|
مميز: لقد قامت إدارة تويتر (X) بإيقاف حساب الشيخ في تويتر hamed_alali
وهذا عنوان حسابه الجديد
hamedalalinew |
|
حسين المعاضيدي
الحلقة الأولى:
http://www.iwffo.org/index.php?option=com_content&view=article&id=18795:2010-07
الحلقة الثانية:
http://www.iwffo.org/index.php?option=com_content&view=article&id=18941:2010-07
الحلقة الثالثة :
http://www.iwffo.org/index.php?option=com_content&view=article&id=19167:2010-07
الحلقة الرابعة:
http://www.iwffo.org/index.php?option=com_content&view=article&id=19627:2010-07
الحلقة الخامسة:
http://www.iwffo.org/index.php?option=com_content&view=article&id=19901:2010-08
الحلقة الأخيرة:
جُلّ ما كنت أخشاه في نقلي لهذه المذكرات هو وصولي إلى الحلقة الأخيرة التي لم أكن أريد الوصول إليها، حباً بمثل هؤلاء الرجال، ففي هذه الحلقة ينهمر الدمع، وتخنق النفس العبرات، ويسود الحزن، كيف لا وأعداء الإسلام استهدفوا حتى الماء والحجر والشجر في بلاد الإسلام فكيف الحال بالرجال الرجال من أهل الثغور، الذين هم عماد هذه الأمة، وشريان حياتها، وعصب جودها.
والله كم تمنيت أن لا أصل إلى ختام هذه المذكرات لأنها تشعل في الدواخل حرائق لا يمكن
إخماد لهيبها، لكن عزائي، وعزاء المسلمين في ذلك أنها تُهيم في النفوس حب الله، وتزرع الأمل بغد قادم يحمل في طياته النصر لهذه الأمة، بعدما رأينا صدق هذه الثلة مع الله، وسعيهم الحثيث لنيل الشهادة، وفدائهم لدين الله بالنفس والبنون والمال والأهلون.
يواصل (أبو حفص العراقي)، تقبله الله، سرد مذكراته عن بدايات العمل الجهادي في العراق بعدما وصل فيها إلى خاتمة تلك المرحلة التي تكللت بنيل الشهادة لتلك الصفوة المختارة من أبناء هذه الأمة في حفلة عرس جماعي، حينما زفوا إلى الحور العين جميعاً في ليلة، لم يبصروا نهارها، في طريقهم إلى جنان الخلد، نحسبهم والله حسيبهم، حيث يتحدث (أبو حفص) عن ساعاتهم الأخيرة في هذه الحياة قائلاً:
في هذا اليوم كان كل شيء مميزاً ومختلفاً عن الأيام الخوالي، وكانتْ لهذا اليوم لذة ولذعة غريبتين، فهو لم يكن كغيره من الأيام، فقد حمل في طياته أحداث وأحداث، لكلٍ منها وقفة خاصة في النفس، ويكفيه من الأسى أنه آخر يوم عِشته مع الأخوة، ولم تُبصر عيني أحداً منهم بعده، فلم أُصب بمثل هذا المصاب من قبل، ولا أعتقد بأني سأمر بمثل هذا الشعور مرة أُخرى!
ففي ذلك اليوم قام أبو رغد العتيبي، أمير المعسكر، بنقل أبي طارق اليمني وأبو العباس المالكي، الذي كان لا يزال يعاني من آلامه، مستعيناً بعكازين، إلى البيت الذي أعده للمرضى في مدينة راوة وبعدها أصابت أبو حفص النجدي وأبو البراء العتيبي وعكة صحية، لذلك أضطر أبو رغد إلى نقلهم جميعا إلى بيت المرضى، أما عبد الرحمن فقد قام بالحراسة ذلك اليوم بكامله بناء على طلبه، لذلك كانت حركته نشيطة ويتجول في المكان كما يشاء، وفي ذلك الصباح وصل إلينا نبأ كان له في نفوسنا أشدّ الوقع، فقد علمنا أن الحاج حسن عارف وأبو أحمد كانا يستقلان سيارة مع شخص ثالث، وقد كانوا متجهين إلى ناحية العبيدي في أطراف مدينة القائم لأخذ بعض الأسلحة ونقلها إلى المعسكر الثاني، وعند وصولهم تلك المنطقة قاموا بوضع السلاح في السيارة ثم عادوا من حيث أتو، وفي طريق عودتهم تفاجئوا بأن الأميركان قد نصبوا نقطة تفتيش فُجائية على ذات الطريق الذي سلكوه في مجيئهم، عندها أصبح الموقف حرجاً فلا سبيل للعودة، خاصة وأن الموقف يشير إلى إنهم المقصودين في تلك المفرزة، عندها لم يتبق سوى خيار المواجهة، وكان الحاج حسن عارف الذي يقود السيارة قد أعتاد على حمل مسدس في جنبه، وحينما تقدم نحوهم وأشاروا إليه بإيقاف السيارة، وبكل ثقة واتزان أوقف الحاج حسن السيارة، فتقدم إليه ضابط أمريكي ليتكلم معه، فعاجله الحاج برصاصة في رأسه أردته قتيلاً، عندها انقلبت كل الموازين، وبسرعة فائقة خرج الحاج حسن عارف وأبو أحمد من السيارة فأطلق الحاج الرصاص على الجنود فردوا عليه فأردوه قتيلاً، نحسبه شهيداً، والله حسيبه، وعند هذه النقطة انتهت كل التفاصيل بالنسبة للحاج حسن، ولا أظنه بعد ذلك مهتم بما خلّفه وراء ظهره من الدنيا وما فيها، أما بالنسبة لأبي أحمد وصاحبه، فلا يزال الموقف في بدايته، فقد تشابكت الأيادي بين أبو أحمد وأحد الجنود، حتى أصابوه بجرح، وأجتمع عليه جنود الاحتلال فأخذوه جريحاً، أما الثالث منهما فقد قفز بسرعة من المقعد الخلفي للسيارة إلى مكان السائق، وقام بتحريك السيارة للأمام بسرعة فائقة، مواصلاً السير، يتسابق مع وابل الرصاص الذي أطلقه عليه الأميركان، وأستمر بالمسير حتى أبتعد عن أنظارهم، ثم قفز من السيارة مفضلاً مواصلة الهروب ركضاً، وقد مكنه الله من الهرب، دون أن يصاب بأذى حتى عاد إلى الإخوة وأخبرهم بالخبر، هذا ما بلغنا من أخبار الإخوة وقد وصل إلينا الخبر صباح هذا اليوم، إلاّ إن هذا الحادث قد حدث عصر الأمس، وبالطبع فقد غير هذا الحادث مجرى الأحداث بكاملها، فأصبح لزاماً على الإخوة تغيير كل الأمور والمعلومات التي يعرفها أبو أحمد، خاصة وأنه لا توجد صغيرة ولا كبيرة إلاّ ويعرفها، لذلك فقد كان وضع الإخوة محرجاً للغاية.
بقينا نحن في معسكرنا لا نعلم ما حلّ بالأخوة هناك، ولا نملك لهم سوى الدعاء، وأكثر ما يحزننا هو أسر الأخ أبو أحمد، وقبل صلاة المغرب عاد أبو رغد إلى المعسكر فسألناه إن كان هناك جديد حول أخبار الأخوة فلم يكن لديه شئ عن أخبارهم ، وعندها جلس أبو رغد وحاله لا يوصف لما لقيه الأخوة.
