بيان: الرد الشافي على وحشية ومزاعم الطاغية القذافي |
|
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزائر 11 ربيع الثاني 1432هـ
الموافــق 16 مــارس 2011م
بيان: الرد الشافي على وحشية ومزاعم الطاغية القذافي
الحمد لله القائل في كتابه الكريم:"ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين" البقرة 251. والصلاة والسلام على أشرف المرسلين القائل في الحديث الصحيح:"ما من امرئ يخذل مسلماً عند موطن تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله عز وجل في موطن يحب فيه نصرته..." وعلى آله وصحبه أجمعين.
* ها هو العالم العربي والعالم الغربي يتفرج على مجزرة فظيعة تدور رحاها على أرض ليبيا المجاهدة دون أن يحركا ساكناً إلا الشجب والإدانة أما العالم العربي المسلم فيسمع من أقصاه إلى أقصاه صيحات الاسذتنجاد وطلب الغوث من بطش مدمر القذافي الطاغية الذي يشن حرباً على شعبه قاصفاً إياه بالأسلحة المدمرة جواً وبحراً وبراً وينعت شعبه بنعوت مهينة فيصفهم بالجرذان والكلاب والجراد، وهي ألفاظ لا يليق أن تصدر ممّن يزعم الأصالة العربية!!! بينما تقف الأنظمة العربية الفاسدة والمفسدة تتفرج على تلك المجازر الفظيعة دون أن تتدخل عسكرياً لإنقاذ المستضعفين العزل من السلاح ولا مساندة الثوار الذين ينقصهم الزاد والسلاح المكافئ لصد هذا العدو الطاغية الصائل الذي يصول على شعبه متوعداً إياه بأن يحيل ليبيا إلى جمرة من نار أو إلى خراب ودمار ما لم تخضع لجنونه وطغيانه والأعجب من هذا كله أن المهلكة السعودية تحرك قواتها لدخول أرض البحرين لا لكي تقف إلى جانب المعارضة - مهما كان اتجاهها - وإنما لتقف إلى صف حاكمها وعائلته التي تمثل الأقلية!!! والسؤال المطروح، لماذا لا تحرك الجزائر بقواتها البحرية والبرية والجوية لمساندة ثوار ليبيا ضد مدمّر القذافي الذي نُزعت منه الشرعية إسلامياً وعربياً ودولياً لاسيما ونحن مع التدخل العسكري العربي الإسلامي ونقف بحزم ضد أي تدخل عسكري غربي؟!!! أمّا العالم الغربي وعلى رأسه أمريكا والذي يملك من الآليات للتدخل أو عدمه الشيء الكثير ولكنه يحركها وفق حساب المصالح الخاصة التي لا تؤمن لا بالشرعية الإنسانية ولا الشرعية الدولية ولا الشرعية الأخلاقية فما يجوز في بلاد يحرم في بلاد أخرى ولو كان حجم الفساد والطغيان يبلغان حد المشابهة والتطابق في البلدين وها هو الغرب وعلى رأسه أمريكا تناور وتداور وتتخابث ريثما يقضي مدمر القذافي على الثوار الأبطال وشعبه وكأنها تعطي للقذافي وعائلته مهلة كافية ليستفرد بالثوار وخصومه!!! ونحن وإن كنّا - بحمد الله – ضد التدخل العسكري الخارجي مبدئياً ولكن أحببنا أن نكشف نفاق العالم الغربي وخاصة أمريكا التي تدوس على كل القيم الإنسانية والقوانين الدولية في سبيل تحقيق مصالحها الأنانية وتلك خصلة شائنة أصبح يعرفها الكبير والصغير، العالم والأمي، السياسي وغير السياسي بالفطرة والحمد لله رب العالمين فهي تُقْدِم أم تُحْجِم وفق مصالحها فقط ولو خالفت العالم كله. أما الأنظمة العربية المنافقة فهي تتظاهر بأنها ضد التدخل العسكري الأجنبي لا حبّا في مدمّر القذافي الذي تعرف طبائعه وتقلباته وهو الذي توعّد شعبه بالدمار وهدّد بالتحالف مع زعيم القاعدة وإعلان الجهاد المقدس وغزو أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط، على