1. في شهر أيار 2004، شاهد العالم بذهول عميق عملية قطع رأس المواطن الأمريكي نيكولاس بيرغ, وهي عملية قطع الرأس الأولى ضمن سلسلة من عمليات قطع الرؤوس التي اقترفت بحق لرهائن أعدموا في العراق بأيدي جماعة اسلامية "جهادية" (اي ارهابية). لقد وثّقت تلك العملية الخاصة بقطع الرأس ببث مباشر في الانترنت. وقد ظهر في هذا البث شخص ملثم ومن حوله ثلاثة ملثمين آخرين, وهو يتلو نص حكم الاعدام الذي صدر بحق بيرغ ويحذر غربيين آخرين من البقاء في العراق والا فسوف يلقون المصير ذاته.
وفور ذلك, شوهد وهو يخرج خنجرا طويلا من تلابيبه, ويقطع رأس بيرغ الذي لا حول له, هاتفا مع الآخرين بتكبيرات ايقاعية - "الله اكبر"، عارضاً الرأس المقطوع امام الكاميرا بشكل استعراضي ينم عن انتصار مؤزر. وحسب ما تناقلته التقارير, فان الذي قام بعملية قطع الرأس كان ابو مصعب الزرقاوي (فيما يلي: الزرقاوي), أمير الجماعة الاسلامية التي كانت تسمى آنذاك "التوحيد والجهاد". وعلى ضوء عملية الاعدام المذكورة واعمال ارهابية كثيرة اخرى, يبرز الزرقاوي كأخطر ارهابي في العراق ما بعد صدام.
التفاصيل الرئيسية لسيرة حياة ابو مصعب الزرقاوي
2. ان محاولة الحصول على تفاصيل دقيقة ومثبتة حول الزرقاوي ونشاطه محفوفة بصعوبات كثيرة لعدم توفر النشر العلمي الموثوق به حول سيرة حياته الشاملة لغاية الآن (مايو 2005).ولذلك, فان المعلومات- وخاصة السيرة الذاتية منها- المشمولة في هذا الملخص, مصدرها دراسة جديدة وشاملة باللغة الانكليزية تم تأليفها من قبل د. لوريتا نبولئوني وهي توشك على الصدور قريبا في بريطانيا والولايات المتحدة (2).
تولد احمد فضيل نزال الخلايلة، الاسم الحقيقي لأبي مصعب الزرقاوي في تشرين الأول من العام 1966 في مدينة الزرقاء الأردنية لأسرة كبيرة تنتمي الى عشيرة بني حسن الشرق اردنية الموالية بأجمعها للأسرة الهاشمية المالكة. وقد ترعرع الزرقاوي في حي الفقراء "المعصوم". وكان تلميذا متوسط التحصيل, وكان يقضي معظم اوقاته في المقبرة البلدية التي اتخذها ملعبا له (والموجودة أمام بيته). وعرف كشاب متمرد ومتسرب من المدرسة، وأصبح شاباً جانحا وحتى حبس في السجن. وفي نفس الوقت, تأثر بالتصور الاسلامي المتطرف الذي تنامى في الأردن عامة، وفي مدينته خاصة، من قبل الحركة "السلفية - الجهادية" المحلية, التي كان يترأسها آنذاك عبد الله عزام وأبو محمد المقدسي وأبو قتادة (وهؤلاء كلهم من اصل فلسطيني؛ راجع التالي).
3. خلال ثمانينات القرن العشرين، وبعد الافراج عنه من السجن, شغف الزرقاوي بالقصص البطولية التي كان يسمعها في مسجد الحسين بن علي المحلي حول نشاط "الأفغان العرب" الذين انخرطوا في الجهاد ضد الاتحاد السوفياتي. وفي عام 1989 سمحت له السلطات الأردنية, التي على ما يبدو فضلت التخلص منه, بالمغادرة الى افغانستان. وقد وصل الزرقاوي اليها في أواخر الحرب، وقضى فترة تأقلم طويلة نسبيا هناك. وكان يشعر وكأنه غريب (ولهذا السبب أطلق عليه اللقب "ابو محمد الغريب"), وقد حافظ على علاقة وثيقة مع افراد عائلته. وفي البداية كان يقيم في مدينة خوست حيث كان يحتك بـ"أردنيين افغان" قدامى اكثر, ولكنه بعد ذلك انتقل الى بيشاور. وخلال اقامته هناك اصبح مسلما شديد التدين وصار من اتباع عصام محمد طاهر البرقاوي, المعروف بلقبه: ابو محمد المقدسي. ولقد انتقل المقدسي الى افغانستان في الثمانينات من القرن العشرين- بعد ان كان يتعرض للتضييق من قبل السلطات الأردنية مع الشيخ عمر محمود ابو عمر, المعروف بلقبه: "ابو قتادة". ويعتبر الشيخ ابو قتادة, الذي تمكن لاحقا من اللجوء السياسي الى بريطانيا, المنظر الايديولوجي الرئيسي للحركات الإسلامية المتطرفة على اختلافها (خاصة في أوروبا والجزائر), والجهة التي استشارها- كما نشر- بعض القادة الذين نفذوا العمليات الإنتحارية قبل تنفيذها (مثل محمد عطا قائد منفذي العملية الانتحارية الإرهابية في 11 ايلول 2001 في الولايات المتحدة).