عندها جاء إليه (عبد الرحمن) وقال له أن لدي كمية كبيرة من الأدوية والمواد الطبية في بغداد، فإن شِئتَ أذهبُ غداً إلى بغداد لأحضرها لكم مع بعض الأغراض الأخرى التي تحتاجون إليها في المعسكر، عندها لم يتردد أبو رغد في الموافقة على ذلك الطلب لأنها فرصة سانحة للتخلص من (عبد الرحمن) فلن يُدخله مرة أخرى للمعسكر، عندها أخبره أبو رغد بأنه أذا خرج غداً صباحاً إلى راوة فسيأخذه معه ويوصله إلى حيث سيارات النقل إلى بغداد، وتجدر الإشارة إلى أن أبا رغد كان في أيامه الأخيرة يلاقي من التعب ما الله به عليم، فلم يكن أحد منا يلاقي ما يلاقيه حتى الأخوة الذين يرافقونه دائماً في حله وترحاله، وبالطبع لم تذهب جهوده سدى فقد وفر لنا كمية لا بأس بها من الأسلحة، إلاّ إن الأمر الأهم الذي كان يشغل بال أبي رغد هو إيجاد مكان بديل للمعسكر لنقل الإخوة إليه بأسرع وقت، فحتى الصحراء لم يكن فيها مكان ملائم، فضلاً عن أن بقاء الأخوة في الصحراء لا جدوى منه، فهم لم يتدربوا كي يسكنوا الصحراء بل لقتال أعداء الله والتنكيل بهم، فكان هذا الأمر هو الهاجس الأكبر الذي يؤرق مضجع أبو رغد، وبالرغم من عدم الوصول إلى نتيجة إلاّ إن اليأس لم يكن ليعرف طريقاً إلى قلبه، فلم يكِلّ أو يملّ من ذلك، وبعد صلاة المغرب في ذلك اليوم تناول الإخوة وجبة العَشاء، وبقينا ننتظر صلاة العِشاء حتى حظر وقتها، ثم صلينا وخلد كلٌ إلى فراشه، أما أبو رغد فقد هيأ نفسه للخروج، فقد كان قد أعطى مبلغاً من المال لأحد الأشخاص لشراء كمية من السلاح، فتأخر الموعد وكانتْ هناك مماطلة في الموضوع، فأراد أن ينهي الموضوع فأما أن يأتي بالسلاح، أو يعيد المال من ذلك الرجل، فغادر المكان وبينما نحن نيام وقد بلغت الساعة الثانية ليلاً وإذا بي أسمع صوت إطلاق الرصاص في المعسكر فلم أعلم أفي حلم أنا أم حقيقة !؟ وركّزتُ قليلاً فإذا بالأمر ليس حلماً، فقد سمعتُ صوت أبي رغد وهو ينادي الجميع بأعلى صوته وعلى جناح من السرعة نهضتُ من فراشي ولبستُ حذائي وحملتُ سلاحي فركضتُ مسرعاً إلى جهة الصوت والأخوة بين نائم وغير مصدق لما يسمع والبعض يركض إلى أبي رغد منهم من يحمل سلاحه ومنهم من دون سلاح، ولم أشعر بنفسي إلاّ وأنا أقف بين يدي أبي رغد مع بعض الإخوة ورأيت أبو رغد يحمل بندقيته الصغيرة، وقد أشار لأبي يزيد العتيبي بأن لا يسمح لبقية الأخوة أن يحضروا إليه، عندها توقف كلٌ في مكانه ولا أحد يعرف شيئاً مما يدور حوله، وبعد أن رأيتُ ذلك المشهد استنتجت بأن أبا رغد قد قام باستنفار للأخوة ليعرف مدى استعدادهم إذا ما داهمهم العدو، فبدأ يتكلم كلاماً شديداً على الإخوة الذين تأخروا في الحضور، موصياً الجميع بوجوب أخذ الحذر، وعدم الغفلة عن السلاح، وأن لا نعطي ظهورنا لأعدائنا لنكون لهم لقمة سائغة، ثم دوّن أسماء الإخوة الذين حضورا بسلاحهم وأمتعتهم وقال بأنهم سيخرجون في أول عملية أن شاء الله وقبل أن ينصرف قال أبو رغد (بلغنا بأن الأخ أبو احمد موجود في مستشفى القائم وأن القوات الأمريكية تحيط بالمستشفى، وقد كلفنا أحد الأخوة ليأتي لنا بالخبر اليقين بأسرع وقت، وإذا كان هذا الكلام صحيحاً فلن نترك أخانا بيد الأمريكان وسوف نطوق المستشفى وإما أن يخرج معنا أو نقتل قبله)، فتعالت بعد ذلك التكبيرات الحماسية وارتفعت بذلك معنويات الإخوة.
ولم يغادر أبو رغد مكانه حتى أخبرنا بخبر آخر وهو (إن الطائرات قد بدأتْ تحوم فوق المعسكر الثاني، وأن الأخوة هناك لوحدهم، وليس معهم أحد من الأمراء، ولن نتركهم والطائرات تحوم حولهم، فقد يكون أبو أحمد قد دلّ على المكان نتيجة التعذيب الشديد، أو إنهم أخذوا المعلومة بطريقة أُخرى، ولذلك سنقوم حالاً بالذهاب إليهم ونجلبهم إلينا بسيارتنا حتى نجد حلاً لنا ولهم، فمكاننا ومكانهم أصبح غير ملائم للبقاء)، بهذه الكلمات أنهى أبو رغد الموقف، واعداً إياناً بأنه سيقوم بحالة الاستنفار مجدداً، لكي لا ينام أحدٌ منا، إلاّ وهو آخذٌ جميع عدته، ومرتديا حذائه، ولا يفارق سلاحه مهما كلف الأمر.
بعدها عُدنا نحن إلى الفراش، وعاد أهل الحراسة لحراستهم، وأنشغل كلٌ بشغله، عدا أبو رغد فقد أخذ سيارة (الدانيا) إضافة إلى سيارة (البيك أب) متوجهاً إلى المعسكر الثاني ليجلب الإخوة إلينا بالرغم من أن المكان لا يكاد يستوعبنا نحن، إلاّ أن الضرورة تحتّم علينا أن لا نترك إخواننا لوحدهم.
أذّن الفجر فنهضنا للصلاة، وعندها لاحظنا وجود الزوار الكرام، أعني الإخوة من المعسكر الثاني فلم تحن صلاة الفجر إلاّ وأبو رغد قد أكمل جلب الإخوة بالكامل، سوى خمسة منهم فقد بقوا هناك لحراسة الموقع وما فيه، وكان أحدهم أبو العباس المصري وبعد أن توضأ الإخوة، وقد أخذ ذلك منهم وقتاً نظراً لكثرتهم، أُقيمت الصلاة فتقدم أبو حمزة النجدي ليصلي بنا، وبعد الصلاة أخذ الأخوة يسلم بعضهم على بعض وقد كانوا يجتمعون ببعضهم لأول مرة، وكان من بينهم أبو الحور النجدي، وكان جاراً لأبي رغد في بلاده، وقد رأيتُ عند ذلك بعض الأخوة الذين تعرفتُ عليهم عندما كنتُ في معسكرهم أول أيامه، وكان ممن جاء مع الأخوة أبو سهيل اللبناني، وقد سرتني رؤيته.