طريقة خير الدين وعروج، إذ همه الوحيد بقاؤه في الحكم هو وعائلته مهما كان الثمن، ولكن هذه الأنظمة الطاغية الفاسدة رفضت التدخل العسكري الغربي خوفا من أن تدفعها ظروف مشابهة لما وقع في ليبيا إلى اللجوء لنفس وسائل البطش والقصف الجوي الذي يقوم به مدمر القذافي، فهي في نهاية الأمر لا تقف في صف طاغية ليبيا وإنما تقف هذا الموقف حماية لكراسيها وأنظمة حكمها الفاسدة، فهي تخشى أن يكون الحظر الجوي على ليبيا سابقة تعود عليها بالضرر على المستوى القريب أو المتوسط أو البعيد والدليل على صدق هذه النظرة أنه كان بوسع الدول العربية لو كانت صادقة لقالت: نحن ضد التدخل العسكري الخارجي في القضايا العربية والإسلامية ولكن سوف نقوم بالتدخل العسكري بأنفسنا فنحن أبناء أمة واحدة نقف بجانب المظلوم - حاكماً أو معارضة - ونردع الظالم ولو بالقوة العسكرية إذا فشلت الحلول السياسية السلمية ولو كان الظالم - معارضة أو حاكماً- فها هي السعودية تقف إلى جانب حاكم البحرين ضد المعارضة التي تشكل أغلب السكان بدافع لا يخفى على البصير الفطين والسؤال المطروح، لماذا لم تتحرك قوات درع الجزيرة لنصرة المقاومة في لبنان أو المقاومة في غزة أو لتحرير العراق من الاحتلال الأمريكي؟!!! وفي خضم الشائعات التي تتصاعد يوما بعد يوم والتي مفادها أن النظام الجزائري يقف إلى جانب مدمّر القذافي ضد ثوار ليبيا الأبطال، يتساءل الشعب الجزائري بكل حرقة على مدى صدق هذه الأراجيف من كذبها، ومما زادها انتشارا التزام النظام الجزائري الصمت المطبق، ولكن الأيام القادمة كفيلة ببيان حقيقة الأمر!!!.
* كثيرة هي المزاعم التي كان يتغنى بها طاغية ليبيا في خطبه وتصريحاته زهاء أربعين سنة، وعلى رأس تلك المزاعم تمجيد القيم العربية ألأصيلة من رجولة وشجاعة ونجدة ونخوة وشهامة ودفاع عن المستضعفين والوقوف مع المضطهدين في العالم، والتي دفعت به إلى تبني حركات التحرر في العالم وإمدادها بالمال والسلاح، والترويج لها إعلاميا، مما جعل العالم الغربي يدرج اسمه في قائمة الإرهاب الدولي، والأكثر من ذلك أنه كان يساهم في إسقاط الحكام والأنظمة في القارة الإفريقية، هذا المسلك الذي اشتهر به طاغية ليبيا هو الذي جلب إليه بعض التعاطف من أحرار العالم غاضّين الطرف عن سائر تصرفاته الأخرى التي لا تنسجم مع الحكمة والعقل والرزانة التي تتطلبها السياسة الحكيمة، ولكن قصفُه للشعب الليبي بحراً وبراً وجواً ودون تمييز وبطريقة عشوائية طالت الأبرياء والبنية التحتية للبلاد، أصاب العالم كله بالذهول والدهشة، حتى أن أقرب الناس إليه انقلب عليه وتخلى عنه بل قال بعضهم ممن صحبه لمدة تزيد عن 40 أو 50 أو 60 سنة، ما كان يدور بخلدنا أنه سيقدم على قمع شعبه بتلك الوحشية ونعته بنعوت مشينة وهو الذي كان يحرض الشعوب على الثورة على الحكام وأنظمة الحكم المختلفة وكان ينادي دوماً بنجدة الشعوب المقهورة ومواجهة التدخل الأجنبي وآثاره السيئة في العراق وأفغانستان، ويتغنى بأخلاق الفروسية العربية الأصيلة وحبّه لأمجادهم وتعلقه الزائد عن الحد بالحياة البدوية وتمسكه بخيمته التي يصحبها معه حيثما حل وارتحل، وها نحن في هذا البيان نكشف عن بعض الجوانب التي خالف فيها مدمّر القذافي القيم العربية والإسلامية الأصيلة التي كان ينادي بها في خطبه وتصريحاته.
