دونه خرط القتاد

 

بسم الله الرحمن الرحيم


دونه خرط القتـــــــاد


الحمد لله , والصلاة والسلام على رسول الله , وعلى آله وصحبه ,أما بعد :
فقد خاض الناس في تكفير أعضاء مجلس الأمة (البرلمان ) وتبنى بعض أخواننا هذه المقالة من غير تفصيل ولا تقييد , فأحببت أن أجيب – بإيجاز شديد -على هذه المقالة بما جمعته من أقوال المحققين بتيسير الله جل وعلا , وأن أثبت أن تكفير عموم الداخلين لهذه المجالس وتعيينهم بالكفر دونه خرط القتاد , أما الحكم الفقهي في جواز دخول البرلمانات أو عدمه فليس من غرض هذه المقالة , فأقول مستعينا بالله جل وعلا إن الداخلين لهذه المجالس التشريعية على قسمين -من حيث إقرار الديمقراطية من عدمه- , وهما ما يلي :


القسم الأول : من دخلها مقرا بها -والعياذ بالله - فمما لا خلاف فيه بين العلماء المعتبرين في هذا العصر أن الإقرار بالحكم الديمقراطي وهو: (حكم الشعب بالشعب بحسب النظر الدنيوي من غير تقيد بالشريعة ) كفر وردة عن دين الله لمصادمته أصل الديانة لله جل وعلا بالطاعة والاستسلام لحكمه بالانقياد , قال تعالى (( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما )) فأقسم تعالى في هذه الآية الكريمة بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور ثم ينقاد لما حكم به ظاهرا وباطنا ويسلمه تسليما كليا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة وبين في آية أخرى أن قول المؤمنين محصور في هذا التسليم الكلي والانقياد التام ظاهرا وباطنا لما حكم به صلى الله عليه وسلم , وهي قوله تعالى (( إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا )) الآية (انظر / أضواء البيان ج1/ص246 ) قال الجصاص في (أحكام القرآن ج3/ص181) :" وفي هذه الآية دلالة على أن من رد شيئا من أوامر الله تعالى أو أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم فهو خارج من الإسلام سواء رده من جهة الشك فيه أو من جهة ترك القبول والامتناع من التسليم وذلك يوجب صحة ما ذهب إليه الصحابة في حكمهم بارتداد من امتنع من أداء الزكاة وقتلهم وسبي ذراريهم لأن الله تعالى حكم بأن من لم يسلم للنبي صلى الله عليه وسلم قضاءه وحكمه فليس من أهل الإيمان" , وقال الفخر الرازي في (التفسير الكبير ج10/ص124) :" وهذا نص في تكفير من لم يرض بحكم الرسول عليه الصلاة والسلام ", وقال ابن تيمية في (المجموع ج28/ص471" فكل من خرج عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشريعته فقد أقسم الله بنفسه المقدسة أنه لايؤمن حتى يرضى بحكم رسول الله في جميع ما يشجر بينهم من أمور الدين والدنيا وحتى لا يبقى في قلوبهم حرج من حكمه ودلائل القرآن على هذا الأصل كثيرة"
القسم الثاني : من دخل البرلمان على وجه الإصلاح والمعارضة لما يخالف شرع الله غير مقر بالديمقراطية فهذا هو محل النزاع مع أصحاب المقالة المذكورة

وجوابنا على من قال بكفر هذا الصنف من أوجه كما يلي :


الوجه الأول: أن الداخل للبرلمانات على هذا الوجه لم يلابس مكفرا ليكفر , فالفرض أن عقيدته سالمة من الديانة بالديمقراطية أو استحسانها ولسانه بريء من الإقرار بها ويده لم تتلوث بالتشريع المخالف لدين الله


