، و(أبو عبدالله وأبو عبدالرحمن) وهما أخوين توأمان من سوريا وآخرُ رابعاً.

أما أنا فبقيت على حالي لمدة أسبوع تقريباً، وبدلاً من جلوسي في المنزل، وتضييع وقتي، ذهبتُ مع الإخوة إلى معسكرهم الجديد، لحين توفر سيارة تُقلني إلى المعسكر الأول عند إخوتي الأوائل، وكذلك طمعاً مني لأنال أجر صدقة جارية في ترتيب أولى خطوات المعسكر الثاني، وما هي إلاّ ساعات بعد بدء المسير حتى نزلنا في وسط الطريق، لصلاة العصر مع الحاج حسن عارف الذي كان برفقتنا هو الآخر، ثم واصلنا بعدها المسير لنصل إلى غايتنا، وقد نزلنا وأنزلنا معنا إغراضنا مع بعض البنادق، ومن ثم غادرنا الحاج حسن رحمه الله وبقينا نحن الثمانية في ذلك المكان الخالي من السكان، فبدأنا بترتيب أمورنا فيما يخص تنظيف المكان وطبخ الطعام وغيرها من أساسيات المعسكر، وبالطبع قمنا بتنظيم جدول للحراسة الليلية وكان كل اثنين يحرسون سوية لمدة ساعتين، وفي الصباح، وبعد صلاة الفجر وحلقة التحفيظ، نهض الإخوة للتدريب، ولم أستطع أن أكون معهم لبعض الآلام.

وفي ذلك اليوم جاء بعض الإخوة، جالبين معهم بعض الأغراض، وليتابعوا عملهم الجديد بعد فك ارتباطهم بالمعسكر الأول، وشيئاً فشيئاً بدأت الأعداد تتزايد، وبدأ الأمر يأخذ طابعاً أكثر تنظيماً، وكلما مضى عليّ الوقت يزداد شوقي إلى الإخوة في المعسكر الأول، وانتظر الساعة التي سأعود فيها إلى هناك، مع أن الإخوة في المعسكر الثاني لا يقلون شأناً عن الإخوة في المعسكر الأول، إلاّ أنه كم من منزل يألفه الفتى، ويبقى الحنين لأول منزل!

وكما ذكرنا سابقاً بأن أبا محمد اللبناني كان قد غادر المعسكر الأول لسبب غير معروف لدى الإخوة، إلاّ إنه كان مُكلفاً بأمر معين، وبعد أيام قلائل من استقرارنا في ذلك المكان، جاء الخبر بقرب وصول دفعة أُخرى من الإخوة الجدد، فأخذنا ننتظرهم بفارغ الصبر، وفي اليوم التالي، وعند الظهيرة، بُلَّغنا بأنهم سيصلون بعد سويعات، وما هي إلا فترة بسيطة حتى لاحت لنا سيارة بيضاء تقلهم، فبدأ الإخوة ينزلون من السيارة، ونحن نمعن فيهم النظر، وكان كل هؤلاء الإخوة من الشام ومنهم أبو ثابت وأبو الفداء وأبو عمر وأبو سلمة وأبو مصطفى وأبو قتادة، إلا أن واحداً من هؤلاء الإخوة الجدد، كانت عيني وفكري لا يفترقان عن النظر إليه والتمعن فيه، بين مستغرب، ومتعجب لحاله، ألاّ وهو (أبو سهيل اللبناني)، فقد كان شديد بياض البشرة، وكان صبياً صغيراً لا يتجاوز عمره الرابعة عشر، لا تكاد تسمع له صوتاً، لقلة كلامه، وشدّة هدوءه، وأجمل شيء هو المصحف والسواك اللذان يبدوان من جيبه العلوي، فكنت أراه ذاهباً وآيباً وهو يُنزل أغراضه من السيارة، محتفظاً بهدوء وسكينة وكأنه ابن الأربعين عاماً، وبعد نزول الإخوة جميعاً سلمنا عليهم وكان استقبالنا لهم حاراً، وبعد فترة بسيطة جاءت سيارة أُخرى تقل بعض الإخوة، وما فاجأني في تلك الأثناء هو رؤية الأخ العزيز جداً (أبو محمد اللبناني)، وقد رأيته للمرة الأولى بعد غيابه عن المعسكر الأول.