أولا- ممّا لا شك فيه أن استخدام القصف الجوي والبحري والبري ضد العزل من السلاح أو ضد الثوار الذين لا يمتلكون من الأسلحة ما يمتلكه النظام الفاسد ليس من أخلاق العرب ولا من أخلاق الفروسية العربية وتلك غميزة في شخصية مدمّر القذافي، تكشف زيف ما كان يدعيه طوال فترة حكمه، قال الإمام ابن القيم رحمه الله في شأن الفروسية: فإن الله سبحانه أقام دين الإسلام بالحجة والبرهان، والسيف والسنان، فكلاهما في نصره أخوان شقيقان، وكلاهما شجيع لا يتم إلا بشجاعة القلب وثبات الجنان، وهذه المنزلة الشريفة والمرتبة المنيفة محرمة على كل مهين جبان، كما حرمت عليه المسرة والأفراح، وأحضر قلبه الهموم والغموم والمخاوف والأحزان، فهو يحسب أن كل صيحة عليه، وكل مصيبة قاصدة إليه، فقلبه بالحزن مغمور بهذا الظن والحسبان. وقد عُلم أن الفروسية والشجاعة نوعان: فأكملها لأهل الدين والإيمان، والنوع الثاني مورود مشترك بين الشجعان. وهذا مختصر في الفروسية الشرعية النبوية التي هي من أشرف عبادات القلوب والأبدان، الحاملة لأهلها على نصرة الرحمن، السائقة لهم إلى أعلى غرف الجنان، علقته على بعد من الأوطان واغتراب عن الأصحاب والإخوان، وقلة بضاعة في هذا الشأن، فما كان فيه من صواب، فمن فضل الله وتوفيقه، وما كان فيه من خطأ، فمن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان" وقال أيضاً موضحاً أنواع الفروسية: والفروسية أربعة أنواع:
أحدهما: ركوب الخيل، والكر والفر بها، الثاني: الرمي بالقوس، الثالث: المطاعنة بالرماح، الرابع:المداورة بالسيف، فمن استكملها، استكمل الفروسية، ولم تجتمع هذه الأربعة على الكمال إلا لغزاة الإسلام، وفوارس الدين، وهم الصحابة رضي الله عنهم، وإنضاف إلى فروسيتهم الخيلية فروسية الإيمان واليقين، والتنافس في الشهادة، وبذل نفوسهم في محبة الله ومرضاته، فلم يقم لهم أمة من الأمم البتة، ولا حاربوا أمة قط، إلا وقهروها، وأذلوها، وأخذوا بنواصيها، فلما ضعفت هذه الأسباب فيمن بعدهم، لتفرقها فيهم، وعدم اجتماعها، دخل عليهم من الوهن والضعف بحسب ما عدموه من هذه الأسباب، والله المستعان" بل إنه لا يخالف قواعد الفروسية العربية الأصيلة فحسب، وإنما زاد على ذلك بمخالفة أصول الفروسية الأوروبية في القرون الوسط والتي ظهرت في القرن 11 و12 التي جعلت حداً للوحشية المنافية للأخلاق المسيحية وكبح جماح الرغبات الدنيئة أثناء القتال وأجبر الفرسان على تعلم قواعد الفروسية قبل خوض الحروب وهو دستور يتضمن عشرة بنود منها: عليك أن تدافع عن الضعيف، عليك ألا تكذب أبداً وأن تفي بعهدك، عليك أن تنصر الحق دائماً على الظلم والشر....
والحاصل أن الطاغية القذافي بهذا المعيار يكون فاقدا لأخلاق الفروسية العربية الإسلامية وكذا أخلاق الفروسية في القرون الوسطى فضلا عن التزام القوانين الدولية أثناء الحروب الداخلية.
ثانياً- من أخلاق العرب والمسلمين عدم استخدام سلاح لا يملكه العدو عملا بأخلاق الرجولة والشهامة العربية والإسلامية قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه:"إذا لقيت عدوك فقاتلهم بالسلاح الذي يقاتلونك به" حتى أن الإمام الشوكاني رحمه الله لا يجيز استخدام المدفع لأنه لا يميز بين من يقاتل إذا لم تكن هناك ضرورة ومنع من استخدام أسلحة تحرق الأجساد بالنار لأن الحرب عند فقهاء الإسلام ليست مهنة ممتعة للقنص وإنما هي عملية جراحية تدفع إليها ظروف خاصة والجهاد في الإسلام ليس محكوماً بالهوس والمزاج أو الانفعال والاندفاع الأهوج أو السعي إلى البطش والطيش اتباعاً للهوى والرغبات الرعناء ولكن الجهاد عبادة شرعية محكومة بضوابط وأخلاق وأحكام شرعية ربانية فالجهاد ليس استباحة عامة دون قيد أو شرط ولذلك جعل الإسلام للحرب آداباً قبل المعركة وأثناء المعركة وبعد المعركة وكان له بذلك قصب السبق في إضفاء الأخلاقية على الحرب قبل ظهور دستور الفروسية في القرون الوسطى المسيحية وقبل اتفاقيات جنيف. والحاصل أن جلاد ليبيا استخدم القصف العشوائي براً وبحراً وجواً دون مراعاة أخلاق الحرب العربية والإسلامية والغربية.