4. خلال مكوثه في افغانستان حصل الزرقاوي على تدريب أيديولوجي وعملياتي في معسكر "سادا" الذي أقامه عبدالله عزام (قبل وفاته في 1989). ومع ذلك, لم ينضم الى تنظيم القاعدة وفضّل العمل (لفترة وجيزة وهامشية من الناحية العملياتية) بشكل مستقل. وفي عام 1993، عاد الزرقاوي الى الأردن حيث انخرط في النشاط الإسلامي المناوىء للتشريع الذي طبقه الملك حسين الراحل والذي كان الهدف منه الحدّ من القوة الناشئة للحركة الاسلامية في الأردن, وكذلك ضد اندماج الأردن في عملية السلام مع اسرائيل. وفي عام 1994، تم اعتقاله (مع المقدسي, الذي عاد هو ايضا الى الأردن وقاد النشاط الاسلامي المذكور). وفي سنة 1995، حكم عليهما بالسجن لمدة 15 سنة في سجن "سواقة" (ولكنهما قضيا فيه 5 سنوات فعلا).
5. اثناء الفترة التي قضاها في السجن, عايش الزرقاوي تجربة مبلورة ومزدوجة: من ناحية, عانى من العذاب في السجن، وكذلك تم حبسه في سجن انفرادي لفترات متفاوتة. ومن الناحية الأخرى, كان يمارس النشاط الرياضي لتخشين بدنه، وانهمك في دراسة القرآن ومراجع اسلامية كلاسيكية اخرى. وأصبح تدريجيا رئيسا لسجناء يشاركونه العقيدة التي تسمى "التوحيد والجهاد": إنها ايديولوجية (أو عقيدة) صاغها المقدسي، وتقضي بأن وحدانية الله مطلقة وتشكل اساسا لتكوين مجتمع اسلامي متجانس المميزات، ومبني على التطبيق الصارم للشريعة الإسلامية في كافة ميادين الحياة؛ وكل من يعارض هذا يعتبر كافرا وحكمه الموت.
6. وفي ايار 1999، تم الافراج عن الزرقاوي من السجن (مع المقدسي والكثير من السجناء السياسيين) في أعقاب العفو العام الذي بادر اليه الملك الجديد, عبدالله الثاني، الذي خلف والده, المرحوم الملك حسين بن طلال الذي توفي في شباط. وفي نهاية العام نفسه سمحت السلطات الأردنية للزرقاوي بالمغادرة ثانية الى افغانستان؛ وكان هدفه الانخراط في الجهاد في الشيشان الذي كان يقوده سمير صالح السويلم الذي كان معروفا بلقبه: "خطاب" (قتل على ايدي الروس في عام 2002). ولكنه اعتقل في باكستان التي مكث فيها قبل وصوله الى افغانستان بسبب انتهاء مفعول التأشيرة التي كانت بحوزته. وقد صودر جواز سفره وطالبه الباكستانيون بالعودة الى الأردن, ولكنه تمكن في النهاية من الوصول الى افغانستان. وفي بداية عام 2000 التقى مع بن لادن في قندهار ولكنه رفض عرضه بالانضمام الى تنظيم القاعدة، إذ انه في تلك الفترة لم يستصوب الانخراط في الجهاد ضد الولايات المتحدة (!). ومع ذلك, قبل بعرض محمد مكاوي الملقب بـ "سيف العدل" والمسؤول عن حماية بن لادن, باقامة معسكر تدريب لعناصره (قدم بعضهم من الأردن وأصبح بعضهم اتباعه في افغانستان) في هرات.
7. اصبح المعسكر في هرات مصدر قوة لأبي محمد "الغريب" الذي غيّر في ذلك الحين اسمه الى أبي مصعب الزرقاوي: مصعب, ابنه (ولده الرابع وليس البكر كالعادة), الذي اطلق عليه تيمناً بالصحابي المشهور (مصعب بن عمير العبدري), و"الزرقاوي"- للاشارة الى كونه من ابناء مدينة الزرقاء (التي كانت بمثابة دفيئة لتنامي الاسلام الأصولي المتطرف في الأردن). لقد صار قائداً للـ "العرب - الأفغان" الذين تدربوا في معسكره وكانوا يسمون بـ "جند الشام"؛ بما في ذلك المسلمون الأكراد من العراقيين والسوريين الذين كانوا يطمحون للإلتحاق بالجهاد في الشيشان.
