لماذا فشلت الأمة الإسلامية مرةً ثانية : ليبيا وفجر الأوديسة أنموذجاً |
|
لماذا فشلت الأمة الإسلامية مرةً ثانية:
ليبيا وفجر الأوديسة أنموذجاً
لا ريب أن الله تعالى يفعل ولا يُسأل عما يفعل، يُقدِّر الأمر فلا رادَّ لقَدَره، يدفع بقدره الكوني مَن خالف قدره الشرعي، ويُذلُّ بأمره الكوني مَن خالف أمره الشرعي، وفي هذا السياق يفرح المؤمنون بنصر الله، ولكن يبقى السؤال: هل كنا في سياق هذا الفرح ممن ناله نصيبٌ من قوله تعالى: (قاتِلوهم يُعذِّبهم الله بأيديكم ويُخزِهم وينصركم عليهم ويشفِ صدور قومٍ مؤمنين) ، أم كنا ممن ناله نصيبٌ من قوله تعالى: (قل للمخلَّفين من الأعراب ستُدعَون إلى قومٍ أولي بأسٍ شديدٍ تقاتلونهم أو يُسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً وإن تتولَّوا كما تولَّيتم من قبل يُعذبكم عذاباً أليماً) ، وقوله تعالى: (وإن تتولَّوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) ؟
ووجه المسألة أن النازلة التي حلت بأهلنا في ليبيا قد توجه فيها الخطاب الشرعي للجهاد في سبيل الله على أي وجهٍ أردت تخريجه: ابتداءً من نصرة المستضعفين على الطاغية المتسلط على دمائهم حيث قال تعالى: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلُها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً. الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً) ، ومروراً بدفع الصائل الذي ضعفت معه آلة الرد فاستوجب النصرة في الله لا سيما مع استنصار أهلنا في ليبيا بالأمة حيث قال تعالى: (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قومٍ بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير) ، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" قالوا: يا رسول الله هذا ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً؟ قال: تأخذ فوق يديه" ، وفي حديث البراء أمرَنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبعٍ وفيه:"ونصر المظلوم" ، وعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبّك بين أصابعه" ، وفي حديث السنن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"المسلمون تتكافأ دماؤهم يسعى بذمتهم أدناهم ويجير عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم" الحديث. وإن شئت أن تجعل الأمر – بعد أن احتكم أهل ليبيا الثائرين على الظلم وأعوان الطاغية الظالم إلى السلاح على ما بينهما من تفاوت – من جنس قتال البغاة ففيه نظر قابل؛ لأن الحكم في الطائفة المعتدية ليس متعلقاً بشخص الطاغية فحسب بل يشمل أعوانه - وفيهم من هو مسلم بالجملة لا يماري في ذلك إلا مكابر- فحينئذٍ يتوجه الخطاب بقوله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين) ،قلت: وإن تصوير الحالة الليبية بقتال البغاة ليستقيم بعد أن اعترفت الدول العربية الإسلامية بشرعية ومرجعية المجلس الانتقالي الذي يقود هذه الثورة والتي استجاب لها عامة الشعب وبقيت عصابة الطاغية متمنعةً وباغيةً عليهم، ولا يُشكل على هذا ما أفتى به البعض من أهل العلم بوصف الطاغية بالكفر البواح – وهذا له بحثٌ مستقل إن يسر الله- لأن الكلام ليس عنه بل عن الطائفة المقاتلة معه، ومنهم من لا يبعد كونه مُكرَهاً لا يستطيع البوح بإيمان ولا الصراخ في وجه طغيان، فيكون من جنس من قال الله تعالى فيهم: (ولولا رجالٌ مؤمنون ونساءٌ مؤمنات لم تعلموهم أن تطأوهم فتصيبكم منهم معرَّةٌ بغير علم ليُدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيَّلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً) ، وعلى أي حال فإنه لا يستقيم البتة تكفير كل هذه الطائفة على ما فيها من ظلم وطغيان وصيال على الطائفة الأخرى، وهل يكون عدوانها صيالاً أم بغياً فيه نظر بحسب شوكة الشعب الثائر وانتصاب من يؤول إليه الحكم أو من في حكمه كمجلس الحل والعقد، والله أعلم.
