الشعوب العربية: بين عدم الإرادة وإرادة العدم

 

الشعوب العربية: بين عدم الإرادة وإرادة العدم

د. وسيم فتح الله

لا ريب أن بعث الشارع العربي في بعض توزعاته الجغرافية من حالة السبات العميق إلى حالة الحركة الثائرة أمرٌ جلل، إذ تحولت فيه حركة الفرد والجماعة من الدوران الرتيب في فَلَك المسموح إلى حركةٍ انفجارية متمردة على كل ممنوع. ولكن المتأمل في تفاعلات الشعب العربي بقسميه الثائر والساكن يجد أن الثائر منها قد أحدث نقلةً نوعيةً من حالة "عدم الإرادة" إلى حالةٍ إراديةٍ استطاعت أن تحرك الشارع العربي تحريكاً فاعلاً نحو هدف معين عنوانه "الشعب يريد إسقاط النظام" لتقف بعد ذلك عجلةُ التحول النوعية عند حالةٍ عدمية لا تغني عنها مطالب العدالة والحرية كونها مطالب عامة، مجردة الهوية، مشوشة الاتجاه، تعبر عن مشتركات إنسانية مطلقة غير مقيدة بخصائص الحالة العربية الإسلامية. ولا بد من أن نفترض أن التقصير في الإعداد لمرحلة ما بعد سقوط الأنظمة هو على أقل تقدير أحد أسباب هذا التحول من مرحلة "عدم الإرادة" المتمثلة في قوله تعالى حكاية عن نظام فرعون: (فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون) إلى مرحلة "إرادة العدم" كما في قوله تعالى: (كذلك وأورثناها قوماً آخرين) ، أيّاً كان القوم الآخرون، أو قل: أيّاً كان نظام الحكم الجديد. والمقصود أن العدم لا يراد من حيث هو عدم، بل يراد من حيث هو عدم الفاسد الطالح ليوجد مكانه النافع الصالح، ألم تر أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم البعوث لهدم الأصنام ما كان ليثمر شيئاً ما لم تكن القلوب قد استوثقت عقد الإيمان، ليحل التوحيد الصحيح محل الشرك الصريح، وليتحاكم الناس إلى شرع الله بدلاً من التحاكم إلى شرع الطاغوت؟ ألم تر أن مقصود الشريعة من التحول بالشرك إلى حالةٍ عدمية هو التحول بالإيمان إلى حالة وجودية؟ ألم تر أن الوقوف عند مرحلة إسقاط الأنظمة الطاغوتية هو وقوفٌ عند قول " لا إله"، وأن إحلال النظام السياسي الشرعي الإسلامي هو تمام الشهادة بقول "إلا الله"؟
ولئن كان أحدنا يستطيع أن يتحرى بقدر وسعه غاية وجوده الفردي في ظل أنظمة غير إسلامية فتبرأ ذمته على المستوى الفردي، فإن غاية وجودنا الجماعي – أو الأممي حسب لفظ القرآن – لا يمكن أن يتحقق البتة إلا في صيغة نظام حكمٍ سياسيٍ شرعيٍ إسلاميٍ يحقق العدالة بمفهومها الإسلامي بوضع كل شيء في موضعه وبالتسوية بين ما سوى بينه الله ورسوله والتفرقة بين ما فرق بينه الله رسوله، ويحقق الحرية بمفهومها الإسلامي في ظل (قد تبين الرشد من الغي) لا في ظل (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) ، ويحقق الشورى بمفهومها الإسلامي وفق منظومة (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون) . ولكن قبل الاسترسال في هذه المطالب بصيغها المشروعة فلنتذكر أن صيغة الحكم الإسلامي مطلوبةٌ لتحقق قبل كل شيء الغاية الكلية الكبرى والمقصد الأسمى للشريعة الإسلامية ألا وهو تعبيد الخلق للخالق بإقامة التوحيد وشعائره وإماتة الشرك ومظاهره.
