اوراق سجين في سجون الطواغيت

 

لحظات وينطلق آذان المغرب في اول آيام رمضان ..

إنها لحظات ذات شجون ، وفي هذا المكان المنقطع عن الدنيا .. إنه رابع رمضان يزورنا في المحنة ..

وقد عودت النفس في مثل هذه الأوقات ، أن أشغلها بالذكر ، أو أي أمر نافع ، وأن لا أسلمها للشجون والذكريات .. خصوصاً اليوم ، وفي مثل هذه اللحظات ..

فإن مشهداً في مخيلتي ، لا ينفك يفجئني في أول يوم ، من كل رمضان في كل عام ..

إنه مشهد الصغار ، يلتفون حول مائدة الإفطار ، ينتظرون الآذان .. وأمهم عجلة تعمل بجد ، ذهاباً وإياباً تجهز لهم إفطارهم، كلهم لم يبلغ سن التكليف .. لكنهم جميعاً يتحمسون للصيام .. خصوصاً في أول أيام هذا الشهر الكريم ..

فهكذا الشأن مع كل جديد .. يتلقاه ويتلقفه الصغار !! غالباً .. بشوق وشغف وحماس ..

نعم .. ولكن الحماس وحده لا يكفي زاداً لمواصلة الطريق .. أليس كذلك ؟

أمد بصري من نافذة سجني الصغيرة ، لألمح جزءاً من منظر الغروب المهيب في صحراء قاحلة .. الشمس تجر ذيولها بدلال عجيب .. وبطئ سريع .. تؤذن بالغروب .. آه ما أقصر الحياة .. سرب من الطيور في الأفق الأحمر القاني ، يتهادى عائداً إلى أعشاشه حيث فراخه ، قبل أن يفجأه الظلام ..

يبادر إلى ذاكرتي رغماً عني قول المعتمد بن عباد في سجنه :

ألا عصم الله القطا في فراخها فإن فراخي خانها الماء والظل


إنها طبيعة البشر وإنسانيتهم ، وآثار الرحمة التي زرعها الله في قلوبهم ، يتراحمون بها .. تغلب على المرء في بعض اللحظات ، مهما كان جلداً صلباً صبوراً ..

أنفض رأسي من هذا .. وأعرض عنه صفحاً .. مستذكراً بعضاً من أبيات كتبتها على جدران زنزانتي الصغيرة في سالف الأيام ؛

أخي إنـنا ما أسأنا الظنون بوعـد الإله القوي المتين

ومـا زادنـا القيد إلا ثباتاً وما زادنا السـجن إلا يقين

وما زاد تعـذيب إخـواننا وقتل الدعاة ولـو بالمئـين

سوى رفع رايــة إيماننا وإظهار توحيد حق وديـن

لمرضاة رب ونصرة دين تطيب السجون وتحلو المنون

لمرضاة رب عـزيز كريم تهون الحياة وكـل البـنون


تقرع ذاكرتي ، في هذه اللحظات ، كلمات صغيري (عمر) يناجي أمه في رمضان سبق :

- ( إن أبي شيخ جيد ، وأنا أحبه ، وأفخر به .. ولكننا نريده معنا هنا ، لا في السجن !!)

- وتبادر أمه ، بتذكيره ببعض معالم الطريق ، فكأني أسمع صدى كلماتها يتردد في هدأة المساء :

- ما هذا يا عمر ؟ ما الذي تهذر به .. ؟

ألم أقل لك مراراً أن أباك إنما سجن لأجل دين الله .. ولأجل دعوته وتوحيده..

ألم أخبرك بقصة إبراهيم عليه السلام ، وكيف ألقي لأجل دعوته في النار ؟

وقصة موسى .. وعيسى وأصحاب الكهف .. وأصحاب الأخدود ..؟

أه يا عُمير .. لا بد وأنك تذكرت أعياداً مضت .. كنت فيها معكم وبينكم ..

فأين قولك لأمك الذي نقلته لي في بداية المحنة ، رداً على من انتقد نهجي : ( أنا أحب أن أكون مثل أبي..وعندما اكبر سأفعل مثل أبي .. وسأجاهد الطواغيت ..)

فما بالك اليوم ..؟ هل استطولت الليالي والأيام ..؟

فإنها يا صغيري أول الطريق ..! أم أن كاهليك الصغيرين قد استثقلا المحنة ..؟

أم تراك استبطأت النصر والفرج ..؟ واستوعرت الطريق ؟

لا زلت أتخيل بريق عينك ، وأنت تحملق في أعداء الله في إحدى مداهمتهم للبيت بعد منتصف الليل ، حين أفقت من تلك الليلة الشاتية من فراشك فزعاً على أصواتهم القبيحة ، وقد انتشروا في أنحاء البيت يبعثرون كل شيء ، ويفتشون كل زاوية .. وسألك علج منهم بصوت أجش : ( أين ابوك ..) ؟

فأجبته دون تردد ، وانت لا زلت قاعداً في فراشك تفرك عينك : ( لا أعرف ..) ! .. وكنت ليلتها تعرف جيداً أين أبوك ..

