غزّة والزّاحفون على أشلاء القضيّة

 

غزّة .. والزّاحفون على أشلاء القضيّة

خليفة بن عربيّ
أكاديميّ وكاتب بحرينيّ

يبرز العمق الإيجابيّ للأزمات من كونها كشفا للحقائق، فالأزمة أيًّا كانت، ومهما كان حجم المأساة فيها، فإنّها تميط اللّثام عن حقائق كثيرة، وتفضح ما سُتر من خفايا، أو هي تظهر للعلن ما خفي عن كثير من النّاس، وهذا هو سرّ الجمال في الأزمات إن صحّ التّعبير، أن يكون فهم الأزمة وعناصر تخلّقها في متناول العامّة من النّاس!!.


ولذلك كان لزامًا على المتعامل مع الأزمات وهو يحاول أن يبحث عن مآلات الخلاص والانفلات منها، أن يُعمل التّفكير في ما يمكن أن تخلّفه من إيجابيّات، إذ إنّ ذلك سبيل ما من سبل الخروج من ظلاماتها.


إنّ هذه الحقيقة ضاربة بجذورها عبر التّاريخ، ولو أنعمنا النّظر في واقعنا وما مرّ علينا من أزمات سنجد الأمر عينا بائنًا، فانظروا على سبيل المثال كيف تيقّن العالم كلّه من انحلال النّظام الرّأسماليّ وجوره من خلال أزمة العالم الماليّة الناتجة من أزمة للرهن العقاريّ، وقسّ على ذلك باقي الأزمات.


أمّا إذا كانت الأزمة أزمة حرب فإنّا أكثر أثرًا في هذا السّياق، فبعض الأزمات ربّما لا تُبرز كامل الحقائق، وربّما تغيب الحقائق عن عامّة النّاس، لكنّ أزمات الحروب أمرها مختلف تماما، فهي لا تُبقي من الخفاء وجها إلاّ وكشفت عنه القناع، إنّها أبلغ أزمة لتعرية الحقائق، لأنّها تعرّي النّفس عن كلّ مضافٍ إليها، حيث الفناء هو الاحتمال الأقوى فيه، وهذا ضدّ مبادئ الحريصين على حياة. وانظروا كيف ظهر الوجه البشع لسياسة ما يسمّى بالولايات المتّحدة الأمريكيّة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حين استوت القضيّة على أصداء الحرب الطّاحنة والّتي ما تزال تدور رحاها سجالا.


والله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم يقرّر لنا تلك الحقيقة في لقطة قصصيّة بديعة يقول فيها المولى جلّت قدرته: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (البقرة:246)

فهؤلاء الملأ المجرمون حاولوا أن يستغلوا الأزمة والمأساة لأجل أن يجمعوا أكبر قدر من المكاسب، فلجئوا إلى نبيّ من أنبياء الله يتقرّبون منه، ويحاولون أن يخدعوا الشّعوب المسكينة الغارقة في سواد المصيبة، حيث جاء أولئك الملأ كما ذكر ابن كثير في وقت سلّط الله فيه عليهم أعداءهم فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأسروا خلقا كثيرا وأخذوا منهم بلادا كثيرة، فخلق أولئك الملأ لأنفسهم صورةً تُكبرهم أمام شعوبهم، فصوّروا للنّاس أنّ شعوبهم تهمّهم، وأنّهم مستعدّون لأن يتّحدوا ويجتمعوا ويعقدوا مؤتمرات القّمّة ويحلّوا المعضلة، بل وصلوا إلى درجة أنّهم طلبوا من ذلك النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن ينتخب لهم قائدا يقودهم للمعركة، لكنّ المعركة والحرب حدّ فاصل، لا يمكن أن ينفذ من بين أدغاله إلاّ المخلصون فعلا، ولذلك حدثت الحقيقة الكونيّة الّتي أشرنا لها وهي: (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ).


لعلّ أولئك الملأ – وسُمّوا ملأ لأنّهم يملؤون العيون رِواءً ومنظرًا، والنّفوس بهاءً وجلالا بوجاهتهم ومكانتهم كما ذكر الرّاغب الأصفهانيّ- استطاعوا أن يغلّفوا عقول شعوبهم وأن يخدعوهم خداعا مؤقّتًا حين جهروا بتلك المطالب السّامية لذلك النّبيّ، لكن ما لبث وأن افتضح أمرهم لمّا حصلت المواجهة وحانت ساعة الحسم الصّارمة.


إنّ أزمة غزّة الأخيرة قد أشاحت الأقنعة الّتي توشّح بها كثرٌ اتّخذوا القضيّة الفلسطينيّة زماما لتحقيق مكاسب ذاتيّة، فظهر أولئك الّذين تكسّبوا من ورائها، وجمعوا الأموال الطّائلة بحجّة الدّفاع عنها، وظهر أولئك الّذين أرادوا أن يصنعوا زعاماتٍ فارغة، وغرقوا في أوحالهم وهم يقفون عاجزين عن تحقيق تهديداتهم بحرق إسرائيل ورميها في البحر، وظهرت الأنظمة الّتي تريد أن تكسب أدوارًا سياسيّة في المنطقة، لتبرز نفسها كمحاور حلّ، ومراكز التجاء سياسيّ لأزمات المنطقة، وظهر الاهتراء الّذي تعاني منه أنظمتنا وهي تتلجلج حائرة في لمّ صفّها لأجل إنجاح ما يسمّى بقمّة موحّدة بله أن يحلّوا القضيّة.


كلّ ذلك لم يكن ليظهر ويبين لولا حرب غزّة الّتي على الرّغم من الجراحات والعذابات الّتي تكبّدناها إلاّ أنّها مسحت الغشاوة عن أعين عامّة الأمّة.


الكاتب: خليفة بن عربيّ
التاريخ: 02/02/2009