منهج الدعاة الأماجد في مدافعة الفتن والشدائد

 

الحمد لله وحده،والصلاة والسلام على من لا نبي بعده..وبعد:
فإن الله تعالى قدَّر بحكمته الباهرة،وقضى بإرادته القاهرة ، أن يُعرِّض عباده لجزيل ثوابه،وعظيم فضله وإحسانه، بابتلائهم بمحنٍ متعددة،واختبارهم بشدائدَ متكاثرة متنوعة،ليرفع لهم بذلك قدرا،ويعظم لهم في الباقية أجرا،إذ المحنة مدرسة الريادة،وأمارة الاجتباء والولاية،تزكي في أصحابها معاني اليقين،وترسخ فيهم أصول الثبات على الدين ،وهي علامة محبة من الرحمن،ورفعة من الكريم المنان، تذر صاحبها مصفى من أدرانه وذنوبه، مطهراً من خطاياه وعيوبه،كما ثبت في سنن ابن ماجة من حديث سعد بن أبي وقاص، قال: قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: «الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى العبد على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبا، اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة، ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد، حتى يتركه يمشي على الأرض، وما عليه من خطيئة»
وقد ذكر العلامة عز الدين بن عبد السلام رحمه الله فوائد عديدة للمحن منها: معرفة المبتلى عز الربوبية وقهرها وذل العبودية وكسرها،ومنها تعميق الإخلاص في نفسه واللجوء إلى الله تعالى بالتضرع والدعاء ، ومنها تكفيرها لذنوبه وخطاياه ،ومنها أنها تمنعه من الأشر والبطر والفخر والخيلاء والتكبر والتجبر،ومنها أنها تمنحه الرضا الموجب لرضوان الله تعالى..
وعليه:فثمت قواعد حكيمة ، وتنبيهات نيِّرة جليلة ، درج عليها أسلافنا الصالحون ، وسلكها العلماء الربانيون ، في مواجهة المحن والمصائب، ومعالجة الفتن والنوائب ،وها أنذا أسرد بعضها ـ على ضعف الهمة وقلة الزاد ـ راجياً من الله تعالى الصبر والثبات ، ومن القارئ النجيب دعوة بالمغفرة وحسن الثواب،وهذا أوان الشروع في المطلوب فأقول:
1- يتعين على العبد الرباني عند حدوث شدة أو طروء محنة: الفزع إلى الله تعالى بالذكر والدعاء والاستغفار،وطلب المدد والتثبيت منه،وإفراده بالاعتماد والتفويض والتوكل .. وقد روي عن جعفر بن محمد الصادق رضي الله تعالى عنهما قوله:"عجبت لمن يبتلى بالهم كيف لا يقول لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لأن الله تعالى يقول: {فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين} ، وعجبت لمن خاف شيئا من السوء كيف لا يقول: حسبي الله ونعم الوكيل، لأن الله تعالى يقول: {فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم} ، وعجبت لمن يخاف مكر الناس كيف لا يقول وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد، لأن الله تعالى يقول: {فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب}"
2-يتعين على أهل البلوى والتمحيص عند فُجاءة المحنة وفُجاعة الشدة حمل النفس على التصبُّر،ومنعها الجزع والتسخط ،مع وجوب تجديد التوبة وتعهد القلب ولزوم جماعة المؤمنين..
قال ابن تيمية رحمه الله" كثير من الناس إذا رأوا المنكر،أو تغير كثير من أحوال الإسلام،جزع وكلَّ وناح كما ينوح أهل المصائب وهو منهي عن هذا،بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام،وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون،وأن العاقبة للتقوى،وأن ما يصيبه فهو بذنوبه فليصبر،إن وعد الله حق،وليستغفر لذنبه،وليسبح بحمد ربه بالعشي والإبكار.."
3-يتعين على الداعية النجيب عند حلول محنة،مواجهتها والتصدي لها،لا الانزواء والنكوص،أوالفرار منها والانشغال بما هو دونها من صغار المطالب وفروع المقاصد،بل هو مطالب بمراغمة المحنة ومدافعتها،في كل حين وعلى أي حال،لتتحقق فيه العبودية الحقة،فيكون بذلك كما قال ابن القيم "..دائرٌ مع الأمر حيث دار،يدين بدين الآمر أنى توجهت ركائبه.ويدور معه حيث استقلت مضاربه.يأنس به كل محق.ويستوحش منه كل مبطل،كالغيث حيث وقع نفع.وكالنخلة لا يسقط ورقها.وكلها منفعة حتى شوكها.فهو موضع الغلظة منه على المخالفين لأمر الله،والغضب إذا انتهكت محارم الله.فهو لله وبالله ومع الله"