ثالثاً- عرف عن العرب وأبطال الإسلام الاقتصاد في الدماء أثناء الحروب ومن أجل ذلك كانوا يحبذون المبارزة الشخصية أو مواجهة الصفوف المتحاربة وجهاً لوجه والأمثلة على ذلك فوق الحصر قديماً وحديثاً فعندما أرسلت فرنسا الجنرال بيجو 1841 إلى الجزائر ووضعت تحت يده الإمكانيات العسكرية الهائلة لمحاربة الأمير عبد القادر ومعه أزيد من 80 ألف مقاتل أي ثلث الجيش الفرنسي بأجنعه وبلغت نفقاته 500 مليون فرنك بعملة ذلك العصر وهو مبلغ هائل كتب إليه الأمير عبد القادر الجزائري الشهم سليل الدوحة النبوية الشريفة وأحد ورثة أخلاقها السامية في الرجولة والبطولة والشهامة كتب إليه هذه الرسالة التي تدل على أخلاق الفارس المسلم النبيل وها هو مكتوب الأمير: " إلى الجنرال 'بيجو' وسائر قواد العسكر الفرنسي بالجزائر السلام على من اتبع الهدى واجتنب الردى، أما بعد قد بلغني أنكم جئتم من فرنسا إلى الجزائر لقتالنا بما ينوف عن ثمانين ألف جندي زيادة على عساكركم السابقة فيها، فاعلموا أنني بعونه تعالى وقوته لا أخشى كثرتكم ولا أعتبر قوتكم لعلمي، إنكم لا تضرونني بشيء إلا أن يضرني الله به، ولا يلحقني منكم إلا ما قدره الله علي وقضاه، وإنني منذ أقامني الله في هذا الأمر وجعلني ضدا لكم ما قاتلتكم بعسكر يكون عدده ثلثا من عساكركم التي تكافحونني بها، ومدة ملكي كما لا يخفى ثمان سنين ومدة ملككم يتعدى مئات السنين وعساكركم كثيرة وآلاتكم الحربية قوية ومع هذا البون العظيم الذي بيني وبينكم فإني أعرض عليكم أمورا فاختاروا واحدة منها وهي:
- إما أن تعطوني ما أحتاجه من أدوات حرب بالشراء، ثم أنظم عسكرا يكون نصف عساكركم الذي تحاربونني به وحينئذ نتحارب.
- وإما أن تبقوا في مواضعكم التي تغلبتم عليها وأبقى أنا في بلادي التي تحت حكمي، ثم لا يقرب أحدنا من الآخر مدة اثنتي عشر سنة فيبلغ عمر ملكي عشرين سنة وحينئذ أقاتلكم، فإن غلبتم فلا عار عليكم، إذ يقال غلبكم رجل له قوة، فيحصل لكم الفخر عند الملوك. وأما اليوم فانتصاري عليكم يعد فضيحة لكم عند الدول، وانتصاركم عليّ لا يعد فخرا حيث أنكم غلبتم رجلا عمر ملكه ثمان سنين ولا قوة عنده يقابلكم بها.
ومن الأمور التي اقترحها عليكم أنكم تبعثون من قبلكم من يعد عسكري، ثم أخرجوا من عندكم في مقابلة كل واحد رجلين من عسكركم، وأعطيكم العهد أنني لا أزيد عسكريا واحدا على ما تعدون، وحينئذ الغالب يملك الوطن.
ومنها أن يخرج المارشال للبراز ويخرج له واحدا من خلفائي، فإن غلب صاحبكم فلا أنازلكم في طريقكم من الجزائر إلى قسنطينة، ومن أراد من المسلمين أهل تلك النواحي البقاء تحت حكمكم فلا نتعرض له. وإن أراد الخروج منها ويلحق ببلادي فأنتم لا تتعرضوا له.