والحاصل أن الخطاب الشرعي المتوجه للأمة الإسلامية في هذه النازلة هو النفير لنصرة أهل ليبيا المستضعفين الذين صيل عليهم وبُغي عليهم فلم تكفهم قوتهم في تحررهم من الاستضعاف ولا في رد الصائل ولا في دفع البغاة، مع ملاحظة أن الفريق الظالم الصائل الباغي هو في الجملة من المسلمين، فأين في هذا كله جواز الاستعانة بالطاغوت الأممي والصليبية الدولية؟
قد يقول قائل: إن الهدف والمصلحة متحققةٌ باللجوء إلى الأمم المتحدة، فنقول: هذا من الاستبدال القدري الذي تقدم بيانه، والتسليط العقابي للعدو الكافر على الطائفة المسلمة في الجملة، والحرمان العام للأمة من القيام بالأمر الشرعي ركوناً إلى قدرٍ كوني لا يتفق ضرورةً مع الأمر الشرعي وإن جاءت فيه مصالح جزئية، وحسبك في الفرق بين الحالين أعني قيام الأمة الإسلامية بهذا الواجب في مقابل اللجوء إلى الصهيوصليبية الكافرة قوله تعالى: (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً) ، فتأمل كيف جعلت الآية مدار التعسكر والقتال على الولاء الإيماني والشيطاني، وإن الناظر إلى واقع الأمر وما عليه الغرب الصليبي من روح التشفي والانتقام والتدمير لبلد مسلم بذريعةٍ كذِب هي نصرة المستضعفين ليدرك أن الأمر لا يمكن أن يقع في نطاق المقبول شرعاً ولو وافق هوىً أو عقلاً لدى البعض، وللشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي رحمه الله بحثٌ نفيس في تحريم الاستعانة بالكفار أنصح بالرجوع إليه كاملاً لأهميته، وأقتبس منه بعض المفاسد المترتبة بالاستعانة بالكفار التي ذكرها رحمه الله : (منها) أن الكفار أعداء للمسلمين عداوة عقيدة ودين، ومعلوم أن الكفار إذا مُكنوا من قتال المسلمين انتقموا منهم واستأصلوا شافتهم لما يضمرون لهم من البغضاء والعداوة، و(منها) أن الاستعانة بالكفار في تلك الحال موالاةٌ لهم وركون إليهم وقد قال تعالى: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تُنصرون) ، و(منها) أن الاستعانة بالكفار تمكينٌ لهم في كسر شوكة المسلمين والقضاء عليها بل ربما إبادتهم أو طردهم من بلادهم والاستيلاء عليها وكفى بالتاريخ شاهداً على ما نقول فالمسلمون في الأندلس مثلاً وقعت بينهم الفتن العظيمة واستنصر بعضهم بالنصارى على إخوانهم المسلمين حتى هلكوا جميعاً وزال سلطان المسلمين هناك والأمر لله من قبل ومن بعد – قلت: وما أمر العراق عنا ببعيد- و(منها) الاستعانة بهم كذلك سلم لهم للتدخل في شئون المسلمين الخاصة والاطلاع على عورات المسلمين ومكامن الضعف والقوة فيهم، الأمر الذي قد يجعلهم ساداتٍ وحكاماً يحتكم إليهم المسلمون، بل ربما آل الأمر بأولئك إلى حشد جيوشهم وسلاحهم في بلاد المسلمين باسم المحافظة على الأمن وفض النـزاع ونصرة المستضعفين والمظلومين وذلك بمجرد توجيه أدنى إشارة إليهم للنجدة والنصرة من بعض من في قلوبهم مرض من المسلمين. اهـ باختصار وتصرف يسير.
قلت: ومن هذه المفاسد العظيمة اليوم إظهار الكفار المحاربين أعداء الأمة من الصهيوصليبية الحاقدة الكائدة للإسلام ليل نهار بمظهر المنقذ نصير المظلومين مع ما يترتب على ذلك من وقوع حبهم في قلوب المسلمين وهذا مشاهدٌ ملموسٌ لا ينكره إلا مكابر، و(منها) وضع القوات العسكرية الإسلامية تحت إمرة القيادة العسكرية الصليبية الكافرة وكفى بهذا سوءً، ولعمري طالما أن بعض الدول الإسلامية مستعدة لحماية المدنيين في ليبيا – أو ما نسميه شرعاً نصرة المستضعفين – فلماذا لم يفعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم بوازع الشرع أو حتى النخوة العربية أو حتى معاهدة الدفاع العربي المشترك؟ أم أنه لا بد من أن يكون الآمر صليبياً، وأن يكون الأمر صليبياً، وأن يكون البطل صليبياً على طريقة الكاوبوي أو رامبو أو غيرهم من أبطال الحرية والإنقاذ، أو على طريقة "فجر الأوديسا" كما هو اسم هذه الحملة الصليبية الجديدة، وسنتكلم على بعض مضامين هذا الاسم إن شاء الله؟ وتأمل كلام ابن حزم رحمه الله:" وأما من حملته الحمية من أهل الثَّغر من المسلمين فاستعان بالمشركين الحربيين وأطلق أيديهم على قتل من خالفه من المسلمين أو على أخذ أموالهم أو سبيهم؛ فإن كانت يده هي الغالبة وكان الكفار له كأتباع فهو هالكٌ في غاية الفسوق ولا يكون بذلك كافراً لأنه لم يأت شيئاً وجب به عليه كفراً قرآنٌ أو إجماعٌ، وإن كان حكم الكفار جارياً عليه فهو بذلك كافرٌ على ما ذكرنا، فإن كانا متساويين لا يجري حكم أحدهما على الآخر فما نراه بذلك كافراً والله أعلم" ، فهذا حكم بالكفر على من جعل حكم وإمرة الكفار جارياً عليه في هذا السياق، فتأمل.
