ظلم المفاهـيم الشرعيــــــة

 

بسم الله الرحمن الرحيم


ظلم المفاهيم الشرعية


الحمد لله ,والصلاة على رسول الله , وعلى آله وصحبه , أما بعد :


فإن المفاهيم الشرعية تعرضت – ولا تزال – لهجمات التحريف والتبديل من قبل أهل الأهواء من المبتدعة وذوي الجهالة من أهل السنة , ومن فضل الله أنه يقيض لهذا الدين من يذب عنه ويجدد معالمه وينقذ ألفاظه ومعانيه من تأويلات أهل الضلال وتحريفهم , ومن عبث أنصاف المتعلمين وأولياء الشياطين , وفي هذا العصر تداعى العابثون من كل حدب وصوب على المفاهيم الشرعية يحملونها ما لا تحتمل وينزلونها في غير مواضعها جاعلين أغراضهم الشخصية ومصالحهم الحزبية الضيقة معيارا لدلالات النصوص الشرعية عياذا بالله ,

ومن تلك المفاهيم التي تعرضت لبطش الأهواء وظلم الجهالات مفهوم (هجر المبتدع) فالناس فيه – إلا من رحم الله – بين غال يحشر في هذا المفهوم كل مخالف له وبين مفرط جرد هذا المفهوم من محتواه أو رده من أصله أو طواه في أوهام المصالح والمفاسد من غير التزام بأصولها وقواعد الترجيح فيها , ومع أن مؤلفات أهل العلم لم تترك للمبطلين مجالا , إلا أن هناك من يتسلل إليها من نافذة الهوى ليأخذ ما يناسب ظرفه الدعوي أو خصومته الخاصة ويترك ما لا ينسجم مع مراده وهواه –والعياذ بالله- .


وفي هذه المقالة الموجزة سأعرض مشهدا مأساويا عشته بنفسي مع طائفة أقل ما يقال فيها أنها مريضة ب(فوبيا) البدعة , فهي لا ترى من المخالفات الشرعية سوى البدعة ولا يخالفها في صغيرة أو كبيرة إلا مبتدع خبيث , ومهما التزمت بأصول السنة وبرعت فيها وخاصمت عليها وجهدت في نشرها وتعليمها , فأنت مبتدع حتى تعلن الانقياد التام لرأس هذه الطائفة , وتنصاع انصياعا معلنا لكل اجتهاداته في تصنيف الناس وتبديع المخالفين , فإن لم تفعل فأنت ولي لأهل الأهواء جدير بالهجر والإهانة ,

 ومن عجيب هذه الطائفة أن مصطلح البدعة أصابه (تورم) غريب فهو يلتهم كافة الاجتهادات والمخالفات ويضعها في مرتبة واحدة لا تفاوت فيها مرتبة الابتداع , والهجر المتعلق بهذه الخصلة أصيب هو الآخر بانفراج ليدخل فيه كل أنواع الأذى والسعاية والظلم والبخس , ثم إن منزلة هذا المطلب في دين الله ارتقت إلى أعلى الدرجات ليكون مسوغا لكثير من المحرمات من غيبة ونميمة وتهكم وسخرية هكذا بإطلاق من غير تقدير للضرورة بقدرها , والشيء الوحيد الذي أصابه خور وضعف في هذه النظرية المبتكرة هو التثبت والتبين فهم يجرحون بأدنى قرينة ويبدعون بأضعف اللوازم , واخترعوا من القواعد مالا يخطر على بال فالظن – أدنى الظن - يقوم مقام اليقين , والحدس معتبر في التجريم والتأثيم , ثم جعلوا من مقتضيات هجر المبتدع الفرح بمصابه على أيدي الكفار بل والمعاونة في تسليط الظلمة على من حكموا عليه بالبدعة تدينا واحتسابا , وليسوا بحاجة إلى أدلة تفصيلية لكل هذا العبث فهجر المبتدع أصل أصيل لم يختلف العلماء في تقريره والدعوة إليه !


وفي ظلمة هذا الجهل المركب تجد أهل الديانة والمحتسبين في الدعوة يذوقون الويلات على أيدي السفهاء , فأعراضهم حمى مستباح لهؤلاء الحمقى , يتتبعون زلاتهم في مئات المحاضرات حتى إذا ظفروا بعبارة موهمة طاروا بها فرحا ونشروها في الآفاق , ولا أنسى أحد كبارهم وهو يبشرنى بأنه وجد عبارة لفلان تدل على أنه يقول بالقدر وكذب والله وخاب سعيه فما كانت العبارة كما أراد وسولت له نفسه المريضة , وآخر يقررني بأن فلان وفلان من الخوارج فلما عارضته بعلم وحلم امتلأ غيظا وأوجعني سبا بل قام بأكثر من ذلك تقربا لله تعالى , وثالث يلحقني ويخلو بي طالبا مني إخفاء قول لأحد كبار العلماء لأنه لا يناسب طرحه ولا يلتقي مع غرضه الفاسد , ومن حماقته المفرطة أن هذا القول في كتاب سيار لذلك العالم الفاضل فكيف أتستر عليه؟ , ورابع من رموزهم يسأل في الفقه فيزجر الطلاب ويطلب منهم أن لا يغرقوا في المسائل الفقهية وأن يستغلوا وجوده في سؤاله عن الرجال جرحا وتعديلا ! ومن الرجال ؟ رجال الحديث ؟ لا والله بل رجال الدعوة الإصلاح في هذا العصر, وخامس يقرر أن امتحان الناس المستورين بالأشخاص منهج سلفي أصيل , وأي أشخاص ؟ هو وزميليه في تأسيس هذه النحلة , وسادس وسابع والقائمة طويلة , والمشاهد كثيرة .