ومنه: "آن ابن الملك يبارزني، فإن غلبته فإنكم ترجعون بعساكركم إلى بلادكم سائر المدن التي في أيديكم الآن بما فيها الذخائر والمهمات، وإن غلبني فإنكم تستريحون مني ويبقى لكم الوطن من غير منازع. فإن اخترتم واحدة من هذه الأمور فلا بد أن تحضروا قناصل الدول ليشهدوا عليكم بقبولكم ذلك، وأما نحن فلا نخالف كلمتنا، وإن استضعفتمونا ولم تبالوا بما قلناه اعتمادا على قوتكم فنحن قوتنا بالله القادر على كل شيء وهو ولينا وناصرنا"، يا لها من رسالة تفيض شجاعة ورجولة وبطولة واعتماداً على الله تعالى والاستنصار به وحده لا شريك له. والعجيب أن الشيخ العلامة الإبراهيمي رحمه الله اقترح حلاً بين الصهاينة الغاصبين وسكان فلسطين المستعمرين يكاد لا يخرج عن روح رسالة الأمير عبد القادر رحمه الله حيث قال: تعالوا يا أصحاب هذه الضمائر المنفصلة... إلى كلمة شواء بيننا وبين اليهود. تعالوا نقامركم مقامرة لا يقترحها إلا عربي، ولا يقدم عليها إلا حر أبيّ، ولكنها مقامرة تفض النزاع الذي أعياكم أمره، وراع العالم شره - في لحظة - دعونا من التقسيم فالرقعة ضيقة بأهلها، ومن الوطن القومي فالكلمة ضائقة بمعناها، وهلمّ بنا إلى الحل الناجز، والفصل الحاجز.
احتشدوا إلى فلسطين جيشا من الصهيونيين من نبت الشرق أو غرس الغرب ولا نشترط إلا أن يكونوا صهيونيين، ونكل إليكم عدده، ونحشد نحن بإزائه جيشا من العرب ولكم علينا أن يكون أقل من جيش اليهود عددا إلى الثلثين، على شريطة واحدة، وهي أن يكون سلاح الفريقين متكافئا في أنواعه وأصنافه وألوانه وأوصافه، ثم اضمنوا لنا البحر أن لا يقذف بمدد، ونضمن لكم الصحراء أن لا يتسرب منها أحد، ولتبقوا أنتم، ويهود العالم، وعرب العالم، نظارة متفرجين لا إعانة ولا إمداد، ولا هجرة ولا جهاد، ثم نفوض إلى الجيشين حل المشكلة بالموت في ميقات يوم معلوم، فإن غلب الصهيونيون سلّمنا في فلسطين، وآمنا بالوطن القومي، وزدنا على ذلك تحية وسلاما، وتهنئة وإكراما، وإن غلب العرب كان الجُعل متواضعا يزينه الرجوع إلى الطبيعة وهو بقاء فلسطين عربية تُظل اليهود الأصلاء بالرعاية والحماية. وتجلي اليهود الدخلاء الذين نجموا مع قرن الصهيونية ودخلوا فلسطين باسمها وعلى صوتها ودعوتها. إنها - كما ترون - مقامرة تنطوي على مغامرة، وإن فيها لكثيرا من المحاباة لليهود. ومع ذلك فقد رضينا ورضي العرب... وأقولها وأنا مسلم، والمسلمون يسعى بذمتهم أدناهم، وعربي والعرب هم الذين وضعوا "كلمة الشرف" للعالم وأفهموه معناها.
فإن لم تفعلوا - ولن تفعلوا - فاعلموا أن أشنع ما يسجله التاريخ تألب أمم على أمة، وانتصار أقوياء لباطل، وإن أقبح ما تقع عليه العيون جان يتجنّى وظالم يتظلم". الحاصل أن مدمر القذافي لو كان صادقاً في بداوته وأخلاقها لدعا إلى مواجهة شخصية بينه وبين خصومه على أرض خلاء دون استخدام سلاح الجبناء "اضرب واهرب" ولكان على رأس جيشه بنفسه كما تنصّ قواعد الفروسية العربية الأصيلة، أما استخدام أسلحة فتاكة لا يملكها الخصم فتلك من خوارم المروءة والرجولة والأنفة العربية.