بعد ذلك كان علينا أن نتوجه إلى ساحة التدريب فركبنا نحن في سيارة (الدانيا) وتوجهنا إلى ساحة التدريب كالمعتاد، أما الأخوة فقد توجهوا مشياً على الأقدام إلى ساحة تدريب أُخرى، وبعد أن أكملنا التدريب عُدنا سيراً على الأقدام إلى المعسكر، وعندما وصلنا إلى هناك جلسنا، وكان الإخوة لم يأتوا بعد من التدريب، وقد جهز أبو القعقاع الأردني وأبو مجاهد الشمري الفطور، ولا زلنا جالسين نتجاذب أطراف الحديث بينما عاد الإخوة فاجتمعنا سوية، مستأنسين ببعضنا، وأجمل شيء هو أن الصبيّان عبد القادر السوري وأبو سهيل اللبناني كانا قد لزما بعضهما، وظلا طوال اليوم سوية، ولم يفترقا، فهما في نفس السن، وبعد وجبة الإفطار أراد أبو رغد أن يذهب إلى مدينة راوة، فصحبه (عبد الرحمن) ذاهباً إلى بغداد فخرج أبو رغد من المعسكر وقد ترك الأخوة يضيق بهم المكان، إلاّ إنه كان قد حُمِّل ما لا يطيق، فقد أُلقيتُ على كاهله كل الأعباء، فأصبح لزاماً عليه أن يقوم بتوفير المأوى الآمن لقرابة المائة شخص.. وهكذا غادر أبو رغد المعسكر وعند وصوله إلى راوة أوصل عبد الرحمن إلى حيث سيارات النقل إلى بغداد ثم توجه أبو رغد إلى عمله.
لم يتأخر أبو رغد طويلاً في راوة، فعاد إلى الإخوة في المعسكر وكان قد أحضر معه أبو حفص النجدي وأبو البراء العتيبي، وكانا لم يتماثلا للشفاء بعد، وبقي أبو طارق اليمني وأبو العباس المالكي في بيت المرضى، وعندما سألنا أبو رغد عن أخبار أبي احمد أخبرنا بأن نبأ وجوده في المستشفى غير صحيح، ولم يتأخر أبو رغد طويلاً عندنا، فقد غادرنا، وكان يبدو بأن لديه عملا مهما يتعلق بوصول أخوة جدد، وبعد إن غادر أبو رغد بفترة قصيرة رأينا دراجة نارية تسير باتجاه المعسكر وكانت تُقلُّ على ظهرها شخصين، وعندما اقتربت كان أحدهم يلوح لنا بيده فعرفنا أنه يقصدنا، وما هي إلاّ لحظات حتى عرفنا ذلك الشخص، فقد كان أبو وقاص الفلوجي عائداً من الفلوجة، وكان لأول مرة يدخل إلى الموقع الجديد، وعندما نزل في أرض المعسكر أستقبله الأخوة بعد غياب طويل، وكانوا قد تحرقوا شوقاً إليه، وقد تفاجأ أبو وقاص بوجود أخوة المعسكر الثاني فأخبرناه بالخبر كاملاً، وعندما جلس في المسجد ألتف الأخوة حوله، وكان قد جلب معه بعض الأغراض لأبي همام الأردني، منها ثوب جديد، ويشماغ، وحانت صلاة الظهر ولا زال أبو رغد خارج المعسكر، عندها جاء قطيع أغنام ومعه صبيّان على الجانب الآخر من مجرى العين، بحثاً عن الماء والكلأ، ولما رآها أبو أنس العتيبي أعجبه المنظر فطلب مني أن أذهب إليهم لأطلب منهم بعض اللبن، فبدأتُ أولاً بالحديث معهم لمعرفة مكانهم وحالهم وسبب مكوثهم هنا، فتبين أنهم بدواً رُحّلْ يسكنون في خيمة على بعد أربعة كيلومترات تقريباً منا، أما هم فكذلك دفعهم الفضول لمعرفة سبب تواجدنا هنا، وقد استغربوا وجودنا بهذا العدد في هذا المكان، وبعد أخذ وجذب بالحديث طلبتُ منهم أن يحضروا لنا لبناً، فرحبوا بذلك ووعدونا بذلك في الغد، ثم عدتُ إلى أبي أنس العتيبي وقلتُ له: (أصبر حتى الغد)، وحتى هذه الساعة كلما رأيتُ لبناً ذكرتُ أبا أنس وقد رحل من الدنيا دون أن يتوفر له ذلك الطلب البسيط، واسأل الله أن يكون قد أبدله بنهر من اللبن في جنات النعيم.. بعد ذلك أجتمع الإخوة في المسجد وقد كان أغلب أخوة المعسكر الثاني يجلسون في المسجد نظراً لضيق المكان، فلم يكن في المعسكر سوى خيمتين صغيرتين، وسقيفة صغيرة كانتْ تحوي أغراض المطبخ مع بعض المواد الغذائية، وحتى تلك الخيام الصغيرة لم تكن إلاّ ليتفيأ الأخوة تحت ظلالها أثناء النهار هرباً من حرّ الشمس، وكان منظر عبد القادر السوري وأبو سهيل اللبناني لا يزال يُزيّن المكان، فلا تلتفت إلى زاوية من زوايا المعسكر إلا ورأيتهم سوية، كأنهم من طيور الجنة، تنضح البراءة من وجوههم..
وفجأة أصبح عبد القادر على غير عادته، فلم يعد مرحاً كعهدي به، بل أنه كان ذلك اليوم صامتاً لا يتكلم إلى أحد، وقد أنطوى على نفسه، ولم يأنس سوى بأبي سهيل، ولم يكن عبد القادر السوري الوحيد الذي أصبح على هذه الحال، بل إن أغلب الإخوة كانوا كل واحد منهم يعيش في عالم معزول عن هذه الدنيا وما فيها، وكنت لأول مرة أرى فيها أن من كُتب عليه الموت يتغير حاله لهذه الدرجة.
لا يزال الأخوة بحالهم هذا حتى صلاة المغرب، وبعد أن صلينا وقد بدأ الليل يرخي سدوله علينا جاء أبو رغد إلاّ إن المفاجئة التي لم نكن نعلم بها هو أنه قد أحضر معه ستة من الأخوة الجدد الذين التحقوا بنا لتوهم، فأستقبلهم وأحضرهم إلى المعسكر، ففرحنا لقدومهم وسلمنا عليهم جميعاً، أما هُم فلم تكن صدورهم تتسع لفرحتهم بوصولهم إلينا ومع أني سلمتُ عليهم جميعاً إلاّ أنني لم أُميز أُشكالهم بسبب اختلاط الظلام، غير إن أحدهم كان طويلاً أكثر من البقية، وكنتُ أنتظر النهار بفارغ الصبر لأراهم وأتعرف عليهم وأعتقد بأن أحدهم كان أبنَ عم لأبي عاصم اليمني.
في ذلك اليوم كان برنامج مجموعتنا المنهاج الثقافي فطلبنا من أبي حكيم اليمني أن يلقي درساً على الإخوة، فأشار علينا بأن نجمع الإخوة في المسجد ويقومون بإنشاد الأناشيد، خاصة وأن في مجموعتنا أبو عاصم ولا أجملَ من صوت أبي عاصم، عند ذلك ذهبتُ وجلستُ عند أبي رغد وكنتُ أرى في وجهه الشحوب الشديد وقد أثقله التعب فجلستُ معه مع بعض الإخوة، تكلمنا في بعض الأمور.. في تلك اللحظات كان جميع الأخوة مجتمعين في المسجد ولا يكاد يحتويهم، فبدأ أبو عاصم بالإنشاد وكنتُ أسمعه يُنشد بكل حماس، وقد انهمرت الدموع من عينيه، فيما أخذ الإخوة يرددون معه وينشدون، فعلتْ الأصوات مع النشيج والبكاء، وكان الموقف أعجبُ ما رأيتُ في المعسكر، وكأن الأمر ليس مجرد جلسة إنشاد، فلم أعهد الإخوة بهذه الحال منذ أن عرفتهم، حيث كانت أحاسيسهم ومشاعرهم مشدودة مع الموقف، والذي يميزهم هو إنهم كانوا وكأنهم يجلسون ليودعوا بعضهم، فلعلهم شعروا بقرب الرحيل، فالدموع منهمرة، ولا أدري أهي دموع الفرح، أم غير ذلك، وكان ذلك سراً لم أنتظر طويلاً لاكتشافه!!
