الدم الحرام.. مهداة إلى أرواح شهداء الشام المباركة

 

الدم الحرام


مهداة إلى أرواح شهداء الشام المباركة

وسيم فتح الله

إن مضاجع الناس لَتنقضّ، وإن النفوس لَتغتم لأي حالٍ يضطرب فيها معاش الناس، حتى إذا سُفك الدم الحرام عظمت المصيبة وجلَّ الأمر، وكان الفساد الذي يعدل قتل الناس جميعاً، وكان السائر في هذا سائراً على سنن اليهود الذين كتبوا تاريخهم بالدماء؛ دماء الشعوب التي أرادوا استعبادها واستغلالها لمصالحهم الخاصة، ودماء الأنبياء الذين أرسلهم الله تعالى مصلحين لحالهم ومقومين لانحرافهم، فأبوا إلا الفساد، ولم يرضوا لأنفسهم غير الإنحراف، قال الله تعالى: (مِن أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنّه مَن قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومَن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً ولقد جاءتهم رسُلُنا بالبيِّنات ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لَمُسرفون) ، فلقد جعلت الآية استحلال دم فردٍ واحدٍ عنواناً لمنهج الإفساد في الأرض، وجعلت قتل فردٍ واحدٍ بغير حق كقتل الناس جميعاً، لأن من هان عليه سفك دمٍ حرامٍ، هان عليه سفك دماءٍ ودماء، قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (ومن أحياها): مَن حرَّم قتلها إلا بحق (فكأنما أحيا الناس جميعاً).
إن قتل النفس الحرام لعظيمٌ إذاً، إنه عظيمٌ بين الناس، وعظيمٌ في شرائع الأنبياء، وعظيمٌ عند الله تعالى؛
فلقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَزوال الدنيا أهون على الله مِن قتل رجلٍ مسلمٍ" ، قال ابن العربي:" ثبت النهي عن قتل البهيمة بغير حق والوعيد في ذلك، فكيف بقتل الآدمي؟ فكيف بالمسلم؟ فكيف بالتقي الصالح؟!" ، قلت: ولئن كان البلاء بقتل النفس الحرام عظيماً، فكيف بقتل الأطفال على حياة أمهاتهم وآبائهم، وأي حسرةٍ وغمٍّ يعتصر قلب تلك الأم المكلومة، وأي غضبٍ يفور في قلب ذلك الأب المفجوع، قال الله تعالى مسجلاً جرائم فرعون: (وإذ نجَّيناكم مِن آل فرعون يسومونكم سوءَ العذاب يُذَبِّحون أبناءكم ويَستَحيُون نساءكم وفي ذلكم بلاءٌ مِن ربكم عظيمٌ) ، ولهذا جعل الله تعالى قتل الأطفال علامة النفاق التي تدل على كذب من يدعي الإصلاح في حين يدل فعله على إرادة الإفساد في الأرض، فقد قال عز وجل: (ومِن الناس مَن يعجبك قولُه في الحياة الدنيا ويُشهدُ اللهَ على ما في قلبه وهو ألدُّ الخِصام. وإذا تولَّى سعى في الأرض لِيُفسد فيها ويُهلك الحرثَ والنسل والله لا يحب الفساد) ، قال ابن جريج في قوله تعالى (سعى في الأرض ليفسد فيها): قطع الرحم وسفك الدماء دماء المسلمين، فإذا قيل:لم تفعل كذا وكذا؟ قال: أتقرب به إلى الله عز وجل؟" ، قلت: فكيف إذا أقام هذا المدعي للإصلاح وهو مفسدٌ منتهكٌ للحرمات شهودَ الزور ممن ينتسبون إلى العلم والعلماء، فلعمري إن أصحاب هذه العمائم المضللة الذين يفتون أهل الإفساد بأنهم مصلحون، ويزينون لهم ما يعملون، لعمري إنهم لَشركاء في جرائم الإفساد، بل هم أعظم جرماً إذ أن غيرهم يفسد الحرث والنسل، وهؤلاء فوق إعانتهم على ذلك يفسدون على الناس دينهم، وينسبون إلى شرع الله تعالى ما لا يحب ولا يرضى، وصدق عبد الله بن المبارك حيث قال:
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبارُ سوءٍ ورهبانها
والمقصود، أن سفك الدماء من عظائم الأمور، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يزال المؤمن في فُسحةٍ من دينه ما لم يُصِب دماً حراماً" ، فمتى أصاب المؤمن الدم الحرام فسدت عليه دنياه وآخرته، ولم يدر ما المخرج كما قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:"إن من ورطات الأمور التي لا مخرَج لمن أوقع نفسه فيها سفكَ الدم الحرام بغير حِلِّه" ، وإذا أردت أن تعلم مدى هذه الورطة فتأمل قول الله تعالى: (ومَن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدَّ له عذاباً عظيماً) ، فأي ورطةٍ أكبر من الخلود في نار جهنم، وصب غضب الله تعالى عليه، ولعنه أي طرده من رحمة الله مع العذاب العظيم، و(عذاباً عظيماً) من الله ليست بالأمر الهيِّن، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:" وقد ثبت عن ابن عمر أنه قال لمن قتل عامداً بغير حق: تزود من الماء البارد فإنك لا تدخل الجنة" .