8. عقب حملة القصفعلى أفغانستان من قبل الأمريكان (تشرين الأول 2001) قام الزرقاوي بتهريب عناصره (وأفراد عائلته) من هناك. ان عملية الانقاذ المنظمة والدراماتيكية (بدون اصابات بالغة) والتسلل عبر قندهار الى باكستان (ومنها تم نقل النساء والأطفال الى تركيا بينما تم نقل الرجال الى ايران حيث كانوا في ضيافة قلب الدين حكمتيار, احد قادة المعارضة لسلطة الطالبان والذي كان قد حصل على ملجأ هناك) جعلت الزرقاوي شخصية تحظى بالإعجاب. ولكنه في اوائل 2002- على ما يبدو, وفي أعقاب الضغوط الأميريكية- قام الايرانيون باغلاق معسكراته وحبس اكثر من 20 من عناصره؛ مما جعله يعجل في تنفيذ خطته للوصول الى العراق والاستقرار في المنطقة الواقعة تحت سيطرة انصاره من الأكراد الاسلاميين (وبشكل رئيسي افراد تنظيم "انصار الاسلام") واقامة معسكرين تدريبيين هناك.
9. عقب احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة (اذار- نيسان 2003), أعاد الزرقاوي ترتيب أولوياته السابقة، اي السعي لاسقاط الأنظمة العربية في الشرق الأوسط, ابتداء من الأردن وطنه، ليتحول الى الجهة الرئيسية التي اعلنت الجهاد ضد الأمريكان في العراق وأنصارهم من دول التحالف والسكان المحليين. وهؤلاء, حسب رؤيته, هم صائغو "الكذب الأكبر المسمى ديمقراطية" التي تتعارض تماماً مع الاسلام. هذا وقد كان تم ربط اسمه, حتى قبل ذلك, بنشاط ارهابي في الأردن (قتل تاجر الماس الاسرائيلي اسحاق سنير في آب 2001 وقتل الدبلوماسي الأميريكي لورنس فولي في تشرين الأول 2002, مما ادى الى الحكم الغيابي عليه وعلى عشرة من اتباعه بالسجن المؤبد). كذلك ورد ذكره على لسان وزير الخارجية الأميريكي في حينه, كولين باول, في خطابه المشهور في الأمم المتحدة (شباط 2003), بصفة من يعمل تحت رعاية صدام حسين في العراق, الأمر الذي دل على علاقة (ظاهريا) بين العراق والقاعدة, حسب ادعاء باول. وكذلك تم ربط اسمه بالعمليات الإرهابية الدامية والقاتلة التي نفذت في الدار البيضاء (ايار 2003) وفي مدريد (اذار 2004) والتي نسبت لنشطاء القاعدة. ولكن لم يتم الحصول على ادلة قاطعة على تورطه في الإرهاب على الساحة الدولية حتى كتابة هذا المقال (أيار 2005).
10. على كل حال, ابتداء من ربيع 2003 يبرز الزرقاوي قائداً للجهاد في العراق, ضد التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة وكذلك - وبشكل رئيسي- ضد العراقيين, المدنيين والعسكريين, الذين يعتبرون عملاء للتحالف وللسلطة العراقية الجديدة (تم التركيز خصوصا على الشيعة, بغرض اشعال الحرب الأهلية في العراق). وبهذا بدأ عمليا في تطبيق الرؤية العقائدية الاسلامية- السنية (المعروفة باسم "السلفية - الجهادية") المتطرفة التي تبناها, والتي تمت صياغتها بصورة رئيسية من قبل د. ايمن الظواهري- قائد تنظيم "الجهاد" المصري الذي انضم الى القاعدة (والتي أصبحت تُسمى قاعدة الجهاد) والساعد الأيمن لإبن لادن- انطلاقا من الرؤية العقائدية لسيد قطب (من كبار منظري الايديولوجية لجماعة "الاخوان المسلمين" في مصر, الذي اعدم في عام 1966) ود. عبدالله عزام (فلسطيني, المرشد العقائدي لإبن لادن). جوهر هذه العقيدة: يجوز قتل المسلمين - مثل الحكام العرب الذين يناهضون الرؤية العقائدية الاسلامية المذكورة ويعتبرون حكاماً فاسدين وعملاء للكفار أو بمثابة المسلمين (بما في ذلك رجال الدين) الذين يرفضون الانخراط في الجهاد ، خاصة انه "فرض عين" على كل مسلم.