لم يزل الإخوة على حالهم حتى حانت صلاة العشاء عندها أنفض المجلس وتهيأ الإخوة للصلاة وكان أبو رغد ينوي الذهاب إلى راوة ليلتقي بذلك الرجل الذي أعطاه المال لشراء السلاح، ولم يكن أبو رغد ينوي أن يصلي العشاء في المعسكر فقال للأخوة الذين سيذهبون معه بأن لا يصلوا في المعسكر وكان أيضاً سيأخذ معه أبو حفص النجدي وأبو البراء العتيبي، فذهبتُ وأخبرتهما بأنهما سيذهبان مع أبي رغد إلى بيت المرضى، لذلك فقد حملا سلاحهما ووقفا عند أبي رغد بانتظار الذهاب، وقبل أن يذهب أبو رغد قال له أحد الإخوة من المعسكر الثاني بأن عليه أن يترك أبو يونس اليمني في المعسكر، فمن الخطورة أن يكونا سوية فإذا أصاب أحدهما مكروه كان الآخر سالماً مع ضرورة بقاء أمير للمعسكر، فأجابه أبو رغد قائلاً (أن كل واحد من الأخوة في المعسكر أمير بحد ذاته، وأن الأخوة على مستوى عال من الإدراك والشجاعة فلا حاجة أن يبقى أحدنا معهم طوال الوقت)، وهكذا غادر أبو رغد المعسكر برفقة أبي يونس اليمني وأبو حكيم اليمني وأبو عبيدة الأردني وأبو القعقاع الجزائري وأبو وقاص الفلوجي وأبو عمر النجدي وهم على أتم الاستعداد للقاء العدو في أي مكان وزمان، وبالطبع كان برفقتهم أبو حفص النجدي وأبو البراء العتيبي لإيصالهما إلى بيت المرضى، فغادر الأخوة المعسكر ولم يخطر ببالهم إنها ستكون آخر لحظاتهم فيه وأنهم لن يطئوه مرة أخرى، ولو علموا ما أخفتْ لهم الأقدار لبقوا سوية مع إخوانهم.
أما نحن فقد اجتمعنا للصلاة وصلى بنا أبو حمزة وقنتْ في صلاته، وأطال الدعاء، فكان مما دعا به(اللهم خذ من دمائنا اليوم حتى ترضى)، وبعد الصلاة ذهب الأخوة إلى حيث مكان نومهم، غير إن الأخوة في المعسكر الثاني لم يكن لهم مكان سوى المسجد، فكانوا مستقرين فيه، وبعد أن خلد كلٌ إلى فراشه بقيتُ واقفاً قليلاً مع أبي صهيب النجدي، وكان في ذلك اليوم في غاية الفرح، فقد أخبرني بأنه أتصل بأهله وأخبروه بأن أحد أخوته قد رُزق بمولود ذكر، وأنهم أسموه على أسم أبي صهيب، بعدها بقيتُ واقفاً قليلاً والأخوة في فراشهم وكان أبو يزيد العتيبي لا يزال مستيقظاً فجلستُ عنده مع أبي صهيب قليلاً ثم تركناه لينام نومة لم يستيقظ منها أبداً، ولم يبق أمامي سوى أن آوي إلى فراشي كبقية الأخوة، وبالطبع كان الجميع مستعدين للاستنفار، فقد أمسك كل واحد منهم بسلاحه ولبس حذائه وكل تجهيزاته.
وإلى هذه اللحظة، وهذه النقطة من الزمن، توقف كل شيء، وانتهت كل آلامهم، ولم يبق شيء من مشاكلهم، وبإغماض أعينهم أنجلت كل الهموم والأحزان، لينتقلوا إلى عالمهم الذي يسعون إليه، ولم يصبهم بعد ذلك تعب، ولا نصب، ولا حرّ، ولا زمهرير، بإذن الله عزّ وجل، وعند هذه اللحظة هبط السكون، وخيم على المعسكر، ودخل المكان بأكناف الطمأنينة والسكينة.
في تلك الليلة من يوم الخميس، الموافق 13/6/2003م وبعد أن نام الإخوة جميعهم، كنت آخر من خلد إلى فراشه، بعد أن جلست قليلا مع أبي صهيب النجدي، ثم أغمضت عيني وأنا ممسك ببندقيتي، وآخِذاً كامل عدتي، ومتجهزاً لاستنفار أبي رغد المرتقب، وبعد أن علت المعسكر سحابة من السكون والطمأنينة، لم يطُل هذا السكون طويلاً، بل لم يدرك أحدنا أن هذا السكون والهدوء أنما هو الذي يسبق العاصفة، فقد أستمر هذا الهدوء حتى جاءت الساعة الواحدة والنصف ليلاً، ودون استئذان، وعلى حين غرة، شق هذا الهدوء والسكون صوتٌ مدوٍ لم يكن بالحسبان، ولم يعرف أحد منا ما الذي يحدث، فحتى الذي رأى بعينيه ما حدث لم يكن ليصدق عينيه، إلاّ إنه لا سبيل لتكذيب السمع والبصر في آن واحد، فقد كان هذا الصوت عبارة عن انفجار كبير كان من نصيب سيارة (لدانيا) التي في المعسكر، إلاّ أن الأخوة لم تكن لديهم فرصة للتفكير بما يحدث، بل إنه لم يكن هناك حاجة للتفكير، فقد بدأت الإنفجارات تتوالى بكثافة وبكل بشاعة، عندها نهض الأخوة جميعهم مذعورين لا يعرفون ما يدور حولهم، ثم حدثت جلبة، وعلت الأصوات والصيحات، فقد تبين أن هذه الإنفجارات إنما هي قصف جوي من الطائرات الحربية، ولم يترك القصف فرصة للنجاة لأحد، فقد كانت الصواريخ تنهال على الأخوة في كل أرجاء المعسكر، وكان للمسجد منها نصيب الأسد.
ونظراً لضيق المكان، وكثافة السكان، وضراوة القصف لم يتمكن الأخوة من الخروج من المعسكر، فقد كانت لكل بقعة من المعسكر نصيبها الوافر من الصواريخ، فكانت تلاحقهم، فإذا أعطوها ظهورهم استقبلتهم غيرها بوجوههم، وخلال لحظات أصبحتْ الأشلاء والدماء والأطراف المتطايرة تملأ المكان، ولم تُسمع الصيحات بعد ذلك، سوى بعض الأنين عند أثنين أو ثلاثة من الإخوة تأخرت عنهم الحور الحسان، وبالرغم من انقطاع الصيحات إلاّ إن دوي الصواريخ لم ينقطع، وبعد هذا القصف البشع خَيّم هدوءاً آخر على المكان، ولم يبق هذا الهدوء طويلاً، فما هي إلاّ دقائق حتى عادت الطائرات المروحية وبدأت تقصف المكان بالصواريخ، وأستمر القصف لمدة ساعتين لم تترك مكاناً فيه إلاّ وألقت فيه صاروخاً، وأن دلَّ هذا على شيء فإنما يدل على جبنهم وبشاعتهم عليهم لعنة الله، وبعد أن أستمر القصف وقتاً طويلاً بدأت المروحيات بتمشيط المكان بالمدافع الرشاشة، واستمرت الطائرات بالتمشيط في المكان طولاً وعرضاً، خوفاً من أن يكون هناك ناجٍ من بين الأخوة، ولم ينقطع التمشيط إلاّ عندما بدأت الشمس بالشروق، وبعد ان أشرقت الشمس توقف القصف والتمشيط، إلاّ إن الطائرات ظلت تملأ السماء، فلا يغيب منظرها عن البصر، وكان تواجدها كثيفاً جداً وبالعشرات، وعند الساعة السادسة والنصف تقريباً دخلت المدرعات والآليات إلى المكان، وانتشر الجنود وبدأوا بإطلاق الرصاص على جثث الإخوة من شدة رعبهم، وبقي الوضع على هذا الحال حتى كانت الساعة التاسعة صباحاً، عندها سمعتُ صوت اشتباك وإطلاق صواريخ الـ (RBG)، مع زخات الـ (BKS)، واستمرت هذه الأصوات لدقائق طويلة ولكنّها صمتت ولم تستمر..
