مدافع عن بغداد .. قصة قصيرة

 

مدافع عن بغداد

" ما الذي دفعك إلى الانضمام إلى صفوف المقاومة وأنت بهذه السن اليافعة يا بني ",

سألني الرجل العجوز وهو متكأ على رشاشه بيد ويتفقد مخزن رصاصه بالأخرى ,

نظرت إليه وتفحصت معالم وجهه المريحة ونظراته المودعة , حيث انه في مثل هذه العمليات الاحتمالية كبيرة في عدم العودة ,

فقلت له " من الأفضل أن تسمع قصتي كاملة " , أسمي محمد وعمري ثلاثة عشر سنه واسكن في بغداد مع أبي وأمي ..

كانت صفارات الإنذار تدوي في كل مكان منذرة بغارة جوية وكانت أصوات الطائرات والقذائف التي اعتدتنا على سماع أصواتها تأتي بشكل متقطع,

كنت انظر إلى أبي وهو يحاول ضبط المذياع على محطة الأمريكان الجديدة الموجهة للعراقيين لكي يحصل على آخر الأخبار,

كان الصوت ضعيف وبه تشويش ومتقطع, ولكن عبارات مثل " تم قصف القصر الرئاسي " و " القوات الأمريكية على مشارف بغداد ", كانت ترسم الابتسامة على وجه والدي, الذي أطفأ المذياع وقال لي " هانت يا ولدي لم يبقى إلى القليل ويسقط الدكتاتور صدام على يد الأمريكان وتأتي الحرية والحياة السعيدة ",

أنا لا اعلم لماذا أبي يكره صدام ولكن مادام أبي يكرهه فحتما أنا اكرهه, قام أبي واخذ عصاه ولبس شماغه والتفت إلي وقال " هات لي كوبا من الماء يا ولدي ", ثم أخذ ينشد ويرتجز بأناشيد وأشعار لم احفظ منها إلا " جاء يومك يا صدام.. جاء يومك يا صدام ",

ذهبت إلى المطبخ وطلبت من أمي الماء فأعطتني كوبا وقالت بابتسامه " الحق أبوك يا محمد قبل إن يجف حلقه ", أخذت الكوب وركضت إلى المجلس لألحق بابي قبل أن يجف حلقه, دخلت المجلس وأبي مازال على حاله يرتجز وينشد وأنا انظر إليه مبتسما محاولا ترديد بعض أشعاره التي ملئت المكان وغطت على صوت القنابل والطائرات ولم يقطع هذا الصوت إلى شيء كسر النافذة (( بحجم علبة المشروبات الغازية )) يدور بسرعة وله صفير.

أطرق العجوز قليلا ثم رفع رأسه وقال بحزن " قنبلة عنقوديه " قلت " نعم قنبلة الجبناء , لقد ارتطمت برأس أبي..

وتفجرت .. تفجرت وفجرت معها راس أبي..

لقد تفجر راس أبي أمام عيني.. تفجر وارتطمت أشلاؤه ودمائه بوجهي ومعها شظايا القنبلة ونيرانها, طرت في الهواء وارتطمت بجدار الصالة الخارجي وأنا اصرخ بهستيريا محاولا مسح " .. " محاولا مسح " .. " يا الهي كنت أحاول أن امسح دماغ أبي عن وجهي وعيني ".

وضع الرجل العجوز يده على راسي وهو يحاول تهدئة بكائي " يا ولدي المسكين لقد عانيت كثيرا ورأيت الهول ", قاطعته بسرعة وأنا امسح دموع قائلا " لا تتعجل لم تنته القصة بعد "..

تجمع الجيران وحملوني وأنا اصرخ " قتلوا أبي.. أمي لقد فجروا راس أبي.. ألحقيني يا أمي ",

أخذوني إلى المستشفى وأنا بهذه الحالة الهستيرية حيث عانى الأطباء هناك في محاولاتهم لتثبيتي لكي يزيلوا الشظايا من وجهي وصدري بدون مخدر لأنه بكل بساطة غير متوفر في المستشفى لظروف الحرب والحصار,

بعد نزع الشظايا وتضميد الجروح وضعوني في احد الأسياب لعدم وجود غرفة لي حيث أن الغرف تحولت إلى غرف عمليات والجرحى أعدادهم تزداد زيادة لا تتحملها المستشفى,

وضعوني في احد ممرات المستشفى وكان صوت أنيني يضيع في عاصفة الأنين المنطلقة من الجرحى حولي وفي كل مكان, فجأة انقطع التيار الكهربائي..

ودوى صوت انفجارات عنيفة في الطوابق العليا من المستشفى.. ارتجفت الارضيه وتحطم زجاج النوافذ.. أخذ الناس يركضون في كل مكان وهم يصرخون " المستشفى تقصف..

الأمريكان يستهدفون المستشفى.. اهربوا انجوا بأنفسكم " واخذوا يتدافعون إلى البوابات الخارجية سواء أطباء أو ممرضين أو من استطاع المشي من الجرحى,

توقف احدهم وقال للآخر " وماذا عن الجرحى الذين لا يستطيعون الهروب " رد الآخر برعب " لا نستطيع أن نفعل لهم شيئا.. اهرب والى قتلت معهم ",

وبالفعل هربا وتركونا لنواجه مصيرنا لوحدنا.. خمسة أيام ونحن لوحدنا.. خمسة أيام كانت كفيله بإسكات أنين كل من حولي..

وشاء الله أن يأتي أهالي الحي المجاور ليجدوني ما زلت على قيد الحياة,

" سقطت بغداد ", لمعت عينا الرجل العجوز واكفهر وجهه وكأنما لطمه احد, سقطت بغداد وأنا في المستشفى..