رابعاً- يظن طاغية ليبيا أن القوة هي الشجاعة وأهل العلم يفرقون بين القوة والشجاعة قال ابن القيم رحمه الله: وكثير من الناس تشتبه عليه الشجاعة بالقوة، وهما متغايران، فإن الشجاعة هي ثبات القلب عند النوازل، وإن كان ضعيف البطش. وكان الصدّيق رضي الله عنه أشجع الأمة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكان عمر وغيره أقوى منه، ولكن برز على الصحابة كلهم بثبات قلبه في كل موطن من المواطن التي تزلزل الجبال، وهو في ذلك ثابت القلب، ربيط الجأش، يلوذ به شجعان الصحابة وأبطالهم، فيثبتهم ويشجعهم، ولو لم يكن له إلا ثبات قلبه يوم الغار وليلته، وثبات قلبه يوم بدر وهو يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله ! كفاك بعض مناشدتك ربك، فإنه منجز لك ما وعدك" [البخاري: (3953)، مسلم: (1763)] وثبات قلبه يوم أحد، وقد صرخ الشيطان في الناس بأن محمدا قد قُتل، ولم يبق أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا دون عشرين في أحد، وهو مع ذلك ثابت القلب، ساكن الجأش، وثبات قلبه يوم الخندق، وقد زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وثبات قلبه يوم الحديبية، وقد قلق فارس الإسلام عمر بن الخطاب، حتى إن الصدّيق ليثبته ويسكنه ويطمئنه، وثبات قلبه يوم حُنين، حيث فر الناس، وهو لم يفر، وثبات قلبه حين النازلة التي اهتزت لها الدنيا أجمع، وكادت تزول لها الجبال، وعّقرت لها أقدام الأبطال، وماجت لها قلوب أهل الإسلام كموج البحر عند هبوب قواصف الرياح، وصاح لها الشيطان في أقطار الأرض أبلغ الصياح، وخرج الناس بها من دين الله أفواجا، وأثار عدو الله لطمس نجوم الاهتداء، وأنكرت الصحابة بها قلوبهم، وكيف لا وقد فقدوا رسولهم من بين أظهرهم وحبيبهم، وطاشت الأحلام، وغشي الآفاق ما غشيها من الظلام، واشرأب النفاق، ومدّ أهله الأعناق، ورفع الباطل رأسا كان تحت قدم الرسول صلى الله عليه وسلم موضوعا، وسمع المسلمون من أعداء الله ما لم يكن في حياته مسموعا، وطمع عدو الله أن يعيد الناس إلى عبادة الأصنام، وأن يصرف وجوههم عن البيت الحرام، وأن يصد قلوبهم عن الإيمان والقرآن، ويدعوهم إلى ما كانوا عليه من التهود والتمجس والشرك وعبادة الصلبان، فشمر الصدّيق رضي الله عنه من جدّه عن ساق غير خوّار، وانتضى سيف عزمه الذي هو ثاني ذي الفقار، وامتطى من ظهور عزائمه جوادا لم يكن يكبو يوم السباق، وتقدم جنود الإسلام فكان أفرسهم إنما همه اللحاق، وقال: والله لأجاهدنّ أعداء الإسلام جهدي، ولأصدقنّهم الحرب حتى تنفرد سالفتي أو أفرد وحدي، ولأدخلّنهم في الباب الذي خرجوا منه، ولأردّنهم إلى الحق الذي رغبوا عنه، فثبّت الله بذلك القلب - الذي لو وزن بقلوب الأمة لرجحها - جيوش الإسلام، وأذّل بها المنافقين والمرتدين وأهل الكتاب وعبدة الأصنام، حتى استقامت قناة الدين من بعد اعوجاجها، وجرت الملة الحنيفية على سننها ومناهجها، وتولى حزب الشيطان وهم الخاسرون، وأذن مؤذن الإيمان على رؤوس الخلائق: (فإن حزب الله هم الغالبون) [المائدة: 56]. هذا، وما ضعفت جيوش عزماته، ولا استكانت ولا وهنت، بل لم تزل الجيوش بها مؤيدة ومنصورة، وما فرحت عزائم أعدائه بالظفر في موطن من المواطن، بل لم تزل مغلوبة مكسورة.
تلك لعمر الله الشجاعة التي تضاءلت لها فرسان الأمم، والهمة التي تصاغرت عندها عليّات الهمم، ويحق لصديق الأمة أن يضرب من هذا المغنم بأوفر نصيب، وكيف لا وقد فاز من ميراث النبوة بكمال التعصيب. وقد كان الموروث صلوات الله وسلامه عليه أشجع الناس، فكذلك وارثه وخليفته من بعده أشجع الأمة بالقياس، ويكفي أن عمر بن الخطاب سهم من كنانته، وخالد بن الوليد سلاح من أسلحته، والمهاجرون والأنصار أهل بيعته وشوكته، وما منهم إلا من اعترف أنه يستمد من ثباته وشجاعته" وقال أيضاً "ولما كانت الشجاعة خُلقا كريما من أخلاق النفس، ترتب عليها أربعة أمور، وهي مظهرها وثمرتها: الإقدام في موضع الإقدام، والإحجام في موضع الإحجام، والثبات في موضع الثبات، والزوال في موضع الزوال. وضد ذلك مخّل بالشجاعة، وهو إما جبن، وإما تهور، وإما خفة وطيش. وإذا اجتمع في الرجل الرأي والشجاعة، فهو الذي يصلح لتدبيره الجيوش، وسياسة أمر الحرب. والناس ثلاثة: رجل، ونصف رجل، ولا شيء.
