إطــلالة على أحداث لنـــــــدن
بقلم : حسن الحسن*
A_l_hasan@yahoo.dk
تقتلن امرأة ولا صبياً ولا كبيراً هرماً ولا راهباً في صومعته ولا تقطعن شجرة ولا تحرقنّ بيتاً،
هذه هي المعاني التي تمثل القواعد العامة للتعاطي مع ما يطلق عليهم اليوم اصطلاحاً "المدنيين"، وهي تمثل مجموعةً من الأحكام الشرعية التي تركها النبي الكريم لإرشاد المسلمين في كيفية تعاطيهم في حروبهم مع أعدائهم في ميادين القتال وساحات المعارك، ما يجعل استهداف "المدنيين" أشد حظراً خارج دائرة الحرب
جعلت ذلك مدخلاً للحديث في الموضوع بغية وضع الأمور في نصابها، ولحسم قضية عدم جواز استهداف المدنيين لا في الحرب ولا في السلم. أما بالنسبة للحدث بحد ذاته فإن هناك مجموعة من المعطيات لا بد من التوقف عندها لبلورة قراءة متعمقة للحدث.
فالتفجيرات التي تستهدف المراكز المدنية في بريطانيا عموماً منبعها الجيش الجمهوري الأيرلندي بالعادة، وليس للمسلمين سابقة واحدة فيها، وإن كنت لا أتهمهم. وأما ردة فعل المسلمين كمتهمين بشكلٍ تلقائي عند وقوعها هذه المرة، إنما هو نتيجة لذلك النجاح الذي حققته حكومات الغرب من خلال أجهزتها المختلفة ووسائل إعلامها المحترفة بالتلبيس على الرأي العام العالمي في القضايا الدولية، وبجعل المسلمين المشتبه الأول الجاهز للبس التهم. ما صنع عقدة المرادفة، بأن المسلم هو مذنب إلى أن يثبت العكس
وهناك حالة من الانصياع لهذا المفهوم حتى عند المسلمين، الأمر الذي يدلل على مدى الهزيمة النفسية التي يحيونها للأسف الشديد. وهو ما يفسر تعاطي المسلمين مع كل حدث يقع في هذا الكون بعقدة ذنب مستديمة، وعليهم ذرف الدموع وكيل الاعتذار والشجب والاستنكار، والويل لمن لا يفعل ذلك منهم!؟
فمع المسلمين لا داعي للتحقيق والبحث عن الأدلة لإثبات أنهم مذنبون، ويكفي أن يقوم بلير بالإشارة إلى ذلك ضمناً كما جاء في خطابه فور سماعه بالحادث، مع أنه لم يتم بعد إسعاف الجرحى في حينها.
وبذلك أجج بلير الرأي العام على المسلمين، بإلقائه التهمة الجاهزة جزافاً عليهم، مع عدم نسيانه طبعاً إظهار "انسانيته" بأنه ليس كل المسلمين مجرمين! – يا سلام - ، وذلك بدلاً من أن يدعو إلى تهدئة الأمور بانتظار التحقيقات والتحذير من خطورة إطلاق أحكامٍ متسرعة، حتى تهدأ النفوس وتظهر الحقائق، فكان كمن يصب الزيت على النار، ما قد يفسر بأن هناك أجندة ما معدة سلفاً، يراد تجيير الحدث لتحقيقها، فبلير ليس بالرجل الساذج ليقع في مثل تلك الخطيئة، ما يلمح إلى أن وراء الأكمة ما وراءها!
وأما ما ادعاه توني بلير بأن من يقف وراء تلك التفجيرات إنما يريد أن يغير قيم المجتمع البريطاني، فإنه محض تغذية للحالة العدوانية اتجاه المسلمين، إذ أن من المعلوم أن أعمال العنف لا تغير قيما بل ترسخها بالعادة، وكل ما تحدثه مجرد خوف وقلق، فالقتل والتفجير يستعملان للترويع، وهما ليسا برسالة فكرية لإحلال قيم مكان أخرى، وكأنما أراد بلير من وراء ذلك ايجاد مزيد من الضغوط النفسية على المسلمين إضافة إلى تجييش الرأي العام البريطاني خلفه، بغية قطع الطريق أمام هجوم متوقع على سياساته والحط من قدره، ما يخشى معه من تأليب الرأي العام عليه وعلى حكومته، خاصة أنه كان قد قاد حرباً في العراق لا تتمتع بأدنى شعبية، وهو حليف استراتيجي للإدارة الأميركية الأكثر بغضا في العالم
كما أن بلير يعي تماماً أنه مع شركائه في المعسكر الغربي، هم من يريدون تغيير قيم المسلمين ومفاهيمهم عن الحياة وينادون بذلك صراحةً، بل ويلزمون الأمة الإسلامية بتغيير أفكارها ومناهجها وطريقة عيشها ويعتبرون ذلك شرطا لِتُقبل في ملتهم، سواء في العالم الإسلامي من خلال تطبيق منظومة دمقرطة الشرق الأوسط الكبير على الطريقة الأميركية، أو في بلاد الغرب من خلال عملية دمج المسلمين ضمن قيم ومفاهيم ووجهة نظر الغربيين الخاصة بهم عن الحياة.
