مناصحة حماس لرفع الالتباس |
|
مناصحة حماس لرفع الالتباس
الحمد لله الذي أنزل القرآن والحديد، والصلاة والسلام على المبعوث بالحكمة والأمر الرشيد، وعلى آله وصحابته ومن اتبع سننهم بإحسان فسددوا وقاربوا التسديد، وبعد؛
فهذه كلمات أملاها واجب النصيحة لكل مسلم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال:"الدين النصيحة"، قلنا لمن؟ قال:"لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"(صحيح مسلم)، ولا يخفى أن المحرك لها ما وقع من أحداث فتنة بين طائفتين من المسلمين في غزة، رأت إحداهما أن الأمر قد استتب لها فلعلها تأولت واجب فرض هيبة الدولة المسلمة، ورأت الأخرى عدم استتباب الأمر لهذه الدولة استتباباً يلزم عامة رعاياها ببيعة شرعية ملزمة فنزعت منزعاً تأولت فيه رأب ما رأته من صدع في منهج السياسة الشرعية للدولة المسلمة في غزة. ولقد شط بعض الأفراد في الطائفتين والمنتصرين لكل منهما في بعض الأسماء والأحكام شططاً لا يخفى عواره فلا نطيل في استقصائه وتفنيده، ولكن أتوجه بهذه النصيحة لإخواننا في حركة حماس باعتبار أن لها الشوكة فيما ترى هي وتُصرِّح فلتكن هذه نقطة الانطلاق على سبيل التسليم، فنقول وبالله التوفيق:
قال الله تعالى:"لقد أرسلنا رسلَنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسلَه بالغيب إن الله قويٌ عزيز" (الحديد 25)، وقال تعالى:"وعَدَ الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات لَيستخلِفنَّهم في الأرض كما استخلف الذين مِن قبلهم ولَيُمَكِننَّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم ولَيُبدِّلنَّهم مِن بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يُشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون" (النور 55)، وقال تعالى:"الذين إن مكنَّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور"(الحج 41)، وقال الله تعالى:"وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولَوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون. أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون"(المائدة 49-50). ففي هذه الآيات المحكمات وسيلة ووعد وعلامة ومقصد؛ فالوسيلة هي القرآن والحديد؛ كتابٌ يهدي وسيفٌ ينصر، والوعد وعد الله بالاستخلاف والتمكين لمن سلك طريق الإيمان والعمل الصالح، والعلامة علامة التمكين التي تميز التمكين الشرعي من التمكين الكوني كإقامة شعائر دين الله الظاهرة ونصب نظام الحسبة في المجتمع الإسلامي، والغاية والمقصد من ذلك كله تعبيد الناس كافة لحكم الشريعة وقمع كل حكمٍ وضعي وضيعٍ سواها.
وسنحاول أن نقدم نصيحتنا لإخواننا في حماس ولكافة المجاهدين في أصقاع المعمورة اليوم من خلال هذه الآيات المحكمات ومن خلال هذا الميزان القرآني، فنقول:
إن حماس قد أخذت بزمام الأمور في قطاع غزة وبسطت شوكتها فيه، وتكاملت لديها فيما يبدو للناظر جملة من مقومات التمكين الكوني، وكانت ونحسبها لا تزال والله حسيبها تتخذ من إعلان راية الجهاد في سبيل الله لدفع المحاربين من الصهاينة محور الشرعية في هذه الانطلاقة، ولقد تلهفت أسماعنا واشرأبت نفوسنا منذ ذلك الحين إلى بيان مرجعية الحكم لحركة حماس فلم نجد في الواقع ما يزيل الغبش والغموض بالقدر المناسب لحجم الحركة في الواقع السياسي الجديد؛ إن التمكين الكوني في الأرض - مهما كانت رقعة الأرض صغيرة - ليس بشيء ما لم يستكمل أهم مقومات التمكين وهو التمكين الشرعي بإعلان مرجعية الحكم والشريعة لدين الله تعالى، وليست علامة ذلك مقتصرة على إقامة الشعائر فتلك مرحلة وليست نهاية كما تقدم في الآية، وإنما علامة التمكين الشرعي هو التمكين لحكم الله تعالى وحده والتبرؤ من كل المرجعيات الأخرى سواء أكان في أحكام سياسة المجتمع المصطلح عليها بالأحكام السلطانية أم كان في أحكام السياسة مع المجتمعات الأخرى المصطلح عليها بالسياسة الشرعية. ولكن الذي وجدناه إلى الآن من حماس صمتاً عن مثل هذا البيان ودعوة إلى مرجعيات وطنية وحكومة وحدة وطنية وغير ذلك من المصطلحات الضبابية على أحسن تقدير، ولقائل أن يقول: وما هو البديل؟ والجواب: كنا نتوقع من حماس وانطلاقاً من روابط الأخوة الإسلامية وسعياً لتحقيق المقاصد الشرعية من الجهاد والتمكين أن تدعو حماس كافة الفصائل الجهادية التي ترفع راية الجهاد في سبيل الله -لا في سبيل الوطن والتراب، ولا في سبيل فلسطين حدود 1948- أن تدعو هذه الفصائل المجاهدة إلى حكومة وحدة إسلامية، وأن تعلن نواة إمارة إسلامية ولست أعني الاسم ولكن أعني قوله تعالى:"وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولَوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون. أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون"(المائدة 49-50)، فهذه الدعوة إلى حكومة وحدة إسلامية، وهذا الإعلان عن الإمارة الإسلامية هو الحل الوحيد لإخراج حماس والمسلمين في غزة من مأزق الفتنة؛ لأنه الحل الوحيد الذي يستوعب كل فصائل الجهاد دون احتكارٍ لخندق الجهاد، وهو الحل الوحيد لإخماد نار الفتنة بين من يرى الإمعان في "البراجماتية السياسية" على حساب ثوابت السياسة الشرعية، وبين من يرى تقديم ثوابت السياسة الشرعية منهجاً وتطبيقاً جملةً واحدة بغض النظر عن طبيعة المرحلة، ولا يخفى أن الوسط بين هذين الطرفين هو إعلان الالتزام بمرجعية السياسة الشرعية والتدرج في تطبيق أولوياتها، فهذا الخيار يجمع بين سلامة المنهج وفِقه الواقع، والله أعلم.
وأختم على عجالة فأتوجه ثانيةً إلى إخواننا في حماس: إما أنكم تتصرفون بوصفكم فصيلاً من فصائل الجهاد أو أنكم تتصرفون بوصفكم قيادة إسلامية ذات شوكة على رقعة من الأرض مهما صغرت؛ فإن كانت الأولى فلا مكان لاحتكار الجهاد والتحاكم إلى السلاح فيما شجر بينكم وبين إخوانكم من فصائل الجهاد الأخرى، كما أنه لا مكان لتداول مصطلحات البغي والخروج وشق عصا الطاعة وتفريق الجماعة في مثل هذا السياق، لأن الجهاد هنا جهاد دفع لا احتكار فيه ولا إذن فيه، اللهم إلا ما يتعلق بالإذن الميداني بين قائد فصيل جهادي ما وجنده حسبما تمليه طبيعة العمل العسكري. وإن كانت الثانية فلتعلنوا للناس منهجكم ولتلتزموا بمقومات السياسة الشرعية من حيث إعلان حاكمية شرع الله تعالى وحده من خلال إمارة إسلامية نواتها غزة وليست غزة حدودها، وليعلن أهل الحل والعقد في قطاع غزة اختيارهم لأمير هذه الإمارة حتى تجب البيعة بيعةً شرعية ملزمة حسبما هو مبسوط في مظانه من مراجع الفقه والسياسة الشرعية، ولتعلن دستورها الإسلامي بوضوح، وأدعوا إخواننا في حماس وفي كل مكان إلى الاستفادة من التجربة الناجحة والرائعة لإخواننا الطلبة في إمارة أفغانستان الإسلامية نصرها الله منهجاً وتطبيقاً سواء أكان قبل الغزو الصليبي أم بعده، فلقد قدموا لنا تجربة في غاية النضج والروعة نسأل الله تعالى لنا ولهم السداد والتوفيق.
هذا ما أجعله بيني وبينكم نصيحة في الله تعالى، وتوجهي إلى حماس بجلِّ المناصحة ليس ترجيحاً لملام على إحدى الطائفتين، بل نحسب الجميع متأولاً مأجوراً وندعو لمن قضى نحبه منهم بالمغفرة ولمن بقي بالصلاح والعود الحميد إلى حكم الشرع بعيداً عن تشنجات الثأر والانتقام، والله تعالى أعلم.
أخوكم وسيم فتح الله