بعدها جلس الجميع في إحدى الغرف فعرّف كل واحد بنفسه للإخوة، ودار حديث لا يخلو من الطرافة واللطافة، استنتجتُ من بعض عباراته بعض ما خفي عني، فعرفتُ سبب غياب أبو محمد اللبناني، فقد غادر ليجلب معه بعض رفقاء الدرب، ليغترفوا من هذا الخير وهبة الله للأمة في هذه الديار، إلاّ أن أكثر ما أثار إعجابي واستغرابي هو اكتشافي بأن الصبي(أبا سهيل) إنما هو(محمد أبن أبي محمد اللبناني)، وبالطبع لم يُصرّح أحد بذلك، إلاّ إنه استنتاج كان في محله، بعد ذلك جلس الإخوة لوجبة الغداء، ولم يكن للمعسكر الثاني نظام تغذية صارم، كما في المعسكر الأول، وكان المكان مليئاً بالحركة والحيوية في سبيل ترتيب الأوضاع للشروع في العمل الأساسي للمعسكر ألاّ وهو التدريب العسكري، واستجلاب المزيد من المقاتلين لتدريبهم، ولم ينقض يوم أو اثنين إلاّ والإخوة كانوا قد بدأوا بترتيب الأعمال وكل ما يتعلق بنظام المعسكر، فكان أشبه ما يكون بخلية نحلٍ دؤوبة الحركة.

في غضون تلك الأحداث المتسارعة كان الإخوة في المعسكر الأول قد قرروا البدء بالعمليات ضد الأمريكان، متخطين بذلك كل الصعوبات التي تقف في طريقهم، خاصة وأن الإخوة قد ضاقوا ذرعاً بالبقاء دون قتال، وأعداء الله يسرحون ويمرحون في الأرض، وفعلاً قد وفقهم الله عز وجل في ثلاث عمليات مباركة، زرعت التفاؤل في قلوب الإخوة، وأربكت عدوهم وقطعت عليه أحلامه الوردية.

وكانت هذه العمليات قد تم تنفيذها قرب مدينة حديثة، فقد ارتأى أبو رغد أن تكون هذه العمليات بعيدة عن منطقة المعسكر، حفاظاً على وجود المعسكر واستمراريته بقدر الإمكان، وكذلك بعيدة عن مدينة القائم نظراً لموقعها الإستراتيجي، وقد أدخلت هذه العمليات الفرحة إلى قلب كل غيور، فلم يسبق للأمريكان أن تلقوا أي ضربة في ذلك الوقت، فهي من أوائل العمليات الجهادية في العراق حتى أن الأمريكان قد أزالوا كل اثر لآلياتهم المحترقة لأنهم لم يعتادوا بعد على ما يكسر هيبتهم المزعومة، وكما كانت هذه العمليات ذات أثر كبير على الأمريكان، كذلك كان لها أثر كبير في نفوس الإخوة فقد بدأت مرحلة جديدة في المعسكر، وبدأت معها معارك الحرب الفعلية وأيام الجد والجهاد في بلاد الرافدين.

عاد أبو محمد اللبناني إلى المعسكر الثاني وكنتُ حينها هناك، وكان الإخوة في المعسكر الثاني مستمرين بمنهجهم التدريبي، وفي اليوم التالي وعند المغرب جاء أبو أحمد برفقة أحد أبناء المنطقة من إخوة الجهاد إلى المعسكر جالباً معه بعض الأغراض والفواكه، وبعد المغرب توجه مباشرة إلى المعسكر الأول، الذي بات يسمى بمعسكر (المأسدة) بعد تلك العمليات الجهادية، فما كدتُ أصدق ذلك إذ صحبته عائداً إلى الإخوة، حيثُ الحياة الحقيقية، بعد أسبوع من الغياب.