وأما بالنسبة لتشديد الحملة على الإرهاب كما جاء في خطاب بلير، فإنها باتت نكتة سمجة، وسيمفونية مملولة بعد أن استُعمِلت "عمال على بطال"، وقد تم استهلاكها إلى آخر رمق في السنوات التي تلت أحداث 11 سبتمبر، بخاصة أن تلك الحملة قد حولت أفغانستان إلى أكبر منتج للسموميات المخدرة في العالم، بعد أن قضت عليها حكومة طالبان إلى حدٍ بعيد باعتراف من هيئة الأمم المتحدة، بل وأعادت أمراء الحرب ليسوموا أرض الأفغان سوء العذاب، كما حولت أرض العراق إلى بحيرة من الدماء، وقسمت البلد فعليا، وأججت فيه حرباً طائفية تؤذن بشّرٍ لا يطاق، كان العراق تحديداً أبعد ما يكون عنها. كما لم تحقق تلك السياسات العنجهية من قبل بوش وبلير الأمن في العالم، بل بات القلق والاضطراب هو سيد الموقف.
وأما بالنسبة للادعاء بأن تنظيم القاعدة هو من يقف وراء الأحداث الأخيرة، خصوصاً بعد نشر بيان منسوب له يدعي ذلك، فإن هناك ثلاث نقاط تدحض صحة نسبة ذلك الزعم: أولاً، الخطأ اللغوي في نص الآية في ختام البيان، وهذا أمر لا يستهان به عندهم. ثانياً اشتمال الخطاب على نداء إلى "الأمة العربية"، وهذا مفهوم يتناقض مع العقيدة الإسلامية، ويعتبر استعماله من المحظورات في أدبيات القاعدة بل ردة عن الإسلام، لأنه يغذي النفس القومي الجاهلي ويدعو إلى العصبية القومية المقيتة، والثالث الاسم الغريب المركب للجماعة الذي صيغ باسمه البيان، والذي لا تقدم على فعله جماعة لها باع في العمل الحركي. ما يشير إلى أن هناك محاولات لإلصاق الموضوع بالقاعدة وتلبيس المسلمين التهمة بغض النظر عن الحقيقة.
على كلٍ صحيحٌ أن السياسات الخرقاء التي يتبعها الغرب في العالم قد تجعل التفسير الأسهل لما حدث أنه مجرد ردة فعل على سياسات قادته الإجرامية التي اقترفوها وما يزالون في أماكن شتى، ما حدا بعمدة لندن كين ليفينغستون إلى قوله كنا نعلم ان هذا اليوم سيأتي ! كما ذكر النائب في البرلمان البريطاني غالاوي أن أطفال لندن هم كأطفال الفلوجة ، وكذلك كان رأي روبرت فيسك الصحفي البريطاني الشهير، وهو ما تنطبق عليه الرواية الشهيرة عن الجنرال الفرنسي الذي وطأ رقبة مقاوم جزائري إبان الاحتلال الفرنسي للجزائر حيث أطلق النارعلى رأسه ما تسبب بتناثر بعض رذاذات الدم على ثوب الجنرال الذي ركل الجثة بقدمه قائلاً لقد أوسخت ثيابي أيها الوغد، بمعنى أن تلك النتيجة متوقعة لتلك المقدمات، إلا أنّ الأخذ بعين الاعتبار بعض المعطيات من الواقع نفسه قد ترشد إلى تفسيرٍ آخر:
فقد تم الأعلان يوم الحادث ومن عدة مصادر، أن السفارة الإسرائيلية في لندن قد تلقت تحذيرات جدية بتهديدات متوقعة قبل وقوع التفجيرات بساعات من قبل السلطات البريطانية، ثم تم نفي تلك الأخبار لاحقاً، والمثير حقاً أن شارون قد أعطى تعليماته عقب ذلك إلى وسائل الإعلام اليهودية في "إسرائيل" بعدم تسليط الضوء على تفجيرات لندن وإقفال الموضوع، ما يثير علامات استفهام جدية!
كما أن الاحتقان داخل أوروبا نفسها قد وصل ذروته قبل انعقاد قمة الثماني في اسكولتندا، بين كل من المانيا وفرنسا وبريطانيا، والأهم هو ذلك الصراع الدولي القائم بين ضفاف الأطلسي – أوروبا وأميركا- وانعكاساته على القضايا الدولية وهو أمر بادٍ للعيان، خصوصاً إثر إصرار الأخيرة على التهام كعكة العراق بمفردها، وتسلطها على السودان للاستئثار بثرواته المكتشفة حديثاً، هذا فضلاً عن تأزم العديد من القضايا الدولية وعدم معالجة العالقة منها، كمشكلة الاحتباس الحراري والمحكمة الجنائية الدولية وأزمة التسوية في فلسطين والمستنقع الذي غرقت فيه أميركا في العراق، والصورة الشنيعة التي تشكلت في أذهان البشرية عنها بفضل معسكرات الاعتقال والتعذيب، والاختراقات الواضحة والفاضحة لحقوق البشر.
هذا هو ما ينبغي أن يعيه المتابعون، بخاصة المسلمون، الذين يراد لهم أن يغرقوا في زوايا ضيقة يتم تعليبهم فيها، ما يفقدهم القدرة على التمييز ويمنعهم من إبصار الأمور كما يجب، مما يؤدي إلى شلهم عن اتخاذ مواقف سليمة، كما يؤصل الشعور بالعجز فيهم، ويدفعهم إلى التبرء من بعضهم، ويجعلهم رهن ما يصاغ لهم من سياسات ماكرة.
عن موقع جريدة الشعب المصرية
2005-07-09
* نائب ممثل حزب التحرير الكاتب: أسامة الكابلي التاريخ: 01/01/2007 عدد القراء: 5622
أضف تعليقك على الموضوع
|