رسائل الزرقاوي
11. عرض الزرقاوي رؤيته العقائدية المذكورة بصورة رئيسية في رسالتين كتبهما (باللغة العربية) في اوائل عام 2004. الأولى (والتي تخلو من اسمه), عثر عليها الأمريكان في جهاز الحاسوب الخاص به, وكانت قد أُرسلت, استنادا الى مضمونها, الى بن لادن وأيمن الظواهري ونشرت في شهر شباط. اما الرسالة الثانية, فقد نشرت في شهر نيسان في الانترنت متضمنة توقيعه عليها, بصفة "نداء الى الأمة الاسلامية", وتضمنت تعابير ظهرت في الرسالة الأولى. (بعد ذلك نشرت بيانات اخرى صادرة عنه, بعضها على نطاق محدود اكثر، كرر فيها أهم عناصر رؤيته العقائدية).
12. من ناحية, كتبت الرسالتان بلغة عربية واسلامية بليغة على ارقى مستوى؛ ومن ناحية ثانية, فهي تتضمن تعبيرات "غربية" معروفة مستمدة من المصطلحات العصرية. ويدل مضمونهما على ان مؤلفهما, الزرقاوي (او أحد كبار انصاره؟), هو شخص يلم جيدا بكنوز اللغة العربية وبالأدب الاسلامي - القرآن, السنة والحديث, الشعر, ومراجع مختلفة تمت كتابتها من قبل علماء الإسلام في القرون الوسطى. يستنتج من هذا ان مؤلف الرسالتين- والمخاطبين- يمتازون بخبرة واسعة, في مجال الثقافة الاسلامية- العربية الكلاسيكية وكذلك في مجال الثقافة (وبشكل جوهري السياسية) العصرية, العربية والغربية على حد سواء (خبرة لا يمتاز بها, على الأغلب, المجاهدون المسلمون العاديون، وبضمنهم عناصر "القاعدة"). ومن هنا، يمكن ان نفترض ان هاتين الرسالتين عبارة عن وثائق أصلية ومتميزة.
13. في هاتين الرسالتين (وفي غيرها) شرح كراهيته الشديدة للأمريكان وهدر دمائهم ودماء الكثير من المسلمين في العراق، خاصة الشيعة- الذين يُسمون من باب التشهير بهم "الرافضة" (الذين يرفضون الخلفاء الراشدين الثلاثة الأوائل وأحقيتهم في الحكم). نتيجة لذلك, اصبح الزرقاوي متورطا في تنفيذ عمليات ارهابية كثيرة (وأيضا تبنى المسؤولية عن تنفيذها), اهمها عمليات انتحارية نفذت باستخدام السيارات المفخخة. ومن بين هذه العمليات، تجدر الإشارة الى العملية المنسوبة الى ياسين جراد, والد زوجته الثانية, التي أستهدفت مسجد الامام علي الشيعي في آب 2003، وقتل فيها 125 شيعيا، وفي مقدمتهم مرشدهم الروحي, اية الله محمد باقر الحكيم, الذي وصف من قبل الزرقاوي في رسالته الثانية كعميل للأمريكان, والذي اعتبر الجهاد الذي يقوده الزرقاوي في العراق "عمليات ارهابية وتخريبية ضد الدولة".
14. يقع مركز النشاط الارهابي للزرقاوي في منطقة تسمى "المثلث السني" الذي تقع في وسطه مدينة الفلوجة, وكذلك ايضا في منطقة بغداد. وعقب ذلك, شن الجيش الأميريكي (بمساندة قوات عراقية) هجوماً شاملاً وطويل الأمد على مدينة الفلوجة (نيسان- تشرين الثاني 2004) بهدف القبض على الزرقاوي, ولكن لم يتحقق هذا الأمر خلال الحملة المذكورة (ومن الناحية العملية لم يتحقق لغاية الآن).
15. هكذا اصبح الزرقاوي شخصية نموذجية تُحتذى في نظر انصار الجهاد في العراق خاصة وأنصار الجهاد العالمي عامة. وفي اواخر كانون الأول 2004 قلّده بن لادن رسميا لقب "امير قاعدة الجهاد في ارض الرافدين". وهكذا صار حقا خاضعا لقيادة بن لادن بعد ان تجنب ذلك سابقا, ولكنه تحول من قائد تنظيم اسلامي محلي, "جماعة التوحيد والجهاد", لممثل مُعتبر ومُقدّر كمن يتولى "الجهاد العالمي" (أي بن لادن) - ومن الناحية الفعلية صار "الارهابي الاسلامي الناشط رقم 1" و"المطلوب الثالث" في العالم (جراء الحصار الملحوظ على نشاط بن لادن والظواهري, على فرض وجودهما على قيد الحياة).
