غزة مكاسب بلون الدم |
|
كتب طالب شافع الحسيني في 4/1/1430:
من غير اللائق أن نتكلم مرارا عن خسائرنا، ونتجاهل دائما مكاسبنا.
ولهذا سأحاول في مقالي هذا الإشارة لجانب محدود من المكاسب التي جنيناها من وراء مذبحة غزة، على قاعدة الشرع: وعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرا.
فنحن نتألم لما يجري بالفعل، غير أنه قد وقع، فصار تجاهله بعد وقوعه يعد حماقة، فعلينا أن ننظر إليه من جوانبه العديدة، والتي منها مكاسبنا التي جنيناها من ورائه.
أولى هذه المكاسب في نظري: كشف المتورطين الخائنين للقضية بوضوح، وليست هذه هي المرة الأولى التي يتم الكشف عنهم، لكنها المرة الأولى التي تتكلم فيها «حماس» بوضوح عن خيانة أمثال «محمود عباس»، بل وترفض دعوته للفصائل هذه الأيام بالاجتماع للتباحث والمشاورة، وهذا في نظري تقدُّم عظيم وهائل في الاستراتيجية لحماس، التي كنا لوقت قريب نتمنى لو قامت بهذه الخطوة، وكنا نتألم من مهادنتها لبعض الأطراف الذين فاحت خيانتهم للقضية الفلسطينة أمثال محمود عباس وزمرته.
ليس من الحكمة في هذه المرحلة أن نسكت عن الخونة، ونهادنهم، لأن القضية تموت مع التمييع، فلابد من الصرامة والوضوح في فصل الصفوف وبيان الحق من الباطل، يقول الله عز وجل: [وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ] {الأنعام:55}.
فلابد من استبانة سبيل المجرمين، وفصلها عن سبيل المؤمنين، في المعركة بين الحق والباطل، والكفر والإيمان، يقول الله عز وجل: [وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا] {الفتح:25} وهذه المزايلة والمفاصلة بين الحق والباطل هي المقدمة الضرورية في سبيل إعلاء كلمة الحق، ودحض الشرك والمشركين.
وقد حصلت هذه المقدمة الآن، ووقعت بوضوح، وصار الكلام عن الخونة أوضح من ذي قبل.
ولاشك أننا كنا بحاجة لهذه المفاصلة ولهذا الوضوح في الخطاب بعد وضوح الرؤية، وذلك أن تمييع الأمور يضر بأصل القضية وربما يقضي عليها.
وثاني هذه المكاسب: هو الانتعاش الجاري في الشعور الإسلامي، والصحوة التي سرت في عروق الشعوب المغلوبة على أمرها، وهي وإن لم تكن على المستوى المطلوب منها الآن، لكنها على الأقل ستساعدها على البقاء، والإعلان عن نفسها حسب معرفتها الآن على الأقل، ونحن لا نشك في أنه سيأتي اليوم الذي تقف فيه هذه الجماهير العظيمة الموقف اللائق بها كجماهير مسلمة مؤمنة بقضيتها، سيأتي اليوم الذي تقول فيه الجماهير كلمة الفصل، وتعلن عن نفسها بقوة تتوازى مع حجمها وثقلها في العالم الإسلامي، فهي مادة الإسلام، وجنده، مهما طال صمتها فسيأتي اليوم الذي تتكلم فيه، ومهما طال غيابها فستحضر يومًا ما، لا نشك في هذا، ونثق في إيمان هذه الجماهير، ونعوّل عليه في يوم الزحف الأكبر، ونعلم يقينا أنها لن تخذل أمتها، لكن علينا انتظار اليوم، والصبر عليها، فقد عانت كثيرا من عوامل التغييب والتغيير والتضليل، وقد بدأت الآن تتململ وتستفيق على أضواء الدم الغزاوي السائل وريحه الطاهرة.
لا بأس إذا كان ثمن صحوتها آلاف الأطنان من الدماء، فدم المسلم رخيص جدا عندما يطلبه الإسلام، يقدمه المسلم راضيا مطمئنا، لا يحرص على دنيا كما تحرص يهود.
سيأتي يومك أيتها الجماهير، لكن على أولئك الذين يكتبون للجماهير أن لا يجلدوها فهي لا زالت تمسح النوم عن عينيها وبحاجة لمن يحسن إيقاظها، ويتولى رعايتها وتعليمها.
فليست جماهير أمتنا الثائرة اليوم هي هي التي كانت من عشرين عاما، فقد بدا الفارق كبيرًا، وجزى الله عنا شهداء غزة خير الجزاء، فقد أعادوا إلينا جماهير أمتنا، ونأمل أن لا يطول أمرها لتقول كلمتها الفصل التي نوقن أنها ستقولها يوما ما.
والمكسب الثالث: والذي كان حقه أن أقدمه أولا: هو تلك الأرواح الطائرة التي صعدت إلى بارئها، لتبعث يوم القيامة على حالتها البريئة العظيمة، نغبطها ونحسدها على نيلها كرامة الشهادة فيما نحسبهم جميعا والله حسيبهم، فهنيئا لشهداء غزة فيما نحسبهم ما نالوه، هنيئا لهم ما نالوه، فيا فرحتهم ويا فرحة أهلهم بهم، عندما يلتقون يوم القيامة فيشفع الشهداء لأهليهم، فيدخلونهم الجنة، وافرحتاه بشهدائنا، وافرحتاه بشهدائنا، وافرحتاه بشهدائنا.
وفي الوقت الذي تحرص فيه يهود الجبن والخزي على الحياة أية حياة كانت، كما قال الله عز وجل عنهم: [وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ] {البقرة:96} وورد لفظ حياة في الآية الكريمة بغير تعريف ليدل على أنهم يحرصون على الحياة أيًّا كانت، بينما يحرص المسلم على الموت في سبيل الله.
