رسالة من زوجة وفية لزوجها الشيخ الدكتور عمر عبد الرحمن (فك الله تعالى أسره) |
|
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
زوجة الدكتور عمر عبد الرحمن
الحمد لله رب العالمين يكرم الطائع ويوفقه ويهديه ويرشده ويجتبيه ويسدده .. ويتوب على العاصي ويقبل توبته إن تاب إليه .. والصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي عمت مداخله وكثرة قوافله وعظمت شمائله صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى جميع آله وأصحابه وأحبابه وذريته وأهل بيته وكل من تبع هديه وسلك طريق وتمسك بسنته إلى يوم الدين
أما بعد ..
تحية إليك يا زوجي الحبيب ..
تحية إليك فى كل مكان ..
فى سجنك .. أو فى المستشفى .. فى أبعد البلاد أو فى أقربها ..
تحية إليك من زوجة تزوجتك لله وفى الله وفى سبيل الله ..
تحية إليك من زوجة ظلت وفية صابرة معك .. رغم حرمانها من زوجها وشيخها سنوات طويلة ..
تحية وفاء لك .. تحية أجود لك فيها وفائي .. وأن على عهد الله ثم عهدك صابرة محتسبة .. أصون عرضك وأرب أولادك وأنشر فضلك وأذكرك بكل خير وأصبر على مشقات الحياة ومصاعبها .. وما أكثرها والله ..
تحية إليك يخطها قلبي قبل قلمي .. وتسطرها مشاعري قبل مدادي ..
تحية إليك تقول لك ما قالته السيدة هاجر لزوجها العظيم سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام حينما تركها مع ابنها فى صحراء قاحلة فى مكة : آلله أمرك بهذا ؟ قال: نعم قال : إذاً لا يضيعنا الله . وحقاً رغم الجوع والفقر ..ورغم الحرمان والبعد .. ورغم الألم والحصار .. ورغم غياب كل مقومات الحياة
إلا أن الله لم يضيعنا .. فأولادك جميعاً فى الجامعة .. عمار فى كلية أصول الدين .. وبناتك الأخريات فى كلية الطب جامعة الأزهر .. حقاً إن الله لم يضيعنا .. لأننا جميعاً عشنا لله وفى الله وفى سبيل الله ..
زوجي الحبيب ...
فلتقر عينك .. فأنا أمينة على ميراثك فى الدعوة إلى الله والتربية وحسن تربية أولادك .. إنك لم تترك ديناراً ولا درهماً .. ولكنك تركت سيرة عطرة نعيش عليها .. تركت لنا الإسلام وكفى بها نعمة .. تركت لنا الفضيلة والأمانة والصدق وهى أغلى من كنوز الأرض ..
زوجي الحبيب ...
لقد قال الله تعالى " من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً "
وأحسبك منهم والله حسيبك .. لقد بذلت كل شيء من أجل الدين .. ضحيت بالزوجات .. هجرت الوطن والأحبة .. سجنت سجناً طويلاً فى غربة شديدة وأنت في سن شيخوختك ومرضك ..
تحملت السجن .. والمرض .. وكف البصر .. والغربة فى صبر عجيب ورضا عظيم عن الله وقدره سبحانه ..
إن عطاءك يعجز عنه الشباب القوي الفتى .. لقد أصبحت حجة على كل المسلمين .. فبماذا يحتج المسلمين بتقصيرهم فى الذود عن دينهم .. ومنهم من هو سليم البدن عني المال واسع الثراء لا يعاني مرضا ولا هرماً .. وهو فى الوقت نفسه يتكاسل عن صلاة الجماعة أو نصرة الإسلام بكلمة أو درهم ...
زوجي الحبيب ...
كم كنت تردد قول الصحابي الجليل ..