استمرت السيارة بالمسير، تلتهم الطريق أمامنا، وتشق الظلام بمصابيحها، فأخذنا نقترب شيئاً فشيئاً من المعسكر، وما حلّت علينا الساعة الواحدة ليلاً إلاّ ونحن على مشارف المعسكر، فما شعرنا إلاّ وثلاثة من الإخوة ينقضون علينا، ليستبينوا شأن تلك السيارة، وهؤلاء هم أبو تمام اليمني وأبو خطاب الليبي وثالثهم أبو خطاب الشمري، ودون شعور مني نزلتُ من السيارة فاحتضنتهم واحداً واحداً، وبعد كلمات ترحيب قليلة وحارة عُدنا للسيارة وتوجهنا إلى المركز لنجد أبو كنعان اليمني جالساً هناك، فنزلنا من السيارة، وأنزلنا كمية من الفواكه جلبناها معنا للإخوة، ثم جلسنا قليلاً نسلم على الإخوة، وقد كان أبو الفتح السوري راقداً على سرير قرب المسجد، فسلمتُ عليه، ولاحظتُ عليه آثار المرض، فأخبرني بأن عقرباً لدغته، بعدها أذنت للصلاة، وصلينا أنا وأبو أحمد وصاحبنا الثالث، وبعد الصلاة جلس أبو احمد مع أبو كنعان اليمني بينما خرج أبو مالك الطائفي وقد أيقظه صوت الآذان، ظناً منه أنه آذان الفجر، فسلمتُ عليه، وسألته عن سبب وجوده في غرفة أبي رغد، فأخبرني بأنه مريض أيضاً.

بعدها عدتُ وجالستُ أبو كنعان وأبو احمد، وسأل أبو احمد عن أبي رغد، فأخبره أبو كنعان بأن أبا رغد قد صحب عدداً من الإخوة وذهبوا ليستطلعوا الطريق علّهم يجدون دورية أميركية ليقوموا بضربها، ولم تمض ساعة من الزمن حتى جاء أبو رغد والإخوة معه، فسلمتُ عليهم، والشوق في صدري أحرقني لفراقهم.

وهكذا أصبح الصباح الذي اعتدتُ أن استفتحه بوجوه الإخوة النيرة، وكان هذا الصباح حافلاً بالاستقبال الحار، والترحاب، وفرحة الاجتماع ثانية، إلاّ أني لاحظتُ أمراً هو ان المسجد قد ارتفع سقفه، وترتّب، فسألت عنه، فقالوا لي بأن أبا عبد الله العتيبي قد قام بهذا العمل قبل ذهابه إلى الفلوجة، فقلتُ لهم: اوَ ذهب أبا عبد الله إلى الفلوجة؟! فأخبروني بأن أبا عبد الله العتيبي وأبو عكاشة اليمني قد ذهبا إلى الفلوجة ليجلبوا لنا كمية من الأسلحة قد جمعها لنا بعض الإخوة عن طريق الأخ عمر حديد، فحزنتُ لعدم وداعهما، وكنتُ قد جلبتُ معي بعض الإغراض لأبي عبد الله اليمني، فلما لم أجده أودعتهما عند أبي رغد، وفي ذلك اليوم كان لدينا عمل جديد ألاّ وهو نقل أغراض المركز مع بعض الأسلحة إلى موقع مجموعة أبي عكاشة اليمني، فبدأنا بنقل بعضها، بينما كان بعض الإخوة يحفرون الخنادق في موقع أبي عكاشة لخزن الأسلحة فيها، وكان هذا الأجراء بسبب شيوع أمر المعسكر نوعاً ما، لذا أردنا ان نختصر الكثير من حركتنا داخل أرض المعسكر تمهيداً لترك الموقع، دون تحديد وجهة معينة لذلك، فقد كان المستقبل أمامنا مجهولاً جداً.