- فالرجل: من اجتمع له أصالة الرأي والشجاعة، فهذا الرجل الكامل، كما قال أحمد بن الحسين المتنبي:
الرأي قـــبل شجـاعـة الشـجعان هـــو أوّل وهـي المـحـل الثـاني
فإذا همـا اجتـمعـتا لنـفس المــرة بلغـت مـــن العـليـاء كـل مكـان
- ونصف الرجل: وهو من انفرد بأحد الوصفين دون الآخر، والذي هو لا شيء: من عري من الوصفين جميعا"
فالشجاعة ليست تهوراً وإنما اتخاذ الموقف المناسب للظرف المناسب ولذلك عندما قال عمرو بن العاص لمعاوية رضي الله عنه : والله ما أدري يا أمير المؤمنين أشجاع أنت أم جبان ؟! فقال معاوية: شجاع إذا ما أمكنتني فرصة وإن لم تكن لي فرصة فجبان.
والحاصل أن الجبان قد يملك القوة ولكنه لا يملك الشجاعة فالدول الغربية مثلا تملك ترسانة متنوعة من الأسلحة الفتاكة بما في ذلك الأسلحة النووية ولكنها لا تملك جيوشها وقادتها شجاعة العربي المسلم فهي تملك القوة الضاربة ولا تملك الشجاعة الصامدة فالجبن من مساوئ الأخلاق قال ابن القيم رحمه الله: "وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوّذ بالله من الجبن. والجبن خلق مذموم عند جميع الخلق، وأهل الجبن هم أهل سوء الظن بالله، وأهل الشجاعة والجود هم أهل حسن الظن بالله، كما قال بعض الحكماء في وصيته: عليكم بأهل السخاء والشجاعة، فإنهم أهل حسن الظن بالله، والشجاعة جُنة للرجل من المكاره، والجبن إعانة منه لعدوه على نفسه، فهو جند وسلاح يعطيه عدوه ليحاربه به.
وقد قالت العرب: الشجاعة وقاية، والجبن مقتلة، وقد أكذب الله سبحانه أطماع الجبناء في ظنهم أن جبنهم ينجيهم من القتل والموت، فقال الله تعالى: (قُل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل) [الأحزاب: 16]، ولقد أحسن القائل - وهو قطري بن الفجاءة الساري رحمه الله-:
أقــول لـها وقــد طــارت شعـاعا مـن الأبـطال ويـحك لن تُـراعـي
فإنـك لــو سـألـت بـقاء يــــوم عـلى الأجـل الذي لـك لن تـطاعـي
خامساً- يزعم طاغية ليبيا لأنه يحقق انتصارات هنا وهناك رغم أن الحرب غير متكافئة وفاقدة للشرعية والصراع مازال بين فر وكر ولن يحسم كما دلت تجارب التاريخ بالسرعة التي يتصورها الجميع لأن الصراع لم يحسم على المستوى العسكري وإذا حسم على المستوى العسكري فلن يحسم بسرعة على المستوى السياسي فضلا على المستوى الشرعي والأخلاقي والإنساني ويجب أن نعرف أن النصر عند السلف الصالح وأهل العلم نوعان، نصر بالغلبة والقهر ونصر بالحجة والبرهان ولذلك قال أبو القاسم البلخي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى:"ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون" الصافات 171/173:"المؤمنون منصورون أبداً إن غَلبوا فهم المنصورون بالغلبة وإن غُلبوا فهم المنصورون بالحجة ولا يجوز أن ينصر الله الكافر على وجه". ولهذا قال الإمام علي رضي الله عنه:"لا تُقوّين سلطانك بسفك دم حرام" وهذا ما يفعله الطواغيت في العالم العربي تقوية السلطة بالقوة والأجهزة الأمنية وليس بإعطاء الحقوق والعدل وقال أيضاً:"والغالب بالشر مغلوب" وهذا عمرو بن العاص رضي الله عنه عندما سأله معاوية قائلاً:"ما أعجب الأشياء؟" أجابه:"أعجب الأشياء أن المبطل يغلب المحق" ولذلك قال عمار بن ياسر رضي الله عنه الذي قتله الفئة الباغية:"والله لو قاتلونا بسلاحهم وأوصلونا إلى سفعات هجر لعلمنا أننا على حق وأنهم على باطل" وقال عبد الله بن الزبير رضي الله عنه:"والله ما ذل ذو حق ولو تمالأ عليه من بأقطارها ووالله ما عز ذو باطل ولو طلع من جبينه القمر" وقال عمر المختار رحمه الله وهو بين يدي جلاديه:"لئن كسر مدفعكم سيفي فلن يكسر باطلكم حقي".