ولست أبالي حين أقتل مسلماً *** على أي جنب كان فى الله مصرعي
وذلك فى ذات الإله وإن يشأ *** يبارك على أشلاء شلو ممزع
وكأنك اليوم تقول ولست أبالي حين أموت فى سجني أوعلى سرير أو فى السجن .. ولست أبالي حين أموت ها هنا فى وطني أو فى بقعة من أرض الله .. حتى لو كانت أمريكا نفسها .. ولست أبالي حين أموت وحولي أحبتي وأولادي ورحمي وتلاميذي .. أو أموت وحيداً فريداً غريباً فى أرض لا أعرف فيها أحد ولا يعرفني فيها أحد
((((فحسبك يا شيخي وزوجي أن الله يعرفك باسمك وشكلك ولونك والله يختار الشهيد )))
زوجي الحبيب ...
لقد تاجرت مع الله فربح البيع .. لقد أعطيت الدنيا وزهدت فيها .. لقد عدت من البعثة خارج مصر وأنت غني فأصبحت الآن فقيراً سجيناً غريباً ..
لقد كان بوسعك أن تعيش فى بعثات تدريسية مستمرة وتتاجر بالطلاب بالمذكرات وغيرها كما يفعل بعض أساتذة الجامعات ولكنك تركت ذلك .. وتركت أسرتك لله ولولاه لكنا فى مأساة حقيقية .. لقد رفضت حينما كنت أستاذاً فى الجامعة أن تطبع لنفسك مذكرة أو كتاباً تتكسب منه كما يحدث اليوم .. ولكنك كنت تقول للطلبة ذاكروا من أى كتاب تفسير معتمد ومعروف وكلها سواء فى نهاية الأمر ..
ربح البيع يا زوجي الحبيب .. ربح البيع .. لقد تركت القليل من أجل الكثير ..والفاني من أجل الباقي .. والتافه من أجل العظيم .. وما عندك لما عند الله .. وما فى الدنيا من أجل سعة الدنيا والأخرة ..
زوجي الحبيب ...
لقد عشت حياتك كلها معلماً وزاهداً ومجاهداً ومرابطاً .. لقد عهدناك دائماً شجاعاً صابراً صواماً قواماً محتسباً .. لقد عشت فترة طويلة من عمرك محاصرا ً فى منزلك بالفيوم وممنوعاً من الخروج منه.. والكل يعلم أن قرة عينك فى صلاة الجمع والجماعات ولقاء المسلمين الصالحين .. وهداية الخلائق .. فصبرت وتحملت ورضيت عن الله .. حتى بزغ فجر الفرج من جديد .. فخرجت مرة أخرى إلى دعوتك وأحبتك ..
زوجي الحبيب..
أذكرك يوم أن حوصر مسجد الشهداء وقد وقعت على الأرض وأصابك ما أصابك .. والناس كلهم يشاهدونك وأنت الشيخ الضرير الذى تبكيهم قراءته .. الناس كلهم يرون عالمهم وإمامهم وهو يجر على الأرض ,, ولا يستطيعون أن يفعلوا له شيئاً أو يدفعوا عنه .. فيبكي الناس من أجله .. ولسان حالهم يقول عن عمامته البضاء التى سقطت على الأرض ..
لو لم تكن بيضاء ما عبثوا بها *** ولكنها هانت هوان الدين
لقد مرت عليك هذه المحنة الشديدة المحرجة وكأن شيئاً لم يكن .. مرت عليك كغيرها .. ولسان حالك يقول " فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون "
زوجي الحبيب ...
أذكرك يوم دخولك السجن منذ أكثر من ربع قرن وقد كان من عادات السجون فى هذا الوقت العصيب أن يسمى كل واحد نفسه باسم أنثى بلدلاً من أسمه .. ثم يضرب ضرباً مبرحاً .. وذلك لكسر إرادته ورجولته من أول لحظة حتى يعيش حياته فى هذا المكان ذليلاً منكسراً مطأطأ الرأس .. ومن لا يسمي نفسه بذلك يناله عقاب أليم من كل حدب وصوب .. ولكنك رفضت بإباء وشمم أن تفعل ذلك .. وتحملت الأذى الكثير .. ظلت تقول أنا عمر أحمد على عبد الرحمن .. فحفظك الله يا شيخي وزوجي وتقبل الله منك
" الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إن لله وإنا إليه راجعون ... أؤلئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة
زوجي الحبيب ...