الرؤية العقائدية لأبي مصعب الزرقاوي ومساهمته في تطور الجهاد في العراق
16. يعرض الزرقاوي بصورة عامة في رسائله, والتي تشكّل وثائق استراتيجية, ايديولوجية اسلامية سنية متطرفة (تعبر عن الاسم الذي اطلقه على تنظيمه, "التوحيد والجهاد"), وتتكون هذه الأيديولوجيا من مكونين رئيسيين. القسم الفكري، أو العقلي - العقائدي, الذي يستند الى مراجع اسلامية-عربية من القرون الوسطى والتي يتخذها الزرقاوي اولا وقبل كل شيء اساسا اسلاميا - سنيا متينا لتبرير نظرته القاسية تجاه الشيعة عامة والشيعة في العراق خاصة. ولهذه الغاية, يستعرض تاريخ وأفعال الشيعة في التاريخ الاسلامي. تستند وجهة نظره الى النظرة السلبية التي تميز بها فقهاء ومؤلفون مسلمون - سنة موقرون من القرون الوسطى, مثل ابن تيمية وأحمد بن حنبل تجاه الشيعة- بما في ذلك "قيام الشيعة بتحريف القرآن" بطريقتهم وانعزالهم عن الأمة الاسلامية - سنية, على الصعيد الديني- التعبدي وعلى صعيد الانتماء الجماعي. لهذا السبب، وعلى خلفية خيانتهم غير القابلة للسماح في الماضي, وخصوصا تجاه العثمانيين- حسب ادعاء الزرقاوي- لأنهم خذلوا المسلمين في اوقات الضيق ايام الحرب التي دارت مع النصارى الكفار وقت الحصار الذي فُرض على فيينا في عام 1683 ميلادي, حيث جعلت تلك الخيانة للمسلمين يفوّتون فرصة النصر الأكيد، وأدت الى تدهورهم (المستمر لغاية اليوم!) مما يستوجب ادانتهم, وبناء على ذلك، فمن المُبرر قتلهم.
17. ومن باب الإجتزاء، فان الشيعة في العراق يوصفون من قبله بتسميات شديدة اللهجة للتشهير بهم: "حثالة الجنس البشري", "بذرة نصرانية زرعتها اليهودية في ارض المجوس" (ابناء الديانة الزرادشتية), "أفعى سامة", "سم زعاف", "عظم في الحنجرة", "شوكة في الردف", "خونة", "كفار" والى اخره. ليس ذلك وحسب, فإن الشيعة، طبقاً لوجهة نظره، عبارة عن "طابور خامس", وبالتعاون مع مسلمين - سنة موالين للأمريكان, لا سيما فلول النظام السابق, والذين يحاولون تأسيس وترسيخ نظام شيعي جديد في العراق, مناوئ للسنة وموال للأمريكان. اي ان الأساس العقلي- العقائدي لايديولوجية الزرقاوي يأتي بغرض دعم هدفه الأساسي من تأليف الرسائل: تبرير تنفيذ العمليات الدامية ضد الشيعة لحثهم على الإنتقام من السنة واشعال حرب أهلية دامية في العراق تخل بالنظام العام وتحول دون امكانية تأسيس نظام جديد (معاد له ولأنصاره حسب رايه).
18. يمتاز مؤلف الرسائل بتعامل مزدوج تجاه الأمريكان في العراق, بالرغم من كراهيته الشديدة لهم:-
أ. من ناحية, يعتبرهم "جيش هائل من التتار" قام بإحتلال العراق, من أجل تفتيت الأمة العربية وكذلك من أجل منح الأمن للدولة المحمية الواقعة تحت رعاية الولايات المتحدة، اياسرائيل؛ بمعنى ان الأمريكان هم "الصليبيون" الجدد, الذين يشكلون مع اليهوداعداءالأمة الاسلامية- وهذا التصور يعبر عن الرؤية العقائدية التي تمثلها "الجبهة الاسلامية العالمية للجهاد ضد الصليبيين واليهود", التي انشأت من قبل بن لادن في عام 1998. يعتقد الزرقاوي ايضا بأنهم يشكلون "هدفا تسهل اصابته" حيث تنتشر عناصرهم على نطاق واسع في العراق, وهي الدولة التي لا يعرفونها، ولذا من السهل الحاق الضرر بهم.
ب. ومن الناحية الثانية, يعترف الزرقاوي بأن المعلومات الاستخبارية التي بحوزتهم حول العناصر التي على شاكلته تزداد بصورة دائمة، وبأنهم لا ينوون مغادرة العراق بشكل كلي بل القيام باعادة الانتشار وادارة الشؤون في العراق من معسكراتهم الخلفية. وبناء على ذلك، فإن تعاون العراقيين, شيعة وسنة (بما في ذلك الأكراد) مع الأمريكان يتيح للأمريكيين التضييق على نطاق نشاط عناصره وتضييق الوثاق حول أعناقهم. وعلى ضوء رأيه الواعي بأنه وأنصاره لا يحظون بمعونة ملموسة، ما عدا الإستضافة والاعراب عن التضامن- من جانب سكان العراق (وخاصة من قبل المسلمين السنة أمثاله) فقد اعرب عن خشيته (التي تحققت) من عدم قدرته وأنصاره على ايقاف تاسيس النظام (المؤقت, في الوقت الحالي) الجديدفي العراق.