بديهياً عرفتُ بأن أبا رغد قد اقتحم على العدو، وأشتبك معهم في عرض الصحراء وسط جموعهم، وعندما انقطعت أصوات الاشتباك عرفتُ بأن أبا رغد ومن معه لن تتوقف نبضات رشاشهم حتى تتوقف نبضات قلوبهم، فترسخ في يقيني أنه ومن معه قد لحقوا بالإخوة..
وهكذا بقى الأمريكان في الموقع والطائرات الحربية تحلّق في الأجواء، أما المروحيات فكانت قريبة جداً من الموقع، وأستمر الوضع هكذا حتى وقتُ المغرب حيث أنسحب الأمريكان من الأرض ولا زالت طائراتهم تجوب المكان.
كل ما سبق ذكره كان مما وعته ذاكرتي ورأته عيناي مما حدث، فالأمر بكل تفاصيله هو أن طائرات حربية بدأت تقصف المكان بعد إن أستمر القصف لفترة طويلة ولم تُبقِ على أحدٍ من الإخوة، إلاّ تسعة منهم كنت عاشرهم، وكنتُ أنا وأثنين من الإخوة بقينا في نفس الموقع ولم يكن أحدنا يعلم بالآخر، فعن نفسي لم أكن أظن بأن أحداً من الإخوة قد نجا من القصف، وكذلك بقية الإخوة، وكان أثنين من الإخوة وهما أبو الحور النجدي وأبو أيوب النجدي قد ركضوا خارج الموقع واستمروا بالركض خلال أودية أو شقوق صغيرة جداً فتعقبتهم الطائرات المروحية وبدأت تطلق عليهم الصواريخ، حتى ظنّوا بأنهم مُدركون، فلم يكن أمامهم سوى أن يختاروا الموت سُجّداً، فخروا لله ساجدين منتظرين ما ينقلهم من هذه الحياة الدنيا إلى دار الآخرة، ولكن كانت المعجزة، أو المفاجأة، سمِّها ما شئت!! فقد تركتهم الطائرات لشأنهم واستدارت عنهم لتبحث عن ضحية أخرى، ولم يصدقوا ذلك ثم بعدها نهضوا ليواصلوا انسحابهم، وقد يَسّر الله لهم طريقاً إلى أن أصبحوا على مشارف راوة فآواهم رجل عنده.
أما الخمسة البقية من الناجين فكانوا نائمين في أعلى المرتفع عند موقع الحراسة وهم أبو تمام اليمني، وأبو صقر اليمني، وأبو فياض، وأثنين من الأخوة الأنصار من أبناء المنطقة، وكان معهم أبو تراب السوري، وعندما بدأ القصف أنفجر بقربهم صاروخ لم يكن يبعد عنهم أكثر من متر واحد، ودون شعور أخذ أبو صقر اليمني يصرخ بأعلى صوته (أين الشظايا؟!!) أي لماذا لم تقتله الشظايا، باحثاً عن الشهادة في سبيل الله، عندها أنسحب الإخوة الخمسة، أما أبو تراب السوري، فقد ركض إلى الأمام ليأخذ (صاروخ ستريلا) فعاجلته الطائرة بصاروخ أرداه قتيلاً، وقد وجد الإخوة جثته فيما بعد وثغره ضاحك، وليس مبتسماً فقط، ووجهه أبيض، تماماً كالقمر في ليلة بدره، أما الإخوة الخمسة، فعند انسحابهم اكتشفوا بأن القوات الأمريكية قد قامت بإنزال كثيف جداً في المنطقة المحيطة بالمعسكر، وكان عدد الجنود والآليات كبير جداً، حتى إنهم لم يكونوا يبعدون عن الإخوة أكثر من خمسة وعشرين متراً، إلاّ إن الله أعمى أبصارهم، كما أعمى بصيرتهم، ولا زال الإخوة يمشون خفية بين شقوق الأرض حتى يَسّر الله لهم الطريق إلى راوة، وما يزيد من صعوبة الانسحاب إن الأرض منبسطة وليس فيها تضاريس وعرة، إلاّ إن الله قد كتب لإخواننا النجاة من قبضة الأمريكان تلك الليلة، وكان من الأمور التي تجدر الإشارة إليها هو أن ثلاثة من الإخوة، منهم أبو الزبير التبوكي، وأبو سليمان النجدي، وأحد الإخوة، كانوا يركضون ثلاثتهم وقد لحقت بهم طائرة مروحية، فقامت بالتمشيط عليهم، فأصابت أبو سليمان، والأخ الثالث، فسقطا على الأرض أما أبو الزبير التبوكي، فلم يُصب بأي أذى، إلاّ إنه رمى بجسده على الأرض وبقي لا يتحرك كي لا تكتشفه الطائرة بأنه لازال حياً، وبقي على حاله إلى أن أشرقت الشمس ودخلت المدرعات فتقدم إليهم جندي أمريكي فقام بإطلاق الرصاص على رأس أبو سليمان النجدي وعلى الأخ الثالث، أما أبو الزبير التبوكي فلم يطلق عليه الرصاص إلاّ إنه حمل حجراً بيده وضربه على رأس أبي الزبير ليتأكد من إنه مقتول، فلم يتحرك أبو الزبير ولم يتألم لتلك الضربة، عندها ذهب عنه ذلك الجندي وتركه لحاله، فبقى أبو الزبير في مكانه لا يحرك ساكناً حتى انسحبت القوات الأمريكية عند المغرب فأغاثه أهالي راوة.