كم من مرة كنت تردد أمامنا وفي خطبك ودروسك ومحاضراتك كلمات شيخ الإسلام ابن تيمية " ما يصنع أعدائي بى .. أنا جنتى وبستانى فى صدري .. إينما رحت فهي معى .. فإن سجنوني ففي سجنى خلوة .. وإن قتلوني ففى قتلي شهادة .
زوجي الحبيب ...
كأني أسمعك الآن .. وكأن صوتك الجميل يهز كياني كله وأنت تحكي لنا عن المرسلين وكيف تحملوا أذى قومهم وهم يرددون " وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون "
فالصبر على الأذى والرضا عن الله هو بضاعة الصديقين وشعار الصالحين وهو الذي أهلهم لتولى الإمامة فى الدين وقيادة المؤمنين " وجعلنا منهم ائمة يهدونا بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون "
إنك لم تنل الإمامة فى الدين هكذا دون أن تدفع الثمن .. لقد دفعته أضعافاً مضاعفة .. دفعته من حريتك .. دفعته من غربتك عن أهلك وأولادك .. أنك لم تسعد بأولادك منذ أكثر من خمسة عشر عاماً .. لا تعرف عنهم شيئاً .. دفعته من صحتك ..
وأخيرا :
ها هي الأورام تهاجمك لتأتى على البقية الباقية من صحتك .. إنك لم تبخل على ربك بأي شيء .. أعطيت كل شيء .. دون من ولا أذى ودون إعلام ولا ضجيج .. ودون انتظار ثمن دنيوى .. ودون أن تجعل من ذاتك قضية تريد من الناس أن تحارب عليها أو تتاجر بها .. لقد بذلت بذل الواثق من ربه .. منتظراً الأجر من رب عظيم .. وفى دار غير هذه الدار .. محتسباً أجرك عند الله وحده .. وتأمل يا زوجي الحبيب من تحبسه النيابة هذه الأيام أربعة أشهر كيف يثور الضجيج من أجله وكيف تقوم الدنيا من أجله ولا تقعد .. وكيف يكتب كتاباً عن تضحياته خلال هذه الفترة رغم أنه كان فيها من المنعمين بالنسبة لأمثاله
زوجي الحبيب ...
عز الناصر .. وقل المعين .. ولكن لا تحزن وعش دوماً مع قوله تعالى الذى كنت تردده دائماً " أليس الله بكاف عبده " فالله كافيك فى سجنك .. والله راعيك فى محنتك .. والله حافظك فى غربتك .. والله شافيك فى مرضك .. .. والله مؤنسك فى وحشتك .. والله يرحمك فى هذه الظلمات الحسية التى تعيش فيها .. يرحمك بنور بصيرتك .. يرحمك بضياء الصبر .. " والصبر ضياء " يرحمك بنور القرآن ونور الإيمان ونور اليقين ..
زوجي الحبيب ...
أكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله .. فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن فى الأثر " أن الملائكة لما أمروا بحمل العرش قالوا يا ربنا كيف نحمل عرشك وعليه عظمتك وجلال الله فقال تعالى : قولوا لا حول ولا قوة إلا بالله " فلما قالوها حملوه "
إن المحنة شاقة .. والخطب شديد . البلايا تتكاثر كل يوم عن سابقه .. فقد اقتربت يا زوجي الحبيب من السبعين .. وأنت مريض من قبل بالسكر والضغط وغيرهما .. ثم تأتي هذه المصيبة الكبيرة ورم فى الكبد أو البنكرياس ..