نحن بحاجة إذاً إلى استنهاض همة الأمة جمعاء لاستعادة وعينا الوجودي، ولاستدراك معالم هويتنا العقدية لننتقل من حالة "إرادة العدم" إلى حالة "إرادة الوجود الإسلامي" التي أمر الله تعالى بها داود عليه السلام – وقد كان نبياً ملكاً – حيث قال تعالى: ( يا داود إنّا جعلناك خليفةًً في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيُضلك عن سبيل الله إن الذين يَضلون عن سبيل الله لهم عذابٌ شديد بما نسوا يوم الحساب) ، وإن بعث همة الأمة العربية الإسلامية على هذا المطمح السامي كفيلٌ بتحريك الشعوب العربية التي لا تزال تعاني من حالة عدم الإرادة تسوسها في بعض الأحوال شهواتٌ مغرقة وفي بعضها الآخر حالةٌ من التحنيط الفقهي العقيم، وهي في الحالتين تتربص بالدول التي ثارت بالفعل لتنظر إلى مآلها: هل تغدق عليها ثمرات الديمقراطية والدولة المدنية العلمانية الحديثة فتتوق لها أفئدة الهوى وتشرئب لها أعناق ذوي الشهوات، أم تنتهي إلى حالة وجود إسلامي ما يُخرج فقهاء التحنيط من غيبوبة الفقه التدجيني الدخيل على شرع الله إلى حيوية الفقه السياسي الشرعي الذي يقام به الدين، وتحفظ حدوده، ويؤمن فيه أولياء الرحمن، وينقمع فيه أولياء الشيطان، لعلهم يركبون موجة التغيير القادمة لاجتثاث جذور الشرك ومعالمه في كل أرجاء الأمة، لتقيم على أنقاض ذلك وبدون مداهنات أو مساومات الإمارة الإسلامية العالمية؛ إمارةٌ منهجها: (الذين إن مكنَّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور) ، وحليتها: (وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) ، ورسالتها: (ومَن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين) ، وأمنها السياسي: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديدٌ ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قويٌ عزيزٌ) ، وأمنها الاقتصادي: (ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقَوا لكفَّرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم. ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أُنزل إليهم من ربهم لأكلوا مِن فوقهم ومِن تحت أرجلهم منهم أمةٌ مقتصدة وكثيرٌ منهم ساء ما يعملون) ، وهكذا تتكامل المعالم الوجودية لهويتنا الإسلامية وبهذه الشعائر العظيمة يكون إنتقالنا من عدم الإرادة إلى إرادة العدم الفاسد والوجود النافع؛ أعني عدم دولة الشرك ووجود دولة التوحيد...
ختاماً أنبه على أن إعلان هويتنا ورفع عنوان الإمارة الإسلامية العالمية لثوراتنا الحالية والمقبلة يتعلق في هذه المرحلة بمعاقد الإيمان والتوحيد المجملة، ويبقى مجال التدرج في تطبيق تفصيلات الشريعة وتعاهد عوام الأمة بالتربية الربانية المتأنية، وفرق ما بين الإجمال والتفصيل هو الفرق ما بين التحاكم والحكم أو قل المرجعية والتطبيق، ولبسط هذا موضعٌ آخر ولكن لزم التنبيه على أن مقصودنا تحقيق هويتنا الإسلامية دون مداهنةٍ ولا خجل، مع مراعاة ما تتطلبه جروح وقروح عقودٍ من الطغيان والتجهيل والتلبيس بالباطل من التلطف والمداراة في العلاج والتطبيب حتى يتعافى الجسد الإسلامي برمته؛ وهنا أنبه على أن محل الإعلان والكبرياء الإيماني أليق في تعاملنا مع عدو الخارج، وأن محل المداراة والتلطف التطبيقي أليق في تعاملنا مع جروح وشبهات الداخل، والله أعلم.
فإلى كل ثائرٍ حر؛ اعلم أن ثورتك التي تليق بعبوديتك لله تعالى هي ما وافق قصد الشارع لا ما وافق هواك، واعلم أن حريتك التي تنشد هي تحررك من استعباد المخلوق لا تحررك من عبوديتك للخالق، واعلم أن هدمك صنماً لا يثمر ما لم تقم مكانه محراباً من محاريب التوحيد، وأن تمزيقك علماً لا يجدي ما لم ترفرف مكانه راية التوحيد، فلأجل هذا فلتهراق الدماء ولترخص الأموال ولتبذل المهج، أما لغير ذلك فلا، والحمد لله رب العالمين.

وكتب/ الفقير إلى عفو ربه
وسيم فتح الله


الكاتب: د. وسيم فتح الله
التاريخ: 11/03/2011