أما أبو رغد فعندما كان مع الإخوة في بيت المرضى، وعند الساعة الواحدة والنصف، سمعوا دوياً هائلاً، اهتزت له أرجاء المكان، حتى ظنوا أن بيتهم قد قُصف، فحملوا سلاحهم وخرجوا من المنزل فلم يروا شيئاً، وعندما توالت أصوات الإنفجارات مع أصوات الطائرات التي تملأ المكان علموا إن القصف في الصحراء، وبالطبع ليس هناك في الصحراء ما يدعو للاستهداف سوى الإخوة، عندها، وبدون تفكير، أمر أبو رغد الإخوة بحمل السلاح وركوب السيارة للذهاب إلى الإخوة، إما لإنجادهم أو لملاقاة نفس المصير، إلاّ إن أبا العباس المالكي وبعض الإخوة المرضى ألحّوا على أبي رغد والأخوة بالبقاء وحاولوا ثنيه عن عزيمته فلم يقدروا على شيء، إلاّ إن أبا العباس وبعد جهد جهيد أستطاع إقناع أبو رغد بأن القصف يستهدف الموقع الأول، خاصة وإن الموقع الثاني لازال جديداً ولم يعرف أحد بشأنه، عندها أطمئن أبو رغد وعلم بأن الإخوة بخير، إلاّ إنه لم يستطيع النوم فبقى طوال الليل يدعو للأخوة، ولم يستطع أحد من الإخوة النوم كذلك، فبقوا كلهم يجتهدون بالدعاء للأخوة في المعسكر، وعندما أصبح الصباح علم أبو رغد بالمفاجأة الغير سارة وهي أن المدرعات كان اتجاهها صوب الموقع الجديد، عندها صُدم أبو رغد بهذا الخبر، فتيقن أن كل القصف في الليلة الماضية إنما كان على الإخوة، ودون تردد قال أبو رغد للأخوة (أني ذاهب إلى الموقع وسوف أقتحم على الأمريكان وأقاتلهم، فمن أراد منكم أن يبايعني على الموت فليركب معي في السيارة، ومن أراد البقاء فليس لي عليه أمر أو نهي)!
فكان الإخوة أشدُّ منه حماساً وشوقاً للقاء ربهم، ففضلوا الذهاب والانغماس في الأعداء وقالوا، إما أن نفك الحصار عمن بقي من إخواننا، أو نذوق ما ذاقوا، فلا حياة بعدهم، بل إن الإخوة المرضى قد همّوا بالخروج معهم، لولا إن أبا رغد أمرهم أن يبقوا رغما عنهم.
وسلّم الإخوة على بعضهم سلام المودع للمودع، وكان موقفاً لا تستوعبه القلوب، فتخيل كيف يودع الأخ أخاه وهو يعلم إنه ذاهب إلى حيث لا عودة، فعجباً كيف يصبر بعضهم على فراق بعض!!
وقام أبو رغد بتسليم كل الأوراق وما كان يحمل في جيبه وتفاصيل العمل لأبي العباس المالكي، وأوصاه بمواصلة المسير، وقال له بأنه يحلل الإخوة ويبيحهم، وقد أطال أبو حكيم اليمني وهو يحتضن أبا العباس المالكي ويكلمه بكلام يداعب القلوب، وبالرغم من شدة وطأة الموقف وصعوبته إلاّ إن الابتسامة لم تكن لتفارق ثغورهم، وكانوا في أشد الفرح لأنهم مقبلين على لقاء ربهم واللحاق بإخوانهم، أما أبو عمر النجدي فكان نائماً في تلك اللحظات، فأفاق ضاحكاً وقال للأخوة (لقد رأيتُ في منامي بأني دخلت الجنة، فرأيت أبا عكاشة اليمني جالساً متكئاً، فوضعتُ يدي على كتفه، فألتفت إلي واحتضنني، وقال لي مرحباً بك يا أبا عمر)!! فلم تكن الرؤيا بحاجة إلى تأويل في هذه اللحظات، ومباشرة ركب أبو رغد في السيارة، ومعه أبو يونس اليمني، وأبو حكيم اليمني، وأبو عبيدة الأردني، وأبو وقاص الفلوجي وأبو القعقاع الجزائري، وأبو عمر النجدي، وحاول بعض أهالي راوة أن يقنعوا الإخوة بعدم الذهاب، فقد انتهى كل شيء بنظرهم، أما الإخوة فقد كانت لهم نظرة أُخرى للموقف!!
وأنطلق الأبطال إلى ساحة النزال، ولهم هدير كهدير الرعد، كالليث يمشي واثق الخطى لا يهاب نباح الكلاب، ولا زالت السيارة تمشي بالإخوة حتى اقتحموا وسط الأعداء، فنزلوا من السيارة، وانتشروا سريعاً، وبدأ إطلاق النار من الطرفين، وقد أشتد النزال، وأثخن الأخوة بأعداء الله حتى أسقطوا لهم طائرتين، وأحرقوا بعض المدرعات، واستمرت المواجهة لأكثر من نصف ساعة، لتسكت بعدها بنادق الأخوة، ولتهدأ دقات قلوبهم، وينتقلوا إلى عالم آخر، ليلحقوا بإخوانهم مقبلين غير مدبرين.
وهكذا انتهت حياة ثُلّة من الأبطال الذين آن للتاريخ أن يذكرهم، فبعد أن جابوا مشارق الأرض ومغاربها شاء الله أن تكون آخر لحظاتهم في هذا المكان، وبهذه الطريقة المشرفة.
ولا أغادر هذا المقام حتى أذكر رؤيا لأبي العباس المالكي يقول فيها: (عندما ذهب الإخوة بقينا نحن الأربعة في البيت وقد كان الأخوة برغم حزنهم العميق على فراق الأحبة إلاّ إنهم فرحين بما نالوا من الأجر إن شاء الله، حتى إن أبا البراء العتيبي لا تفارقه الضحكة بالرغم من مقتل أخيه أبو يزيد العتيبي، فضلاً عن بقية الأخوة) ويضيف أبو العباس المالكي: (عند هذه اللحظات لم أشعر بنفسي إلاّ وأنا نائم فجاءني ملكين أثنين عن يميني وعن شمالي فحملاني وطارا بي، فلما وصلنا السماء الأولى فُتح لنا، وهكذا الحال للثانية، حتى وصلنا باب الجنة، ففُتح لنا، فدخلتُ ورأيت شيئاً ما رأتْ عيني مثله، ولا خطر على قلبي، فرأيتُ الأخوة يلعبون عند النهر، وكان أبو رغد العتيبي والأخوة الستة معه يجلسون على مائدة لوحدهم، عندها رأيتُ أبا عكاشة اليمني يجلس متكئاً على أريكة فسلمتُ عليه، فقال لي إن الأخوة ضيوف عندي وقد جاء أبو رغد ومن معه لاحقاً)، ويواصل أبو العباس المالكي وهو يروي تفاصيل الرؤيا قائلاً: (رأيت عبد القادر السوري يمشي، فسألتُ أبا عكاشة اليمني إلى أين يذهب عبد القادر !؟ فقال لي: لا أحد يعرف رقم هاتف أهله ليبلغهم باستشهاده، لذلك فأنه ذاهب إلى أُمه في الرؤيا ليبلغها بذلك، وبعد ذلك جاءني الملكين وأرادا أن يأخذاني معهم، فبكيتُ ولم أرغب بالذهاب، فهمس أبو عكاشة اليمني بأذني بكلمات، فضحكتُ لقوله، وذهبتُ مع الملكين، وعُدنا كما أتينا، حتى أعاداني إلى حيث أجلس).
أما أنا فلا أدري، أأقول أني نجوت، أم إنهم هم الناجون، فقد بقيت جريحاً طريحاً في موقع المعسكر حتى غروب شمس ذلك اليوم وكانت قصة بقائي دون قتل أو اعتقال من اغرب أحداث القصف حسب اعتقادي.
ومن الغريب أيضاً أنني في ذلك النهار الذي سبق ليلة القصف كنت قد أتممت كتابة وصيتي فوضعتها في ظرف رسالة وكتبت عليها اسمي ووضعتها مع بقية أغراضي إلا ان القنابل والصواريخ قد أخطأتني وأصابت وصيتي فتمزقت الوصية بينما بقيت أنا حياً!