وفي مقابل هذا يدرك المقتول ظلماً أنه منصورٌ لا محالة؛ فهو منصورٌ في الدنيا حيث ظهر إفلاس ظالمه فباء الظالم بالإثم المبين وبقيت صفحة المقتول المظلوم بيضاء نقية، كما قال تعالى عن ابني آدم: ( لئن بسطت إليَّ يدك لِتقتلني ما أنا بباسطٍ يدِيَ إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين. إني أريد أن تَبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين) ، وهو منصورٌ في الآخرة حيث تقام محكمة العدل السماوية فيقتص فيها لكل مظلومٍ ممن ظلمه، فلقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتؤدُّن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يُقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء" ، فهذا في البهائم فكيف ببني آدم؟! وقد روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يجئ المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده وأوداجه تشخب دماً يقول: يا رب هذا قتلني، حتى يدنيه من العرش. قال: فذكروا لابن عباس التوبة، فتلا هذه الآية: ( ومن يقتل مؤمناً متعمداً) قال: وما نُسخت هذه الآية ولا بُدِّلَت، وأنَّى له التوبة" ، وفي رواية البيهقي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يجيء الرجل آخذاً بيد الرجل فيقول: يا رب! هذا قتلني، قال: فيقول الله: لم قتلته؟ فيقول: لتكون العزة لفلان، فيقول: فإنها ليست لفلان، بؤ بذنبه" ، قلت: قال بعض الفضلاء:" إن أخسر الناس صفقةً يوم القيامة من أصلح دنيا غيره بفساد آخرته".
ثم إن هذه الحرمة العظيمة للدماء المعصومة في الإسلام قد ارتقيُ بها إلى مرتبةٍ أعظم تُهدَر فيها دماء نفرٍ قليلٍ حلَّقت أرواحهم في آفاقٍ سامية، فجعلوا يفتدون دماء أمةٍ عظيمة بدماء آحادهم، فكانوا هم سادة هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، فقد قال صلى الله عليه وسلم:"سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجلٌ قام إلى إمامٍ جائرٍ فأمره ونهاه فقتله" ، قلت: والأصل أن يكون هذا الرجل من العلماء الذين يُقتدَى بهم، غير أن هذا الطريق لا يقتصر عليهم، بل قد يكون في آحاد الأمة من هو أقل علماً من جهة الحفظ والرواية لكنه أشد ورعاً وحفظاً لمحارم الله وحرمات عباده بحيث لا يجد لنفسه مندوحة عن نصرة الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مقامٍ يوقن فيه أنه مقتول لا محالة، إذ أنه يخرج إلى الإمام الجائر أعزل إلا من الحق، مجرداً إلا من خوف الله، لا سلاح معه يضرب به ولا جُنّة معه يتقي بها إلا الإيمان، ولهذا المعنى والله أعلم كان سيد الشهداء؛ لأنه مقتولٌ لا محالة، ولهذا فإننا نقدر هؤلاء النفر ونُجِلُّهم لأنهم تاج فخارٍ لهذه الأمة، فهم الذين ارتضوا أن تُسفك دماؤهم لتقتلع من الأرض جذور الظلم الذي تروع فيه النفوس وتنتهك الحرمات وتغرس مكانها شجرة العدل الذي قامت به السماوات والأرض لتأمن النفوس لعمارة الأرض وتصفو الأرواح لمناجاة خالقها، ويتآلف الناس في إطار من البر والقسط، فلكم أيها المجاهدون العُزل، ولكم أيها الأحرار الأباة، ولكم يا سادة الشهداء نقول: إن دماءكم المحرمة أمانةٌ في أعناقنا، وإن دماءكم الزكية ستبقى تذكي شعلة العدالة في أمتنا وأرضنا ليستنير بها القاصي والداني، وليعلم بها الناس كل الناس أن دولةً ما لا تقوم بالظلم، وأن دولةً ما لا تدوم بالظلم، وليعلم الناس كل الناس أننا أهلٌ لإقامة دولة العدل في أوطاننا، وأننا أهلٌ لاحترام الدماء في موضع احترامها وصيانتها، وأننا أهلٌ لبذل الدماء في موضع بذلها وإراقتها، وأننا بين ذاك وذاك كخير ابني آدم، أما من يستبيحون الدماء المحرمة المعصومة فنقول لهم كما قال ابن عمر: تزودوا من الماء البارد فإنكم لا تدخلون الجنة...

وسيم فتح الله


الكاتب: د. وسيم فتح الله
التاريخ: 24/05/2011