إن سلبية بعض الدعاة في التعاطي مع جراحات الملة ومحن الأمة ، والانزواء والتلهي عنها بجزئيات الأمور وفرعيات المسائل ،والتذرع بتعلات عليلة،وشبه متوهمة سقيمة، مسلك بعيد عن الصواب والسداد ، غريب عن معاني البصيرة والرشاد،واسمع رحمك الله كيف كان الإمام عبد الله بن المبارك يرى القيام والبكاء وقت القتال والنزال شغلاً عن واجب الوقت ،وانظر ملياً في أبياته الرائعة التي بعث بها لصاحبه العابد الزاهد الفضيل بن عياض،أرسلها إليه من طرطوس الشام من بين الدماء والأشلاء، يعاتبه فيها عتاباً قاسياً على انشغاله بالتعبد وقت نزيف الجراحات..
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ... لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه ... فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل ... فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا ... رهج السنابك والغبار الأطيب
لقد أتانا من مقال نبينا ... قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي وغبار خيل الله في ... أنف امرئ ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا ... ليس الشهيد بميت لا يكذب
فلما قرأها الفضيل ذرفت عيناه ثم قال: صدق أبو عبد الرحمن ونصح..
4-يتعين على الدعاة القادة الذين يتصدرون لمدافعة المحن دفع الوهن حال التصدي والمراغمة،والمعالجة والمدافعة، قال تعالى{ولا تهنوا في ابتغاء القوم،إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون}النساء 104
إن ما تمر به الأمة من المحن والفتن، ليحتم تقدم نوع مميز من القادة النجباء،والدعاة النبلاء، لا يتسرب الوهن إلى قلوبهم ، ولا يتوغل الجزع والخور في نفوسهم..إن الأمة تحتاج في أوقات الفتن هذه إلى من يتقن فن إدارة الأزمات ، وتلقي المصائب والبليات ،بثبات دين ورسوخ يقين ،فيجعلون المحن بحول الله منحا ،وإلا كانت عقوبة الاستبدال عياذاً بالله{وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم}سورة محمد 38..
5-يتعين على عموم المؤمنين عند نزول الفتن التزام مجموعة من الضوابط الشرعية في مدافعتها،أسرد أهمها في عجالة تناسب المقام:
*تحقيق التوحيد الخالص لله والإيمان بأن كل ما يصيب الإنسان من فتنة وبلاء إنما هو بقدر الله وقضائه{مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} سورة التغابن 11
وقال صلى الله عليه وسلم: " عليكم بالجماعة , وإياكم والفرقة"
*الابتعاد عن مواطِن الفتنة، ومجانبة أسبابها،وفي صحيح البخاري عن خلف بن حوشب أن السلف كانوا يقولون عند الفتن:
الحـربُ أوّلُ ما تكـونُ فَتِيَّـةً تَسْـعى بِزِينَتِهَا لكلِ جَهـولِ
حتى إذا اشتعلت وشبَّ ضِرَامُها ولَّتْ عجوزًا غير ذاتِ حليـلِ
شمطـاءَ يُكره لونهـا وتغيرت مكـروهـةً للشـمِ والتقبيـلِ
*رد المشتبهات إلى أهل العلم: قال تعالى{فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}.وقال: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم}سورة النساء 83.
*الحلم والتأني في القول والعمل: فإن الأناة من الله، والعجلة من الشيطان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله؛ الحلم، والأناة" ويدخل في هذا التأني والتثبت في قبول الأخبار ونقلها قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}الحجرات6 وفي الحديث: {كفى بالمرء كذباًَ أن يحدث بكل ما سمع}
*ومن ذلك:الثبات على الحق ومواصلة الدعوة إليه وعدم التذرع بانتشار الفتن قال تعالى:{فاستَمسِك بالذي أوحِىَ إليك إِنَّك علىٰ صرٰط مستَقيم}الزخرف:43 وقال تعالى{ الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيبا}الأحزاب 39
* الحذر من النفاق وأهله، حيث تزداد في الفتن شوكتهم وتتعاظم شرورهم، كما قال تعالى{لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}التوبة47
*استشعار البشرى العظيمة في انتصار الدين وأهله:قال تعالى{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } سورة يوسف110.
وفي مسند أحمد بإسناد صحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم" ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر"
وفق الله تعالى الدعاة العاملين في الصبر على المحن النازلات،ومدافعة الفتن والهيشات..والحمد لله رب العالمين



الكاتب: محمد العيساوي
التاريخ: 11/09/2012