فإن قيل أنهم يقسمون على احترام الدستور وهذا كفر فالجواب أن من دخل لغرض الإصلاح يستعمل التأويل ,والتأويل في الأيمان معتبر لجلب مصلحة راجحة أو دفع ضرر , قال ابن قدامة في (المغني ج9/ص420): "معنى التأويل أن يقصد بكلامه محتملا يخالف ظاهره نحو أن يحلف أنه أخي يقصد أخوة الإسلام أو المشابهة أو يعني بالسقف والبناء السماء ..ولا يخلو حال الحالف المتأول من ثلاثة أحوال أحدها أن يكون مظلوما مثل من يستحلفه ظالم على شيء لو صدقه لظلمه أو ظلم غيره أو نال مسلما منه ضرر فهذا له تأويله " إلى آخر كلامه رحمه الله .
فإن قيل جواز هذا العمل مشروط بأن لا يكون المستحلف له القاضي أو الحاكم فالجواب أن تقييد من قيد جواز التورية في الأيمان في غير الحاكم والقاضي " محله إذا لم يكن الحالف محقا لما نواه وإلا فالعبرة بنيته لا بنية القاضي فإذا ادعى أنه أخذ من ماله كذا بغير إذنه وسأل رده وكان إنما أخذه من دين عليه فأجاب بنفي الاستحقاق فقال خصمه للقاضي حلفه أنه لم يأخذ من مالي شيئا بغير إذني وكان القاضي يرى إجابته لذلك فللمدعى عليه أن يحلف أنه لم يأخذ شيئا من ماله بغير إذنه وينوي بغير استحقاق ولا يأثم بذلك " قاله البلقيني كما في ( أسنى المطالب ج4/ص401) ثم إن تحليف القاضي إنما تعتبر فيه نية المستحلف " إذا كان في أمر في الماضي أما في المستقبل فعلى نية الحالف لأنه ليس للمستحلف الاستحلاف في المستقبل " قاله ابن نجيم في (غمز عيون البصائر ج1/ص90) وقد لخص ابن القيم القول في التأويل في اليمين فقال في (إغاثة اللهفان ج1/ص389) : "التأويل في اليمين ..نوعان نوع لا ينفعه ولا يخلصه من الإثم وذلك إذا كان الحق عليه فجحده ثم حلف على إنكاره متأولا فإن تأويله لا يسقط عنه إثم اليمين الغموس والنية للمستحلف في ذلك باتفاق المسلمين بل لو تأول من غير حاجة لم ينفعه ذلك عند الأكثرين , وأما المظلوم المحتاج فإنه ينفعه تأويله ويخلصه من الإثم وتكون اليمين على نيته " إلى آخر كلامه رحمه الله


وهذا التأويل في الحلف الذي يفعله الداخلون للمجلس النيابي -إذا سلم لهم رجحان المصلحة في دخولهم البرلمان - من جنس المعاريض المباحة, قال ابن القيم في ( إعلام الموقعين ج3/ص235)في سياق الحديث عن المعاريض "قال شيخنا والضابط أن كل ما وجب بيانه فالتعريض فيه حرام لأنه كتمان وتدليس ويدخل في هذا الإقرار بالحق والتعريض في الحلف عليه والشهادة على العقود ووصف المعقود عليه والفتيا والحديث والقضاء وكل ما حرم بيانه فالتعريض فيه جائز بل واجب إذا أمكن ووجب الخطاب كالتعريض لسائل عن مال معصوم او نفسه يريد أن يعتدى عليه , وإن كان بيانه جائزا أو كتمانه جائزا فإما أن تكون المصلحة في كتمانه أو في إظهاره أو كلاهما متضمن للمصلحة فإن كان الأول فالتعريض مستحب كتورية الغازي عن الوجه الذي يريده وتورية الممتنع عن الخروج والاجتماع بمن يصده عن طاعة أو مصلحة راجحة كتورية احمد عن المروزي وتورية الحالف لظالم له أو لمن استحلفه يمينا لا تجب عليه ونحو ذلك وان كان الثاني فالتورية فيه مكروهة والإظهار مستحب وهذا في كل موضع يكون البيان فيه مستحبا وإن تساوي الأمران وكان كل منهما طريقا إلى المقصود لكون ذلك المخاطب التعريض والتصريح بالنسبة إليه سواء جاز الأمران"


والذي ألجأ هؤلاء إلى مثل هذا التعريض وقوع مصالح المسلمين تحت سلطان القوانين الوضعية وهي مصالح عامة ومتنوعة منها ما يمس الدين ومنها ما يمس الدنيا ولا سبيل إلى استنقاذها – في حالة الضعف التي نعاني منها - إلا بهذه الحيلة , ومعلوم أن القسم مختص بوقت معين وظرف خاص ولا يطلب من الداخل للمجلس أن يستصحب ما أظهره من احترام الدستور طوال فترة عضويته ولا يمنع من بيان عقيدته والمجاهرة بمنابذة الدستور بعد أداء القسم إذ أن القسم من شكليات العضوية وليس دينا يفرض على الداخل ويكره عليه وبالتالي فالقسم على الوجه المذكور لا يستلزم تضليل الأمة ولا الإغراء بالكفر ولا ينافي الكفر بالطاغوت لا في الحال ولا المآل , والحاكم باشتراطه هذا القسم ظالم للناس إذ جعله حجر عثرة تحول بين الناس وبين المشاركة في صنع القرار السياسي – ومن القرارت ما لا يكون تشريعا مع الله - الذي يرمي بظلاله على حياة الناس في كل مجال من مجالات الحياة , ووفق هذا التصور جاءت الفتاوى من أهل العلم بجواز الدخول للمجس النيابي , وبهذه القيود قيدت .