19. ليس هذا فحسب, بل انه علاوة على الكراهية تجاه الأمريكان, فإن الرسائل تعبر من بين ما تُعبّر عنه عن رأي مسبق وملحوظ في تعامله مع اسرائيل واليهود، وقد استمده على الأرجح من الأدب العربي والإسلامي اللاسامي والمعادي لإسرائيل المنتشر في انحاء العالمين، العربي والاسلامي. على سبيل المثال، يرى الزرقاوي أن احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة جاء صنيعة لادارة اميريكية "موبؤة بالصهيونية ", والهدف منه مساعدة "الدولة المحمية" اليهودية الواقعة تحت رعاية هذه الادارة من أجل اقامة "دولة اسرائيل الكبرى"- وهو توصيف نشر عبر الإنترنت ومنسوب لإبن لادن نفسه. الى جانب ذلك، كما يرى الزرقاوي, فإن أحد اهداف الشيعة في العراق هو السيطرة على الاقتصاد مثل ما يفعله اليهود (كما يتبين ضمنا- على الساحة الدولية). وفي هذا السياق, ادعى أيضاً (في رسالة اخرى) بأنه اشترك في معركة الفلوجة 800 جندي اسرائيلي، بما فيهم 18 حاخاما يهودياً!
20. وعلى ضوء ذلك، فإن استنتاجه القاطع هو بأنه جراء التضييق على نشاط عناصره من جانب القوات الأمريكية وانعدام الإستعداد من قبل اغلبية سكان العراق للانخراط في الجهاد ضدهم, هناك ضرورة حيوية وملحة لادخال جهة اسلامية (ارهابية) خارجية في الساحة, تهز هذا المجتمع العراقي الاسلامي- السني "القاعد" (والذي يقف رجال الدين فيه مكتوفي الأيدي بصورة صارخة), من اجل تعميق الوعي فيما يتعلق بالخطر الذي يهدد العراقيين السنة جراء انتقال السلطة لأكثرية شيعية.
21. منذ بداية 2004 كان الزرقاوي اذاً معنيا بزخم جديد للعمليات الإرهابية القاتلة, اولا وقبل كل شيء ضد الشيعة- الذي يخضعونحسب رأيه لقيادة "حكومة علاوي (في حينه) "الكافرة" و"امام الكفر السيستاني"- وفي نفس الوقت ضد الأمريكان والأكراد- بما فيهم قائدهم, جلال الطلباني (رئيس العراق الحالي) الموصوف كعميل "للصهاينة والأمريكان", وضد السنة الذين يتعاونون معهم, وهذا من اجل القضاء على امكانية تأسيس نظام معادي له ولعناصره. وهو بذلك مستندا الى تحليله الواعي, إذ انه يعترف بأن الفشل المرتقب في تحقيق المذكور أعلاه- على ضوء شعوره بـ "الاختناق" والتضييق المستمر على نطاق نشاط عناصره (مع تكاثر المعلومات الاستخبارية عنهم)- سوف يجعلهم "يرزمون امتعتهم" ويبحثون عن ساحة اخرى للجهاد حيث سوف يعيدون نشاطهم (كما حصل لـ "مجاهدين" آخرين, حسب ما يذكره)؛ او ان مصيرهم سوف يكون آخر فسوف يستشهدون في سبيل الله. اذن فإن هذه العقيدة تعبر بوضوح عن الرؤية الاستراتيجية اما لتنظيم "انصار الاسلام" او للتنظيمات الاسلامية المشابهة (مع التركيز على "القاعدة") التي تتورط في عمليات ارهابية قاتلة في العالم.