في الوقت الذي يتمسكون هم بأهداب الحياة، نتمسك نحن بأهداب الموت، نطلبه ونسعى إليه، وعبثًا تهددنا يهود بالموت؟ قاتلكم الله وهل نسعى إلا إليه؟ وهل نرغب سوى فيه؟
فما قيمة تهديد بما يتمناه المسلم ويعشقه؟ ما قيمة تهديد يهود لغزة بما تتمناه غزة وتحرص عليه؟ وترجوه من رب العالمين؟ لكن يهود لا يعقلون، فقد طمس الله على عقولهم وقلوبهم فهم لا يفقهون.
وكان مما أزال عنا بعض الحزن لفراق أحبابنا ما سمعناه وقرأناه في وسائل الإعلام التي تنقل أحاديث الغزاويين فنسمعهم يقولون: ارتقى فلان شهيدًا، يعتبرون موته ارتقاء، وحقٌّ ما قالوا، وهل تحاربهم الدنيا إلا لكونهم على الحق؟
بدأ الناس يتحدثون عن الموت بلذة، كأنهم يرجونه صباح مساء، وينامون بعد النطق بالشهادة، ينطقون بها في غزة ثم ينامون في مساكنهم بهدوء واستسلام وراحة بال واطمئنان إلى المصير، فإما أن يوقظهم الله في الصباح، وإما أن يكتب عليهم الارتقاء فتقصفهم يهود غدرا ليلا في ظلمة الليل التي لا تعرف يهود غيرها.
وفي مقابل هذا المشهد رأينا صورا بثتها وسائل الإعلام ليهود وهم يضعون أيديهم على أعينهم في الشوارع والمدن التي طالتها أيدي المقاومة الإسلامية، رأينا هذه الصور لعدد هائل من اليهود يغمضون أعينهم في وضح النهار وتحت الشمس جبنا وهلعا وخوفا، وتراهم يسارعون إلى المخابئ والملاجئ والغرف المحصنة خوفا من صاروخ يدوي صنعته المقاومة في غزة بيد لا تملك ولا تقدر، غير أن الله عز وجل القادر هو الذي يرمي وينصر، كما قال تبارك وتعالى: [فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ المُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] {الأنفال:17} فمالك السماء والأرض هو الذي يقاتل عن المسلمين ويدافع عنهم ويرمي رميهم، فقاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم، كما قال سبحانه وتعالى: [قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ] {التوبة:14}.
والمكسب الرابع: هو إقناع المهزومين عمليا بهشاشة الآلة الصهيونية التي لولا الخيانة لما وصلت إلى استهداف المقاومة اليدوية التي لا تملك سوى الإيمان بالله عز وجل، وكفى به، فلابد من الإيقان بهشاشة الآلة الصهيونية الغاشمة وجبنها، لأنها الحقيقة، وإنما هي آلة صنعتها الدعاية الإعلامية لا أكثر ولا أقل، ولو استيقظ العرب واستفاقوا وأرادوا أن يلقوا بإسرائيل في البحر لفعلوا، لكن المشكلة فيهم هم، وفي إرادتهم هم، جراء الدعايات الإعلامية التي صورت إسرائيل على أنها الإمبراطورية العظمى التي تتجاوز قوتها كل القوى الأرضية، وهذه كذبة مفضوحة، آن للناس أن تقتنع بما وقعوا تحته من تأثير الكذب والدجل اليهودي عندما صوروا أنفسهم وقدموها في قالب القوة، مع أنهم أجبن وأخس شعوب الأرض، لا يقدرون على قتال طفل مسلم إلا غدرا أو من وراء جدُر، يقول الله عز وجل: [لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ] {الحشر:14}.
فهم أجبن شعوب الأرض وأقلها انتصارا، ولم يسجل التاريخ لليهود نصرا مؤزرا يوازي انتصارات المسلمين التي لا يحصيها التاريخ، وإنما ينتصر اليهود في وقائع معروفة محدودة، وبطرق معروفة تقوم على الغدر والجبن والخسة والخيانة، كما حصل في حرب67 وكما حصل في حربها الآن ضد غزة الصابرة المجاهدة، وهكذا يهود دائمًا، يحوطها الجبن، ويملأها الرعب والخوف ولو لم يكن في البلد غيرها.
وقد آن للجماهير أن تقتنع بجبن يهود وهشاشة عظمها، فلا هي بالإمبراطورية الكبيرة العدد، ولا هي بالدولة القوية القادرة على أن تصنع شيئًا أمام العدد المحدود من المسلمين، لولا الغدر والخيانة.
وهذه هي فلسطين خير شاهد على ما نقول، بعددها المتواضع، وأسلحتها الأكثر تواضعا، حتى إن الانتفاضات الفلسطينية كانت تواجه الدبابات الإسرائيلية بالطوب والحجارة، فهل قدرت دبابات يهود على إسكات صوت طفل يمسك حجرا؟
ألم يأن الأوان لتتعلم الجماهير من هذا الدرس الفلسطيني؟ خاصة وقد صار الآن درسا عمليا واقعيا، قامت به المقاومة اليدوية، بأسلحتها المصنوعة يدويا، والتي لا نجد لحالتها تفسيرا سوى أن الله رمى، وأن الله ينصر المؤمنين ويدافع عنهم ويسدد خطاهم ورميهم.
فاللهم رب الناس اهزم الأحزاب وانصر أهلنا في غزة وأحسن عزاءهم في قتلاهم واجعلهم شفعاء لهم ولسائر المسلمين يوم نلقاك، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.