كان الإخوة مثابرين كخلية نحل لا تعرف الفتور، مستمرين بنقل السلاح والأغراض لموقع مجموعة أبي عكاشة، ولم يَحِن وقتْ المغرب حتى لاحتْ لنا من بعيد سيارة متوجهة نحو المعسكر فأرتقبناها لنرى ما ورائها من الأخبار، وقد أصبح مألوفاً لدينا في تلك الفترة أن تأتينا الوفود من أهالي راوة، ولما حلّت السيارة في المعسكر قرب المركز استقبلهم بعض الإخوة منهم أبو الزبير التبوكي، فكان من هؤلاء الضيوف بعض وجهاء المدينة فجلسوا مع الإخوة يتبادلون الحديث فعرض هؤلاء الضيوف المساعدة في كل ما يحتاجه الإخوة في المعسكر، وقد كانوا يتحدثون مع الإخوة وأعينهم تفيض من الدمع لما رأوا من حال الإخوة وبذلهم الغالي والنفيس في سبيل هذا الدين، وبعد غروب الشمس ولما أرادوا الرجوع إلى المدينة همس أحدهم في اُذن أبي الزبير التبوكي قائلاً له: (والله أننا ما جئنا إلاّ لنطلب منكم أن تتركوا هذه المنطقة خوفاً على أنفسنا، ولكننا لما رأيناكم غمرنا الحياء منكم لما عليه حالكم ورقّت لكم قلوبنا، فوالله إنكم لفي أهلكم ودياركم، ولكم منا ما اشتهت أنفسكم)، فسبحان الله كيف شرح الله صدور هؤلاء القوم لمجرد رؤية هذا النموذج البسيط من صفوة الأمة، فقد رأوهم على أرض الواقع كما أحبوا، وكما أحب لهم ربهم، جل وعلا، إلاّ أن أمراً شغل بال الإخوة، فقد ذكر أحد هؤلاء أن قناة الجزيرة الفضائية قد عرضت بالأمس أن اثنين قد قُتلوا أثناء اشتباك مع القوات الأمريكية قرب الفلوجة، ومعهما سيارة "بيك آب" نيسان فوصفوا هؤلاء الاثنين فكان الوصف مطابقاً للأخوة أبي عبد الله المدني كما نسميه وأبي عكاشة، فكان لهذا الخبر أثراً في أنفسنا، فلأول مرة تُزف إلينا بشرى الشهادة لبعض إخواننا بالرغم من أن الخبر لم يتأكد بعد مئة بالمائة، وقد كان أغلب الإخوة تغمرهم الفرحة لذلك دون أن تبدوا عليهم علامات حزن أو غيره أو مما يشير إلى تكدر خاطرهم، وكنت أنظر إليهم بكل دهشة واستغراب، فلأول مرة أرى اُناساً يستقبلون خبر الموت بفرحة شديدة، وما ذلك إلاّ لأن الشهادة هي أسمى أمانيهم، فمن أجلها جاءوا، فليس من المعقول أن يحزنوا إذا ما نالها أحد منهم، وهكذا بتنا ليلتنا ونحن ننتظر الصباح بفارغ الصبر، لنتأكد من هذا الخبر، فما أصبح الصباح حتى أرسلني أبو رغد، أنا وحكيم، وأبو وقاص الفلوجي، وأبو القعقاع الأردني إلى المدينة لنتصل بالفلوجة ونتأكد من حقيقة الأمر، وفعلاً أتصلنا وجاءنا الخبر كما هو، مقتل إخوتنا، فمررنا بعدها إلى السوق، وقمنا بشراء بعض الحلويات والعصير، ثم قفلنا راجعين إلى المعسكر، وما أن اقتربنا من الإخوة حتى أخرج أبو حكيم اليمني بندقيته من نافذة السيارة وأطلق بعض الرصاصات، في إشارة لتصديق الخبر، وفرحته بذلك، وعندما وقفت السيارة عند المركز، تجمع الإخوة حولنا ليسمعوا منا، فقال لهم أبا حكيم:(ابشروا يا إخوة، ابشروا فقد اصطفى الله أخويكم شهداء عنده أن شاء الله، وقد أثخنوا بعدوهم قبل مقتلهم، فأسقطوا لهم طائرة، وأحرقوا آليتين).. فما عدنا نسمع سوى التكبير، وإطلاق الرصاص.

وقام الإخوة بتوزيع الحلوى والعصير ابتهاجاً باستشهاد أخويهم في سبيل الله، غير أن أبا العباس المالكي قد أجهش بالبكاء حزناً عليهم، وقد فُوجئنا بموقفه ذلك، أما أبو يونس اليمني والذي كان أكثر المتألمين لفراق أبي عكاشة رحمه الله، كنا نرقب عينيه فنرى فيهما حزناً عميقاً، إلاّ إنه لم يشأ أن يبكي أمام الإخوة، أما بقية الإخوة فكان موقفهم مليئاً بالمشاعر لا يوصف، لما فيه من عمق المحبة في الله، وصدق النية، نحسبهم والله حسيبهم، ولم يمرّ في حياتي مثل هذا الموقف من شدّة ما رأيت من صدقهم، وكيف أيقنوا بأن الحياة الحقيقية هي في الجنة، لا في سواها، فيفرحون لمن اصطفاه الله لهذه المنزلة، وما هذا إلاّ لصدقهم في طلب الشهادة، وهكذا استقبل الإخوة أولى بشارات الشهادة، ليفتتح أبا عبد الله وأبو عكاشة، رحمهما الله، أول القافلة المباركة، من قوافل الشهداء في بلاد الرافدين.

وللمذكرات بقية..


الكاتب: ابومحمد العراقي
التاريخ: 05/08/2010