وهكذا انتهت تفاصيل القصف بما تحمل من أحزان وقد ذهب ضحيته قرابة التسعين أخاً، أما ما كان من (عبد الرحمن) فعندما أوصله أبو رغد رحمه الله إلى راوة غيّر وجهته ولم يذهب إلى بغداد، بل عاد وجلس في بيت أناس كان قد تعرّف عليهم مسبقاً، وبعد القصف كان (عبد الرحمن) المتهم الأول لكل ما حدث مِنْ قِبل مَن نجا من القصف، وشاع هذا الأمر عند الناس، ولما وصل هذا الخبر إلى (عبدالرحمن) قام يبكي، ويقسم بالله إنه ليس له يد في كل ما حصل، وقد خضعتْ ورقت قلوب هؤلاء الذين هو عندهم، فصدّقوا كلامه، وأوصلوه إلى بغداد فبلغ بذلك مأمنه، وبالطبع كان هذا التصرف أخرقاً، وغير مقبول من هؤلاء، ولكنها العاطفة العمياء التي تسيطر على البعض، فأُفلت بذلك (عبدالرحمن)، لكنه لم يفلت من قدر الله.
لا حاجة لوصف ما كان عن حال الإخوة الذين نجوا من القصف، أو الذين كانوا خارج المعسكر، وكان من قدر الله أن أبا محمد اللبناني لم يكن في المعسكر عندما جاء أبو رغد رحمه الله وأخذ الإخوة، فقد كان ذاهباً إلى القائم مع أبو العباس المصري، والذي كان طالب علم متمكن، وعندها بلغهم نبأ القصف، وأول ما سأل عنه أبو محمد اللبناني هو ماذا فعل أبو تمام اليمني، فلما أبلغوه بنجاته من القصف حمد الله على ذلك، ثم سأل عن بقية الإخوة، وبعدها سأل عن أبنه، وفلذة كبده، محمد (أبو سهيل)، رحمه الله، فأخبروه بمقتله، فسجد شكراً لله تعالى، بعدها هرع الجميع وذهبوا إلى مدينة راوة ثم التقوا بالأخوة أبي تمام ومن معه، وبعد انسحاب الأمريكان من الموقع جاءوا إليه مع أهالي راوة ليروا ما حل بالأخوة، فكان أمراً غاية في البشاعة والقسوة، فالكثير من الإخوة أصبحتْ أجسامهم عبارة عن أشلاء، وبعضهم لم يُبقِ لهم القصف أثر، وبعد إن أكمل الإخوة دفن القتلى في مقبرة مستقلة في راوة، ألتم الشمل مرة أُخرى والجراح تملأ القلوب، وأصبحتْ البداية من جديد أمراً غاية في الصعوبة، وأصعب شيء هو إيجاد المأوى الآمن للأخوة، وعندها كان أبو محمد اللبناني قد تصدر أمر الإخوة، وكان يمثل روح الجماعة.
بالطبع كان أهم ما يشغل الأخوة هو الوصول للشخص الذي أرتكب هذه الجريمة، وبالرغم من توجيه أصابع الاتهام لـ(عبد الرحمن) إلاّ إنه كان من المعلوم إنه ليس إلاّ ذَنَبٌ خبيث لرأس أخبث، فكان معرفة هذا الرأس هو ما يشغل بال الأخوة، ولا أريد هنا ان أخوض في بعض هذه التفاصيل التي لا أرى من ذكرها فائدة سوى أن عبد الرحمن كان فعلا هو من ألقى بعشرين قرصا للتتبع أثناء حراسته ليوم كامل، ولكنه كان أيضاً ينفذّ أوامراً لأطراف أخرى بالتأكيد.
عاد عبد الرحمن إلى راوة بعد أكثر من شهر من القصف، وذهب إلى أحد الأشخاص ليسأله عمن نجا من الأخوة، بحجة رغبته في لقائهم، ولكنه سرعان ما غير رأيه، وقرر العودة إلى بغداد، غير أن ذلك الشخص قام بتأخيره بحجة تأمين سيارة ذاهبة إلى بغداد، ثم قام بتسليمه للإخوة، حيث ركب عبد الرحمن مع اثنين من الإخوة في سيارة (بيك أب) وساروا في الصحراء بحجة إيصاله إلى تلك السيارة الذاهبة إلى بغداد، بينما كان أبو محمد اللبناني يختبئ في حوض السيارة الخلفي، وبعد مسيرة ليست بالقصيرة أحس عبد الرحمن بالخوف، وفي منتصف الطريق أوقف الإخوة السيارة وانزلوا عبد الرحمن، وظهر أبو محمد اللبناني فأُسقط في يد عبد الرحمن، وعلم أنه وقع في الفخ، مع أنه لم يكن قد رأى أبو محمد اللبناني من قبل، ثم قام الإخوة بتقييده ووضعه في الحوض الخلفي، وبقي معه أحد الإخوة، بينما سارت السيارة إلى مشارف مدينة القائم عبر الصحراء، وعند وصولهم إلى المكان المطلوب نزلوا جميعا واقتادوا أسيرهم إلى مكان التحقيق، فحقق معه أبو محمد اللبناني، وكان أول سؤال وجهه له أبو محمد هو: (أين زرعوا لك جهاز التتبع)؟!
فأنكر عبد الرحمن هذه المسألة، ثم وأثناء التحقيق تبين صدق ظنهم، وتأكدت شكوكهم به، فقد كان هو من أرتكب هذه الجريمة، وقد أخذ مقابل ذلك عشرين ألف دولار، وكانت اعترافاته كالتالي:
أسمه (عبد الرحمن لؤي) وهو من سكنة بغداد، منطقة الاعظمية، قرب جامع عبد العزيز العمري، وأبوه مهندس يؤم الناس في الصلاة في الجامع، وكان من مواليد 1982 ويدرس في كلية التمريض جامعة بغداد المرحلة الأولى.
وعندما سُئل عن سبب وكيفية دخوله المعسكر ووضعه للأقراص قال: (أعطوني عشرين قرصاً، وأعطوني عشرين ألف دولار، ودلّوني على كيفية الدخول للمعسكر، وقالوا لي بأن أضع الأقراص وأخرج من المعسكر، وبعد إن خرجتُ بقيتُ في راوة لأعرف النتيجة، وكنتُ قد ألححتُ على أبي رغد بأن يعيد المرضى إلى المعسكر كي يلاقوا ما سيلاقيه البقية).
وعندما سُئل عن كيفية القصف أجاب قائلاً (أن الطائرات الحربية قد بدأت تقصف المكان، ثم توالت بعد ذلك المروحيات وقصفت المكان أيضاً، ثم قامت بتمشيطه، ومن ثم دخلت القوات البرية) وأعجب العجب وأغرب الغرائب هو ما أعترف به بعد ذلك وهو (بأنه يهودي !!) وهو يعيش في العراق منذ حرب عام 1991 و قد دخل هو وعائلته من الكويت بعد اجتياحها.
كما أن عبد الرحمن، بعدما أعترف بفعلته، لم يعترف على بقية عناصر الشبكة، ليواصلوا العمل من بعده، وكان مراوغا شديداً، والغريب في الأمر أنه وبالرغم من اعترافه بجريمته إلا أنه كان يرفض إعطاء أسماء الأشخاص الذين يتعامل معهم وكان يحرص بشدة على عدم إعطاء المعلومات، لولا حنكة أبو محمد اللبناني التي انتزعت منه كل شيء، وفي نهاية الأمر بدأ عبد الرحمن يتكلم ببعض الوضوح فلم يبق له الأخوة خياراً آخر.