ومضى يوم .. فالثاني ..

وفي الثالث أتى عمي لكي يطمأن علي ويأخذني معه,

فرحت لرؤية وجه مألوف تعلقت به وحظنته ثم عاتبته بصوت مبحوح " لماذا تركتموني.. لماذا نسيتموني.. لماذا لم يأتي أحد لزيارتي "

قال عمي بصوت خفيف " يا ولدي ما كان باستطاعتنا الخروج من بيوتنا لقد كان الوضع خطيرا في المدينة المحتلة "..

قلت له " ولكن أين أمي.. لما لم تأتي معك يا عمي أين أمي يا عمي ",

انزل رأسه إلى أسفل قليلا ثم رفعه والدموع تملا عينيه, اتسعت محجرا عيني وأمسكت بثيابه وأخذت أشدها وأنا أقول " أين أمي يا عمي..

ماذا حصل له.. تكلم,ا عمي.. تكلم ", صرخ بي عمي قائلا " كفى يا محمد كفى !! "..

"لم تتحمل أمك فراقك فأصرت على الخروج للاطمئنان عليه رغم تحذيرات الجيران لها بعدم الخروج وخطورة الوضع ولكنها خرجت..

وعند مروها بأحد الجسور اعترضتها فرقة من الجنود الأمريكان

وأوقفوها واخذوا يوجهون لها الاسئله وهي لا تفهم لغتهم ولا إشاراتهم..

أجلسوها واخرج احد الجنود جهاز اللاسلكي واخذ يتصل برؤسائه

وأخطرهم بعثوره على امرائة تمشي على الجسر الذي يقومون بتمشيطه

فرد عليه رئيسه بدون تردد تخلص منها.. تخلص منها فورا وبالفعل وضع راس بندقيته على رأسها وأطلق النار ",

قالها عمي وهو يصر أسنانه, وصرخ قائلا " أطلقوا النار وقتلوا أمك يا محمد !!..

قتلوها وكأنها لا شيء.. قتلوها وكأنها كلب!! ..

قتلوها أمام كمرات الصحافة والتلفزيون والعالم كله..

قتلوا أمك يا محمد ",

فصرخت " لا.. لااا.. أمي لاااااااا "

وأخذت اركض في الأسياب والممرات حتى خرجت من المستشفى,

وهناك رأيت مجموعه من المدرعات والسيارات المصفحة الامريكيه وحولها جموعه من الناس يحتجون عليهم ويطالبونهم بالرحيل,

فاندفعت نحوهم وأنا اصرخ الموت لكم يا خنازير الموت لكم يا كلاب وتناولت حجرا وأخذت ارميهم به وهو كل ما توفر لي في وقتها,

هززت رشاشي وأنا أعطيه الرجل العجوز لكي يتفحصه و يلقمه بالرصاص فأخذه مني وهو يقول " أكمل يا بني لا تتوقف ..

أكمل ", قلت له فلما رأى الناس فعلي فعلوا مثلي وأخذت الحجارة تنهال على الجنود من كل مكان..

فما كان من رئيسهم إلى أن قال " فرقوهم.. أطلقوا عليهم النار "..

وأشار بيده علي.. وفورا بدءوا إطلاق النار.. فأصبت في ذراعي وقدمي

وقتل عدد من المتضاهرين وجرح عدد أخر ’

" قتلوا أبي.. قتلوا أمي.. حاولا قتلي..

أليس هذا سببا كافيا لأنظم إلى المقاومة لأخذ بثأري ", رد العجوز وهو يعطيني رشاشي " الله يلوم من يلومك يابني ",

ثم رفع يده إلى السماء ودعا " يارب... يارب .. يارب احفظ محمد وبلغه غايته في الثأر لأهله..

وارزقه الشهادة مجاهدا في سبيلك.. يارب .. يارب, يارب ",

جاء صوت خفيف من خلفي " استعدوا لقد اقتربت القافلة..

دقيقة ويصل الأمريكان إلى الكمين ", نظر إلي العجوز بإصرار وقال " الآن جاءت فرصتك للثأر..

ولكن كن خلفي ونفذ الخطة بحذافيرها ", اوميت راسي بالاجابه,

لحظات ثقيلة مرت قبل انطلاق إشارة الهجوم " الله اكبر.. الله أكبر.. الموت لكم يا خنازير.. الله أكبر ",

بداء إطلاق النار من كل جانب وهجم الرجل العجوز وهجمت وراءه,

نظرت إلى يساري فإذا جندي أمريكي يحاول الخروج من مركبته المحترقة بفعل قذيفة أحد المجاهدين, وبسرعة صوبت إليه رشاشي وضغطت على الزناد.

. " لا اصدق لقد سقط.. لقد أصبته ",

بسرعة توجهت إلى مكانه لاتاكد من قتله فوجدته يتخبط بدمائه ولكنه مازال حيا,

وقفت فوق صدره ونظرت إليه وهو يحاول أن يمد يده إلى مسدسه, فوضعت فوهت رشاشي على جبهته وأطلقت النار بلا تردد..

انطلقت عدة رصاصات تناثر على أثرها دماغه.. (( كان هذا أجمل منظر رايته في حياتي!! )),

رفعت رشاشي الملطخ بدمه ودماغه وقبلت فوهته, ثم رفعته

وقلت " الله أكبر..

أخيرا..

أخيرا أخذت بثأر أبي..

وثار أمي..

وثأر العراقيون جميعا ",

ولكن سرعان ما تراجعت وقلت " لا.. لا .. هذا لا يكفي.. لا ",
وصرخت" واحد ليس بكفاية"

الكاتب: عبدالله البغدادي
التاريخ: 01/01/2007