22. ازاء الحيرة المذكورة للزرقاوي, وشعوره بأنه "يقوم بسباق مع الزمن" من اجل افشال تأسيس النظام الجديد وترسيخه في العراق, فإنه يتوجه بالخطاب الى المخاطبين الموقرين لرسالته الأولى- وكما ذكر سابقا, فلا اشارة لإسميهما في تلك الرسالة, ولكنه حسب مضمونها, كالمذكور اعلاه, من الواضح ان المخاطبين هما اسامة بن لادن (قائد تنظيم "القاعدة") ونائبه, ايمن الظواهري- طالباً المعونة العاجلة. أي انه يحتاج بشكل عاجل الى معونة خارجية من اجل "تطوير" الحملة الارهابية الجارية والتي قد تضعف (وبناء على اقواله, فإنه وعناصره يشكلون فيها "عنصرا رئيسيا"). علاوة على ذلك, وازاء الشعور بالضائقة الذي عبر عنه وكون نشاط المجاهدين (العراقيين وحلفائهم العرب), استنادا الى ادعائه, قليلة لا تكفي لتحقيق الهدف المرجو منه, فهو مستعد للعمل تحت امرتهما (مع عناصره) والعمل تحت لوائهما. هذا هو جوهر القسم العملياتي الذي يبين طريقة العمل المفضلة بالنسبة لمؤلف الرسالة: عمليات ارهابية كثيرة, اولا وقبل كل شيء ضد الشيعة, من خلال "التضحية الذاتية" أو الإستشهاد (اي العمليات الإنتحارية).
23. ومن هنا يتبين بأن الزرقاوي يعتبر نفسه قائدا الى جانب قادة التنظيمات الإرهابية الإسلامية في العالم - مثل تنظيم "القاعدة" (وتنظيمات اخرى, مثلا في الشيشان, و"فلسطين" والجزائر, كما ذكر في رسالة اخرى). وفي بعض الرسائل يستخدم مصطلحات اسلامية متطرفة, بما في ذلك تعامله مع الهدف من النشاط الأميريكي في الشرق الأوسط عامة وضد العراق خاصة ("اقامة دولة اسرائيل الكبرى"). اضافة الى ذلك, يشرح الزرقاوي في بداية رسالته الأولى بأن الأفضلية الكبرى للساحة العراقية تتمثل بكونها الساحة المثالية والنموذجية للقيام بالجهاد "في عمق الوطن العربي", على خلفية قربها من الأماكن الثلاثة الأكثر قدسية في الاسلام- مكة والمدينة (في السعودية) والمسجد الأقصى في القدس. ان انتصار الجهاد في العراق يعني, حسب رأيه, كسب موطأ قدم جدي في الشرق الأوسط يكون عبارة عن "مركز انطلاق" لـ "الجهاد العالمي" السني, بحيث يؤمن الصلة بين المجاهدين في الشرق الأوسط (بما فيهم الفلسطينيون الذين يحاربون اسرائيل) وبين رفاقهم الذين يعملون خارجه. يجب التأكيد انه استنادا الى رأي الزرقاوي، كان المسلمون السنة يقفون دائما في مقدمة المعسكر الاسلامي- لكونهم ابطالاً شجعانا يقاتلون كالأسود ويتقدمون كالفرسان (رهبان الليل وفرسان النهار، كما يسميهم) - من اجل الدفاع عن الأمة الاسلامية في وجه أعدائها.
24. اذن, فان الاستراتيجية- بمكونيها: العقائدي والعملياتي- المطروحة في هاتين الوثيقتين الاستراتيجيتين المتميزتين (ووثائق مماثلة أخرى), تتحقق على الأرض منذ اكثر من سنة. وبناء على ذلك، فلا عجب من التحول عن الهدف الرئيسي للعمليات الإرهابية ضد الأمريكيين ونقله ضد العراقيين (اولا وقبل كل شيء الشيعة- مواطنين وقادة ورجال امن على حد سواء- وكذلك نظراؤهم الأكراد والسنة), الذين يعتبرون عملاء للأمريكان وكفار بالاسلام، وحكمهم واحد- الموت. علاوة على ذلك, يعبر المؤلف عن شعوره بأن هناك "سباق مع الزمن"- بغرض افشال تأسيس وترسيخ نظام جديد يعادي رؤيته العقائدية من ناحية، بغرض منع ترسيخ الحكومة القائمة وذلك تمهيدا لسيطرة انصاره على الدولة من ناحية ثانية, وهي مرحلة يسميها "ساعة الصفر" - فهو مقتنع بأن القتال في العراق يشكل "نقطة تحول" في تاريخ العالم (نعم هكذا) ومفترق طرق: بين التحكم المطلق للغرب الكافر وحضارته واسلوب حياته, وبين النهضة الاسلامية الوشيكة. وحيث ان الجهاد سوف يكون المحك لصياغة النظام الجديد في العراق, فهو يدعو كافة ابناء الأمة الاسلامية للانخراط فيه بجموع غفيرة.