الوجه الثاني : لو سلمنا ملابسته للكفر فإنه ليس كل من وقع في الكفر وقع الكفر عليه , قال شيخ الإسلام قي (المجموع ج10/ص371) :" وإنما المقصود هنا أن ما ثبت قبحه من البدع وغير البدع من المنهي عنه في الكتاب والسنة أو المخالف للكتاب والسنة إذا صدر عن شخص من الأشخاص فقد يكون على وجه يعذر فيه إما لاجتهاد أو تقليد يعذر فيه وإما لعدم قدرته كما قد قررته في غير هذا الموضع وقررته أيضا في أصل التكفير والتفسيق المبنى على أصل الوعيد فإن نصوص الوعيد التي في الكتاب والسنة ونصوص الأئمة بالتكفير والتفسيق ونحو ذلك لا يستلزم ثبوت موجبها في حق المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع لا فرق في ذلك بين الأصول والفروع هذا في عذاب الآخرة فان المستحق للوعيد من عذاب الله ولعنته وغضبه في الدار الأخرة خالد في النار أو غير خالد وأسماء هذا الضرب من الكفر والفسق يدخل في هذه القاعدة سواء كان بسبب بدعة اعتقادية أو عبادية أو بسبب فجور في الدنيا وهو الفسق بالأعمال , فأما أحكام الدنيا فكذلك أيضا فان جهاد الكفار يجب أن يكون مسبوقا بدعوتهم إذ لا عذاب إلا على من بلغته الرسالة وكذلك عقوبة الفساق لا تثبت إلا بعد قيام الحجة " , وقال رحمه الله في (المجموع ج12/ص501):" فليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين وان اخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة , ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة " .


والمتأول تأويلا سائغا معذور بالإجماع قال العيني في (عمدة القاري ج24/ص90) : " ولا خلاف بين العلماء أن كل متأول معذور بتأويله غير ملوم فيه إذا كان تأويله ذلك سائغاً في لسان العرب أو كان له وجه في العلم " , ومعلوم أن هذا الضرب من الداخلين للمجالس النيابية يعتمدون على فتاوى مشهورة لطائفة من أعلام العصر , ونحن نعلم أن مذهب أولئك الأعلام في هذه المسألة مبني على قاعدة ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما ولا يقول أحد منهم أن الكفر أدنى المفسدتين – وحاشاهم ذلك- بل قد تقرر لديهم أن الداخل للمجلس على هذا الوجه لا يلابس الكفر لا مختارا ولا مضطرا كما بيناه في الوجه الأول وأن الدخول للمجلس الغرض منه عدم تمكين المفسدين من العبث بمصالح المسلمين إذ لو ترك المجلس للعلمانيين وأشباههم لتضاعف الشر وهذه مفسدة كبيرة لا تدفع إلا بدخول المصلحين .


وليعلم القارئ الكريم أن الكفر بالطاغوت من المسلمات العلمية , وأن الحكم على البرلمانات بصورتها المعاصرة بأنها من جنس الطاغوت لا نزاع فيه , وإنما البحث في انفكاك جهة الكفر بالطاغوت عن جهة الدخول في البرلمانات على وجه المعارضة لها وعرقلة سيرها في إفساد الدول والمجتمعات , فإن من أفتى بدخول المجالس النيابية يقول إن دخولها لا يستلزم إقرارها والرضى بها , وفي تركها تضييع لمصالح المسلمين لا يندفع إلا بمشاركة المصلحين ومزاحمة العلمانيين .
وهؤلاء إن نوزعوا في الحكم الذي قرروه , فلا ينازع في إسلامهم فإنهم متأولون فيما ذهبوا إليه .


الوجه الثالث : أن القول بتكفير هذا الصنف لم ينقل عن عالم معتبر البتة , وهذا الوجه يكشف اللثام عن خلل خطير في منهج التلقي والاستدلال عند من قال بكفر الداخلين للمجلس مطلقا ونزل التكفير على أعيانهم بغير تفصيل , فإن من آفات طلب العلم أن يجرؤ الصغير على ما توقف فيه الكبار, وأن يهجم طويلب العلم على مقالات وأحكام تتعلق بعموم الأمة لم يسبق إليها وليس له فيها إمام , ولا أعرف لماذا لا يتهم هؤلاء آراءهم عندما يخالفون الأئمة ؟ هل هو من الإعجاب بالنفس ؟ أم من ازدراء العلماء واحتقارهم في العلم واتهامهم في الدين ؟ أم من مجموع الأمرين ؟


هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه .



الكاتب: حسين الخالدي
التاريخ: 03/05/2008