والخلاصة، إن نصرة أهل ليبيا فرضٌ كفائي على الأمة، وإن الأمة آثمةٌ شرعاً في عدم نصرتهم، وقد اجتمعت في هذه الأمة الكفاية العددية والسببية والدافع والواجب الشرعي للقيام بذلك، فاختار الناطقون باسمها زوراً وبهتاناً أن يلهجوا بالدعاء إلى الطاغوت الأكبر صنم الدنيا الموسوم بمجلس الأمن وسدنته الصهيانة الصليبيين، وآثروا أن تكون قواتهم العسكرية وقراراتهم المصيرية صادرةً عن أروقة البنتاغون والناتو أذلهما الله، وأعود فأقول إن هذا الاختيار باطلٌ شرعاً وعقلاً ولا يجوز الاحتجاج بمنجزاته قدراً، وإن الأخير هو أخوف ما أخاف على أمتي الحبيبة؛ أما البطلان الشرعي فلما تقدم من أدلة ولولا خشية الإطالة لأطلت، وأما البطلان العقلي فقد بان لكل فرد من أفراد الأمة سيرة السوء التي سارت بها ركبان الطاغوت الأممي في شعوبنا وبلادنا، وأما الاحتجاج بالقدر على مخالفة أمر الله فبضاعة المفلسين، نسأل الله السلامة والعافية.
وأخيراً، فإن العاقل ليدرك أن شيئاً مما سطرته لا يراد به سكوت عن ظلم أو ظالم، ولا تقرير طاغٍ على طغيانه، ولكن حكم الله تعالى أحب إلينا من حكم عقولنا وأهوائنا، كما أن هذا الكلام ليس مزايدةً على أحد في رأيه أو اجتهاده وإنما هو تحاكمٌ إلى الشرع، وتحذير للأمة من هذه المكيدة الجديدة، وحسبك منها أن تدك أساطين الكفر أوتادها العسكرية بين أول روضتين من رياض الثورة العربية المسلمة في مصر وتونس، لسان حالها يقول: لكم صناديق الاقتراع ولنا القرار العسكري واليد الطولى، وأنتم في هذا وهذا تبعٌ لنا ولا عكس. وهنا عودة إلى الاسم الذي أطلقه الصليبيون على هذه الحملة وهو "فجر الأوديسا"؛ والأوديسا بطل ملحمة إغريقية مشهورة أستعير منها إشارتين اثنتين على غاية الأهمية: أولاهما أن هذا البطل قد ظل هائماً على وجهه في مسرح هذه الملحمة وهو شواطئ البحر المتوسط ما ينيف على عقد من الزمن قبل أن يعود منتصراً إلى دياره، وثاينهما أن هذا البطل كان له دور مهم في حيلة حصان طروادة المشهورة في هذه الملحمة، فتأمل كيف أن اسم هذه الحملة الصليبية يشير إلى الخداع كما في خدعة حصان طروادة، وإلى الظهور بمظهر البطل المنقذ السائح في شواطئ المتوسط ردحاً من الزمن، وصدق الله العظيم: (والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً) .
وهذا كله يعيدنا إلى ما نبهت عليه سابقاً: علينا أن نرفع شعاراً واحداً لثوراتنا كلها اليوم: أمةٌ إسلامية واحدة، الحكم فيها لله، والعمل فيها بشرع الله، والآمر فيها الله ورسوله، والمطاع فيها الله ورسوله، ومناط الولاء والبراء والنصرة فيه عقد الإسلام، فبمنهج التغيير هذا ترخص الأرواح ويطيب الصبر على البلاء فلا نستعجل النتائج بمخالفة أمر الله تعالى ومنهج رسوله صلى الله عليه وسلم، والله غالبٌ على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وكتب الفقير إلى عفو ربه
وسيم فتح الله