25. لهذا السبب, كما هو مذكور، يؤيد الزرقاوي بوضوح تنفيذ عمليات انتحارية قاتلة في العراق, مع التركيز على العمليات الإستشهادية والسيارات المفخخة. وهو يعي جيدا انه سوف يكون هناك معارضون لهذه الطريقة من العمل حيث انها مرتبطة بسفك الدماء, ويتمثل هذا أولا بالضحايا العراقيين المتوقع سقوطهم (3). ولكنه يصرح بشكل جازم بأن هذا هو الهدف من نشاطه الجهادي (أي الإرهابي), مما يجعله نشاطاً ناجعا ومُعينا على افشال اقامة النظام الجديد في العراق. ويقول ان المجاهدين الذين سوف يعملون معه سوف يستعدون للتضحية بحياتهم من اجل تحقيق الهدف, لأن الجهاد في سبيل الله, والهادف الى تعزيز الاسلام, اهم من اية مصلحة شخصية او عائلية لهم.
26. بالاضافة لذلك, يعتقد المؤلف بأن نجاح الجهاد في العراق سوف يصبح نموذجا لنشاط تنظيمه وتنظيمات اخرى تشاركه المسيرة او تنحاز اليه, على الساحة الدولية (التي يفضل اعتبارها "ساحة داعمة"). وبناء على ذلك, فان انتصار الجهاد في العراق سوف يكون وسيلة للتقدم نحو تحويل السعودية ومنطقة الشام الكبرى (التي تشمل "فلسطين") الى ساحة جهادية اقليمية, وخاصة في الشرق الأوسط (بما في ذلك ساحة النزاع العربي-اسرائيلي), التي سوف تكون بمثابة قاعدة مثالية لادارة "الجهاد العالمي". وهذا بالاستناد الى الرؤية الاسلامية التي تعتبر هاتين المنطقتين, حسب وصفه, "ميدان المعركة الحقيقية الفاصلة بين الكفر والاسلام". وفي هذا السياق, يذكر ان الجهاد المذكور موجه ايضا ضد الحكام العرب الذين يعتبرهم كفارا حيث ان دولهم تُستخدم كقواعد امداد لـ "الطائرات الأميريكية المدمرة", ولذلك سوف يكون مصيرهم العزل عن السلطة كما تم عزل صدام حسين.
27. ان معنى هذا الأمر هو بأن انتصار الارهاب الاسلامي في العراق قد يؤدي الى توسيع نشاطه في الشرق الأوسط خاصة وفي الساحة الدولية عامة. لذلك, وبالرغم من كون الزرقاوي صاحب رؤية عقائدية اسلامية متطرفة، والتي ما تزال حقا موقف الأقلية من المسلمين, فان اقواله قد تؤثر على جماهير واسعة للغاية من القراء المسلمين, وخصوصا من قبل جيل الشباب الذين قد يتعاطفون مع مضمون تلك الأقوال المستندة الى مراجع اسلامية - سنية معروفة ومقبولة, ويكرسون انفسهم لتحقيقها بالشكل الذي يفضله قادة تنظيم "القاعدة", وعلى رأسهم اسامة بن لادن. ويكمن في هذا خطر جدي لكل أولئك الذين تعتبرهم هذه الأوساط الاسلامية "كفارا" من اي نوع- نصارى, ويهود وحتى مسلمون- والمحكوم عليهم بالموت في اي مكان كان. ان هذا الاستنتاج يتطلب, طبعا, استعدادا اقليميا ودوليا واسع النطاق ردا على ذلك التحدي الاسلامي المرتقب. هذا سيكون بالطبع مدار البحث في نطاق محاضرة اخرى.
ملاحظة الدكتور يورام كهاتي
ان هذه الوثيقة تعتمد على محاضرة القيت في اطار يوم دراسي في موضوع "الجذور الايديولوجية للجهاد", والذي تم تنظيمه من قبل "مركز موشيه دايان لدراسة الشرق الأوسط وافريقيا" والذي انعقد في جامعة تل ابيب في 3 ايار 2005. ان هذه المحاضرة تنشر هنا لأول مرة, مع تصحيحات وتحديثات معلوماتية بسيطة, بمصادقة البروفيسور اشير ساسر, رئيس مركز دايان, وأشكره جزيل الشكر على ذلك. بودي ان اشكر ايضا د. مئير ليتبك من "مركز دايان" الذي دعاني الى القاء المحاضرة في اطار اليوم الدراسي المذكور. يذكر ان نشرة اكثر اسهاباً وتحديثا لنص هذه المحاضرة سوف تصدر كمقال علمي - مع باقي المحاضرات الملقاة خلال ذلك اليوم الدراسي- في كتاب سوف يصدر من قبل "مركز دايان", من اعداد البروفيسور يوسف كوستينر. وبناء على طلب البروفيسور ساسر, فإنه يطلب من كل من يستعين بنص هذه الوثيقة الا ينسى الإشارة الى "مركز موشيه دايان لدراسة الشرق الأوسط وافريقيا " كمصدر للمعلومات (اضافة للمؤلف طبعا).
الكاتب: ابو عاصم الصومالي التاريخ: 08/02/2007 عدد القراء: 6186
أضف تعليقك على الموضوع
|