تنبيه: الفروسية الواجبة على العلماء وطلبة العلم الشرعي.
* على العلماء والدعاة وطلبة العلم الشرعي القيام بواجبهم الشرعي في مساندة المستضعفين في البلاد العربية الإسلامية بالحجة والبيان وعدم التزام الصمت أمام حوادث الوقت أو الاكتفاء بالتفرج عليها، فمن الفروسية بيان الحق والصدع به في وجه الطغاة القساة البغاة قال ابن القيم رحمه الله "ولما كان الجلاّد بالسيف والسنان والجدال بالحجة والبرهان كالأخوين الشقيقين والقرينين المتصاحبين، كانت أحكام كل واحد منهما شبيهة بأحكام الآخر، ومستفادة منه. فالإصابة في الرمي والنضال، كالإصابة في الحجة والمقال والطعن والتبطيل نظير إقامة الحجة وإبطال حجة الخصم، والدخول والخروج نظير الإيراد والإحتراز منه، وجواب الخصم والقرن عند دخوله عليك، كجواب الخصم عما يورده عليك. فالفروسية، فروسيتان: فروسية العلم والبيان، وفروسية الرمي والطعان. ولما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق في الفروسيتين، فتحوا القلوب بالحجة والبرهان، والبلاد بالسيف والسنان. وما كان الناس إلا هؤلاء الفريقان، ومن عداهما، فإن لم يكن ردءا وعونا لهما، فهو كل على نوع الإنسان. وقد أمر الله سبحانه وتعالى رسوله بجدال الكفار والمنافقين، وجلاد أعدائه المشاقين والمحاربين، فعلم الجدال والجلاد من أهم العلوم وأنفعها للعباد، في المعاش والمعاد، ولا يعدل مداد العلماء إلا دم الشهداء، والرفعة وعلو المنزلة في الدارين إنما هي لهاتين الطائفتين، وسائر الناس رعية لهما، منقادون لرؤسائهما".
والحاصل مما تقدم أن الأنظمة العربية الخانعة وخاصة الجزائر التي تدعي دوما مناصرة القضايا العادلة، والوقوف إلى جانب المستضعفين ومساندة الحركات الثورية، قد خذلت ثوار ليبيا وذلك بعدم مد يد المساعدة إليهم وعدم التدخل العسكري لإنقاذ المستضعفين في الأرض الذين يتعرضون للإبادة الجماعية بدعوى عدم التدخل في الشؤون الداخلية رغم أن الكتاب والسنة تنصّان على أن الأمة الإسلامية أمة واحدة وأن القيام بواجب النصرة للمسلمين يجب أن لا تحول دونه الحدود والسدود المفتعلة لاسيما وطاغية ليبيا وأبناؤه قد فقدوا الشرعية بجميع المقاييس بل فقدوا أبسط أخلاق الرجولة والشهامة العربية الإسلامية في مواجهة الخصوم مهما كان نوعهم وأخيرا ما نقوله لإخواننا الثوار الأبطال أحفاد الصحابة وأحفاد عمر المختار رحمه الله ما قاله الله تعالى:"يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون" آل عمران 200 وعدم الالتفات لاتهامات النظام الطاغية الذي نعت أبطال الثورة بشتى النعوت المشينة، فقديماً قيل لصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قد غُرّر بهم قال تعالى:"إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غرّ هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم" الأنفال 49. وعلى رجال الثورة أن يردّدوا قوله تعالى محتسبين صابرين مستمدين العون منه وحده:"وما لنا ألاّ نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون" إبراهيم 12. والله الموفق لكل خير.
بن حاج علي
نائب رئيس الجبهة الإسلامية للإنقاذ