ولا زلت يا أبا حفص .. أذكر نظراتك – لم انسها – وأنت تحدق بهم في آخر ليلة فارقتكم فيها ، ليلة اعتقالي قبل أربع سنين ، وقد وضعوا القيد في يدي وأحاطوا بي من كل جانب يدفعوني ويتناولوني بهراواتهم وأعقاب بنادقهم ، فألحظك في ظلام الليل على الشرفة تنظر إلي وأنا أنادي : ( لا تخشوهم .. لا تخافوا منهم .. هؤلاء حشرات .. إنهم ذباب) وأتذكر جيداً كيف رسخ ذلك في ذهنك وانطبع في ذاكرتك فحين رأيتني بعد ستة شهور ، يوم نقلت من زنازنهم إلى السجن وذكرتك بتلك الليلة ، قلت على فور : ( نعم اتذكرها جيداً يا أبي .. كنت تقول : لا تخافوا منهم إنهم حشرات إنهم ذباب )

ولا غرابة ان ترسخ في ذهنك الصغير هذه الكلمات بالتحديد ، من بين كثير من اللغط الذي ملأ تلك الليلة الليلاء ..

وذكرتك يومها ببيت لابن القيم سطرته لك في بعض رسائلي في الزنزانة :

لا تخش كثرتهم فهم همج الورى وذبابه أتخاف من ذبان


أتذكره يا عمير .. ؟ لقد كان اعداء الله يشتاطون غيظاً حين يقرؤونه .. وكنت احب تذكيرك به دائماً رغماً عن انوفهم ..

فما بالك اليوم ، تتعجل كوني بينكم ..؟

لا عجب في ذلك .. فلا زلت بعد صغيراً ..

وهذه الطريق طويلة محفوفة بالمكاره ، يتساقط على حافتيها الكبار ..

ويترجل في محطاتها الكثيرون ..

ألم أقل لك ولغيرك مراراً ؛ إن عُمر محنتنا جد قصير مقارنة بمحن إخواننا في غير هذه البلاد ..

إنها البداية يا صغيري .. وهي أول الخطوات في طريق هذه الدعوة الغالية ، والسلعة النفيسة ، التي لا يقوم بها ، ويدفع ثمنها إلا الرجال..

(( رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه * فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ..))

يا سلعة الرحمن لست رخيصة بل أنت غالية على الكسلان

يا سلعة الرحمن لـولا انـها حـجبت بكـل مكاره الإنسان

ما كان قـط مـن متـخلف وتعطـلت دار الجزاء الثاني

لكـنها حجـبت بكـل كريهة ليصد عـنها المبطل المتواني

وتنالها الهمم التي تسـموا إلى رب العـلى بمشـيئة الرحمن


وما أحلى كلمات ابن القيم – والشعر له – حين يصفها بقوله :

( تالله ما هزلت فيستامها المفلسون ، ولا كسدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون .. لقد أقيمت للعرض في سوق من يزيد ، فلم يرضى لها ثمن دون بذل النفوس ، فتأخر البطالون ، وقام المحبون ينظرون ؛ أيهم يصلح أن يكون ثمناً ؟ فدارت السلعة بينهم ، ووقعت في يد (( أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين )) . ولما كثر المدعون المستشرفون . طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حرقة الشجي ، فتنوع المدعون في الشهود ، فقيل: لا تقبل هذه الدعوى إلا ببينة : (( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ))

فتأخر الخلق كلهم ، وثبت أتباع الحبيب في أفعاله وأقواله وأخلاقه .. فطولبوا بعدالة البينة بتزكية ؛ (( يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم )) فتأخر أكثر المحبين وقام المجاهدون ..

فقيل لهم : إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم ، فهلموا إلى بيعة : (( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ))

فلما عرفوا عظمة المشترى ، وفضل الثمن ، وجلالة من جرى على يديه عقد التبايع عرفوا قدر السلعة ، وأن لها شأناً ، فرأوا من أعظم الغبن أن يبيعوها بثمن بخس ، فعقدوا معه بيعة رضوان بالتراضي ، من غير ثبوت خيار ، وقالوا : ( لا نقيلك ولا نستقيلك ) فلما تم العقد وسلموا المبيع ، قيل لهم : مذ صارت نفوسكم وأموالكم لنا ؟رددناها عليكم أوفر ما كانت ، وأضعافها معها، .. (( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون *فرحين بما آتاهم الله من فضله )) .. فحمد القوم عند الوصول سراهم .. وشكروا مولاهم على ما أعطاهم ..

فعند الصباح يحمد القوم السرى ..) أهـ .

لا بد أن تعي هذا جيداً يا بني ، وتحفظه ، لتعرف حقيقة هذه الطريق .. وبعض تكاليفها ..

فلا تستطولها بعد اليوم .. أو تستوعرها ما حييت ..

تذكرتك في زيارتك الأخيرة ..

يومها كنت انظر إلى عينيك بشغف وهما تبرقان فرحاً وسروراً .. على شبك الزيارة .. وانت تقول : بالأمس يا أبت خرجت مع شيخي إلى الصيد .. وأصطدت حمامة لاول مرة بالبندقية ..

نعم يا أبي بالبندقية .. اصطدت حمامة لأول مرة بالبندقية ..

رائع يا عمر ، ممتاز ، الآن جاء دور الصقور ..

قريباً ان شاء الله ، سأعلمك كيف تصطاد الصقور ..

ينطلق الآذان ..

تنقطع الذكريات ..تترقرق دمعة غالية .. أمسحها بسرعة .. أتمتم :

اللهم إن هذا إقبال ليلك .. وإدبار نهارك ..

وأصوات دعاتك ..

فاغفر لي ..


أبو محمد – سجن سواقة

مساء الأول من رمضان سنة 1417
من هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام


الكاتب: ابو عاصم الصومالي
التاريخ: 05/02/2007