صبت علي مصائبٌ لو أنها ... صبت على الأيام عدن لياليا


وبهذا العنوان المغري ( هجر المبتدع ) تغلق مراكز دعوية ومساجد في بعض البلاد الغربية والشرقية يإيعاز من هؤلاء الحمقى , ويطلب من بعضها الآخر قطع المعونات المادية عن بعض المعاهد والمدارس لأن طاقمها التعليمي متأثر بفكر فلان وفلان من أهل السنة الذين حكموا عليهم بالبدعة حكما غيابيا لا استئناف فيه ولا تمييز, وهناك من يكتب التقارير المغرية بسجن فلان وطرد فلان بدعاوى كاذبة وتهم يعلمون هم أنها من صنع أيديهم لكن لا ضير فالمبتدع لا حرمة لعرضه ولا دمه ولا قيمة لكيانه الاجتماعي , وهكذا ينفلت زمام الأمور وتطيش رصاصات التبديع لأن السادة وضعوا المسدسات في أيدي السفهاء من غير تعليم على الرماية وفن التصويب .


ثم ماذا ؟ ينقلب السحر على الساحر لنجد كبارهم في أقفاص الاتهام فهذا ترحم على مبتدع سهوا , وذاك تكلم بأدب في مخاطبة مبتدع وهكذا لا يبقى للناس لا دين ولا دنيا .


ولست الوحيد الذي شاهد هذه الكوميديا الدعوية المضحكة المبكية , بل قد أشبع القول فيها من اكتوى بنارها الشيخ أبوالحسن المأربي في كتابه الدفاع عن أهل الإتباع , وأحصى من مظاهر الغلو في التبديع ما تشيب منه الولدان , وأنا أوجز مشاهداته ومشاهداتي بكلمة جامعة فأقول : لقد تحققت بما لايدع مجالا للشك أن من سمات المنتسبين لهذا التيار خفة العقل ورقة الدين وسوء الخلق وقبح المنطق مع القصور في العلم والبطالة الدعوية , ولا أنكر أن هناك من طلبة العلم والفضلاء من اغتر ببريق هذه الدعوة في طلائعها ثم تمكنت منه الشبهات ولم يستطع التخلص منها والنجاة بدينه , وهناك من طلبة العلم فيهم من يخالفهم لكنه يتحاشى التصريح بمخالفة هؤلاء النوكى مخافة أن تناله ألسنتهم الحداد بسوء , أما ضحاياهم فكل من له سعي في الإصلاح أو سابقة في الدعوة أو بذل في الجهاد فهو مرمى لأغراضهم وهدف لمعاول هدمهم , وليس الخبر كالمعاينة ,فقد رأيتهم يتسكعون في طرقات الدعوة وبأيديهم (هراوات) التبديع يضربون بها كل داعية إلى الله , تعلو وجوههم ظلمة الكذب والغيبة والنميمة , وقلوبهم ممتلئة بالحقد على أهل الخير والصلاح , وأشهد أن منهم من يتعامل مع خصومه بأخلاق العصابات , بالتهديد والوعيد والجاسوسية والتحريض والضرب وقد عانيت منهم وعانى آخرون فكم من مشروع علمي عطلوه ,وكم من دعوة وأدوها في مهدها , وكم من داعية تسببوا له بأعظم مصاب , وكم عرض مصلح لاكوه بألسنتهم , وكم راغب بالخير والهدى تسببوا بصده عن سبيل الله , وكم من مؤمن تقي أسلموه للكفار بتعاونهم المشبوه مع وكالات الأمن الأجنبية , وهم مع قوتهم في معاداة المصلحين وبطشهم في المخالفين أجبن الناس وأذلهم وأخزاهم مع العدو الكافر والمنافق والمارق , يريقون شرف العلم على أبواب السلاطين الظلمة والعملاء الخونة .


وأنا إذ أستعرض طرفا من مشاهداتي وتجاربي مع هؤلاء لست والله فرحا ولا مسرورا بما هم عليه , بل كتبت هذه المقالة نصحا لكل من تورط بمعرفة أحد منهم وسقط في شراك خداعهم , وصدق زخرف قولهم , إن هجر المبتدع الذي قرره أهل العلم وندين به أبعد ما يكون عن ممارسات هذه الطائفة التي انقلبت على الولاء والبراء فجعلت العدو صديقا حليفا , والقريب عدوا بغيضا , اللهم رحماك .


الكاتب: حسين الخالدي
التاريخ: 04/06/2008