إن جسدك النحيل لا يطيق ذلك .. إن محنتك قد بلغت ذروتها .. وأرجوا أن توشك على الفرج .." اشتدى أزمة تنفرجي .." حديث عظيم نؤمن به دائماً .. ونؤمن به الآن أكثر وأكثر .. ونعيش معه الآن أكثر وأكثر .. نؤمن أن فجر الفرج أوشك على البزوغ .. وليل الإبتلاء قد أوشك على الرحيل .. نريد أن نراك قبل الممات .. نريد أن نسعد بك وتسعد بنا .. نريد أن نلتف حولك .. تضم أولادك وأسرتك إلى صدرك .. وتقر عينك أنك تركت أمانة لم تضيع .. أولادك صاروا فى أحسن حال من الأدب والخلق والدين ..
شفاك الله يازوجي الحبيب
شفاك الله يا فضيلة الشيخ الأسير
شفاك الله يا زوجي المجاهد المريض
شفاك الله يا زوجي الزاهد المحتسب العالم
وأسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك ..
أقولها لك سبع مرات .. لعلها تصلك عبر المحيطات والبحار ..
وعبر السماء والأمطار .. وعبر الجبال والوديان ..
فالله سامعها .. والله عالم بنا
ونسأله سبحانه الاستجابة لدعاء المكروبين من أمثالي
زوجي الحبيب.. يحضرني فى هذه اللحظات قول الشاعر الأخ محمد حسن وهو يناديك ويقول لك :
يا شيخ صبراً ألا طوبى لمن صبروا *** والله يجزيك دار الخلد يا عمر
لله درك لم ترضى بالهون ولم *** تركع لطاغية يوماً كمن فجروا
نطقت بالحق لما القوم قد سكتوا *** فلم تزل صاعداً والغير ينحدر
هلا أستحى من غداً بالجبن معتذراً*** وأنت بالسجن والأغلال تعتذر
أخزى الإله بلاداً قد سجنت بها *** أرض تطاير من طغيانها الشرر
قالوا دمقرطة فيها العدالة لا *** ظلم يحل ولا حيف ولا كدر
أسماء خاوية تلقى حقيقتها *** مثل الخنازير فى أعناقها الدرر
أف لحرية جوفاء كاذبة *** فى دارها قد تساوى الأسد والحمر
فالكفر مهما ارتدى ثوباً ونمقه *** ولو لحين بدا من بعدها العور
أنت البصير بقلب مشرق وهم *** عمى القلوب وإن بالعين قد نظروا
قد كنت للجيل بل لا زلت مدرسة *** تنشأ رجالاً لنصر الدين قد سهروا
فيا ليوم نرى فيه الأحبة فيه قد *** رصوا الصفوف وغاظوا من بهم سخروا
زوجي الحبيب..
أذكرك بكلمات جميلة للشيخ سيد قطب رحمه الله: "إن كلماتنا ستبقى أعراساً من الشموع جامدة لا حراك فيها حتى إذا متنا من أجلها هبت واقفة وعاشت بين الأحياء"
زوجي الحبيب.. فى ختام رسالتي:
لك تحياتي وأشواقي ودعواتي .. وأشواق أولادك الذين يحتاجون إليك اليوم أكثر من أي وقت مضى ..
يحتاجون إلى بركتك وأبوتك ورحمتك وشفقتك وعطفك ..
يحتاجون إلى علمك وفضلك ..
وأنت الآن تحتاج إليهم أكثر من أي وقت مضى لترى برهم وعطفهم وحبهم وتقديرهم لعطائك وبذلك ..
فلك الله يازوجي الحبيب ..
فليس لنا من دونه سبحانه حول ولا قوة ..
وفى الختام لا أقول وداعاً ولكن إلى لقاء
زوجتك المخلصة
المهندسة : فاتن شعيب
25/12/2006
أم عمار
منقول