قصص من مزارع العبيد
نشر الغسيل
عندما يصف أحد الشرفاء إنسانا خائنا بالخيانة والعمالة؛ يكون الأمر واضحا لا لبس فيه، وتكون ثقة الناس بالإنسان الشريف مدعاة لتصديقه.
وعندما يصف خائن أحد الشرفاء بالخيانة؛ لا يحتاج الأمر لكثير من التفكير والبحث، فغالبا ما يتضح بعد قليل أن الخائن يريد أن يشوه صورة هذا الشريف لتلميع صورته هو، أو لغايات أخرى يمكن وصفها بالدناءة.
وعندما يصف إنسان شريف إنسانا شريفا آخر بالخيانة والعمالة؛ فلا بد عندها من دراسة الموضوع والتأكد من صحة هذه الإدعاءات.
أما في حالتنا التي نكتب عنها اليوم - وهي الإحتمال الرابع والأخير، وهو أن يصف خائن وعميل؛ خائنا وعميلا مثله بالخيانة - فإن الأمر لا يعدو أن يكون "خناقة نَوَر" - مع احترامي "للنَوَر" واعتذاري لهم، لأنهم أشرف من المختلفين المقصودين بمـراحل -
طالعتنا الأخبار ووسائل الإعلام بالتصريحات النارية لمالك أحد مزارع العبيد، يصف مُلاّك مزرعة أخرى بالخيانة والتنازل في سبيل البقاء على رأس المزرعة، ويعطيهم دروسا في الوطنية والإخلاص للناس!
ثم جاءت الردود من مُلاك المزرعة المجاورة عاصفةً غاضبةً، تريد تفسيرا لما قيل، خاصة أنهم تعلموا دروسا كثيرة من المالك وأبيه وجده، وأنهم بزعمهم لا يخرجون عن هذا الخط الذي سارت عليه أسرة المالك ذي التصريحات النارية!
وبعد يومين قام الردادون والمهرجون في المزرعة الأولى بتدبيج المقالات ردا على اعتراضات المسؤولين في المزرعة الثانية، لإفهامهم أن مالك مزرعتهم سياسي محنك، وأنه ورث المزرعة بما عليها من عبيد ومواش كابرا عن كابر، وأنه ليس مثلهم لا أصل له في الملك، ولم تحضره بعض القوى الخارجية التي لها مصلحة بإحضاره، وأنه لذلك ليس مضطرا لخدمة مصالح الآخرين!
بعدها قام الحمقى والمغفلون من عبيد المزرعة الثانية؛ بمسيرات تؤيد مالكهم المفدى وتؤكد حبه لمزرعته وعبيدها وتفانيه في المحافظة على حدودها من اعتداءات المعتدين.
باقي العبيد في كلتي المزرعتين؛ صامتون لا دخل لهم، ويعتقدون أن الصراع بين المالكين هو صراع على رضا قوى خارجية، ولن يفيدهم في تحسين أوضاعهم المادية ولا الإنسانية بشيء، لذلك كانوا يشترون الجرائد المفروضة عليهم لاستعمالها في مسح زجاج النوافذ وأشياء أخرى... خاصة تلك المزينة بصورة مالكي المزرعتين.
فهم بهذا يمارسون نوعا من الإحتجاج الصامت على أوضاعهم المزرية، بعد أن فقدوا الأمل والقدرة والفكر على تنظيم أي اعتراض بأي طريقة أخرى، خاصة أن مفهوم الخيانة والوطنية والمواطنة عندهم ليس كباقي البشر الأحرار، فهو يتعلق بشكل أكبر بكمية الطعام التي تقدم لهم، وبكمية العلف الذي يعطى لمواشيهم، وبنوعية الكماليات التي يسمح لهم باستعمالها واستيرادها، وبنوعية العمل الذي يسمح لهم بممارسته، ولا علاقة له بالسياسة ولا بالحكم ولا بالمسؤولية.
القيادات الدينية للعبيد والنخب المثقفة ما زالت تحاول نصح صاحب المزرعة بإعطاء العبيد حقوقا أكثر، مثل حق اختيار من ينظف لهم الطرقات، ومن يجمع لهم القمامة، وكيف يتم جمع القمامة، وكمية المال اللازمة لمثل هذه الأعمال الضخمة في حياة المزرعة.
وهناك تطلعات حقيقية لدى هذه النخب والقيادات في أن يصلوا إلى اليوم الذي يصبحون فيه أحراراً في اختيار الطريقة التي يريدون أن يموتوا بها، والمكان الذي سيدفنون فيه، وشكل الشاهدة على قبورهم... كما أنهم توصلوا مع صاحب المزرعة إلى أن يعطَوا مناسبات ومنابر يتكلمون فيها إلى بقية العبيد، ليقنعوهم بأن صاحب المزرعة هو أفضل الموجود، وأنه لا فائدة من تغييره، فالقادم سيكون حتما أسوأ.
البشر الأحرار في بقية أنحاء العالم؛ لا يفهمون تماما ما يجري في مزارع العبيد، ولكنهم يعتبرون الأمر مسليا، خاصة أن فيه نوعا من نشر الغسيل القذر، وهذا يجلب القراء في الصحف والمشاهدين على شاشات التلفزة، ويغطي مساحة من الساحة الإعلامية، لذلك ينشرون مثل هذه الأخبار في الصفحات الأخيرة - كأخبار القتل والجرائم والحوادث المثيرة - فهم لا يضعون ما يجري هنا في خانة السياسة ولا الثقافة ولا الحضارة... بل هو قصص من مخلفات عهود العبيد التي تجاوزوها منذ زمان طويل. الكاتب: أبو الزبير الأنصاري التاريخ: 01/01/2007 عدد القراء: 5256
أضف تعليقك على الموضوع
|