إلاّ إن أبا محمد لازال مُصراً على سؤاله الأول وهو أين زرعوا جهاز التتبع، فأراد أن يوهمه وقال له بأن الطائرات بدأت تحوم فوق المكان فلا شك أنك تحمل جهاز تتبع، ولا زال عبد الرحمن يراوغ في الإجابة عن هذا السؤال، عندها سأل أبو محمد الإخوة وقال لهم (أين حذاءه) فقالوا له في السيارة، فأحضروه وفتشوه، فلم يجدوا فيه شيئاً، ثم ألقوه على الأرض، وبعد لحظات نظر أحدهم إلى الحذاء فرأى فيه قطعة من الجلد مخلوعة في أسفل الحذاء الأيمن، فقال للأخوة (إن جهاز التتبع كان مزروعاً تحت هذه القطعة فخلعها وألقى بالجهاز في السيارة لكي يعثر الأمريكان علينا بعد قتله)، فوافقه الأخ الذي كان معه في الحوض الخلفي وقال: (نعم والله لقد كان يلعب بحذائه وهو مقيد في السيارة) وبسرعة ذهب الأخوة إلى السيارة ولم يتركوا فيها زاوية إلاّ وفتشوها، فكان الأمر كما توقعوه، فقد عثروا على جهاز تتبع صغير جداً لونه أصفر، ملقى في حوض السيارة، وبدون تفكير قام الأخوة بأخذ الجهاز إلى مكان بعيد جداً و قاموا بإتلافه.
وهنا لم يبق أمام (عبد الرحمن) خيار سوى أن يقدم لهم القربات، وهي المعلومات المهمة التي يحتاجها الإخوة، فما أبقى في جعبته شيء إلاّ وأخرجه، بما في ذلك أسماء شركائه في العمل، وقد تولى بعض الإخوة في بغداد العمل على التحري والتأكد من صحة تلك المعلومات وقد أكدوا تورطهم في العمالة لصالح الأمريكان والموساد، فذاقوا من نفس الكأس التي ذاقها (عبد الرحمن)، أي أن ما أدلى به عبد الرحمن كان كلاماً واقعياً وليس من باب إرضاء المحقق، بالرغم من أنه كان لا يدلي بالمعلومة إلا إذا طفح كيله.
وهنا بقي سؤال أخير وُجِه لـ(عبد الرحمن) ألاّ وهو: (لماذا أتيت هذه المرة)، فأجاب: (أرسلوني مرة أخرى لأتتبع أخبار البقية الذين نجوا من القصف)، عندها قالوا له ألم تكن تتوقع أن نمسك بك، ونقتص منك، فأجاب (كنت أظن أنني إذا جئتُ إلى أهالي راوة سيستقبلونني بالترحيب ويعتقدون بأنني من بقية المعسكر وسوف يتعاطفون معي خاصة وأنني برّأتُ نفسي أمامهم عندما اُتهمت بعد القصف مباشرة)، ولم يعلم ذلك المنافق الملعون إن الحيلة لم تعد لتنطلي على الأخوة فقد كُشفتْ كل الحقائق، ولكنها عناية الله عز وجل وحكمته، التي أرادت أن تشفي صدور الأخوة، وخاصة أبو محمد اللبناني، الذي قطف ذلك الملعون ثمرة فؤاده، وبذلك انتهى كل الكلام، ولم يبق إلاّ القصاص، وقد أخذ أبو محمد يتكلم معه ويقول: (هل تعلم أنك قتلتْ تسعين مجاهدا ً، وهل تعلم أنك قتلتْ معهم طفلين، وهل تعلم إن أحد هذين الطفلين هو أبني) فلم يكن ذلك الشيطان يملك جواباً، ثم انتهى كل شيء بتكبيرة أبي محمد اللبناني حينما جز عنقه.
كما تمكن الأخوة من أسر ضابط المخابرات الإسرائيلي الذي كان يقف خلف عبدالرحمن، وكان هو صاحب المخطط من أوله إلى آخره والمسمى (أبو معاذ)، الذي تمكن الإخوة من التوصل إليه واعتقاله وأخذه إلى مكان بعيد، وقبل أن يصلوا المكان المحدد أوقفوه في منطقة وسط الطريق وقاموا بتغيير ملابسه، خشية أن يكون هناك جهاز تتبع أو ما شابه ذلك، وهذا إجراء أمني جيد، وبعدما وصل الإخوة إلى مكانهم المطلوب قاموا بتقييده، وأستمر التحقيق معه لمدة ثلاثة أيام، دون أن يعترف بأي شيء، بعد ذلك قام أبو تمام اليمني وصلى ركعتين، وأخذ يدعو الله ويلح بالدعاء حتى انهمرت دموعه باكياً بأن يبين الله لهم أمر هذا الرجل، وأن يُظهر صدقه إن كان صادقاً، وأن يفضحه بلسانه إن كان كاذباً، وهنا كانت المعجزة، بل كانت الدهشة في كل ما تحمله الكلمة من معنى، ومن دون أي سؤال، أو محاولة من الأخوة لانتزاع الإجابة، نطق ضابط الموساد بلسانه وبكامل عقله، ولكن بأي شيء نطق، وبأي الحقائق أقر؟!
قال لهم وبالحرف الواحد (أنا من دبر قصف المعسكر)، وهنا نزل هذا الكلام كالصاعقة على الأخوة، وما كادوا يصدقون ما سمعوا من هول المفاجأة، وقد أعادوا عليه السؤال، فأعاد عليهم نفس الكلام: (أنا من دبر قصف المعسكر)، إلاّ إن هذه لم تكن المفاجأة الوحيدة التي فاجأهم بها،فما خفي كان أعظم، حيث فصّل كل كبيرة وصغيرة أخفاها في جوفه النتن، كان أفظعها إنه يهودي الأصل، وأنه من يهود اليمن، سكن أجداده الشام، فأظهر الإسلام وأبطن اليهودية، وإنه هو من أرسل عبد الرحمن من بغداد ليضع عشرين قرصاً في المعسكر، وأنه صديق حميم لعائلة عبد الرحمن، ويحمل رتبة ضابط في الموساد الإسرائيلي ويتكلم العبرية بطلاقة!!
و(أبو معاذ) هذا كان ظاهره بين الناس أنه حلاق، وكان قد درس علوم الشريعة الإسلامية لمدة سبع سنوات في لبنان، وفي لبنان تعرف على الشخصية السياسية والعسكرية اللبنانية المعروفة (العماد ميشيل عون) والذي جنده لمصلحة الموساد، بعدما أدخله إلى إسرائيل، فأندرج في سلك الموساد، وقد سافر إلى عدة بلدان منها إيران، وفلسطين، ولبنان، وتل أبيب، وسوريا، والعراق، وقد كان يدخل إلى الأراضي العراقية منذ عام 1997 بطرق غير قانونية ليقوم بتنشيط بعض الشبكات، وكان على تواصل واتصال في تلك الفترة مع عائلة (عبد الرحمن)!
وقد حاول بعض الأخوة أن يبحثوا له عن أوليات في المعهد الشرعي الذي درس فيه بلبنان فلم يجدوا له أثراً، فكان شخصية غامضة، مبهمة، وقد حدد له الأخوة بعض الأسئلة وأجابهم عليها ومنها الهدف من هذا العمل الذي قام به، فكان جوابه: أن هذا العمل هو جزء بسيط من مخطط كبير، يهدف إلى جعل العراق محرقة للمجاهدين، حتى إذا ما توسعتْ إسرائيل إلى إسرائيل الكبرى فلن تجد أمامها ما يعيق تقدمها. الكاتب: ابومحمد العراقي التاريخ: 13/08/2010 عدد القراء: 3430
أضف تعليقك على الموضوع
|
تعليقات القراء الكرام
|
|