الارهاصات والبشائر - الجزء الأول

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الإرهاصات والبشائر

الحلقة الأولى
نحن في هذا الوقت العصيب في حاجة ماسة للأمل بنصر الله أولا، والتمسك بحبل الله والتقيد بما تمليه علينا عقيدتنا من انتهاج طريقة توقيفية لا يجوز العمل بخلافها أو اجتهاد غيرها، وإلا نكون قد تهنا في متاهات السُبُل المُبعدة عن سبيل الله، ومن مستلزمات الطريقة أنها أوكلتنا الإبداع في اجتهاد الوسائل والأساليب المناسبة لكل أمر وحادث وعمل يطرأ على أن تكون من جنسها، لذا اقتضى أن يتمتع حامل الدعوة الساعي للتغيير بعقلية سياسية واعية ومستنيرة، وأن لا يتوانى طرفة عين عن تحليل سياسي واعٍ لكل ما يستجد من وقائع وأحداث، رابطا إياها بمعلوماته الدقيقة عن واقع الخارطة السياسية والمواقف الدولية والتغيرات التي قد تطرأ عليه من تعديلات لسبب أو آخر ووجهة نظره المتبناة.

وبناء عليه فإن من لوازم الاعتقاد وصحة التحليل السياسي وسلامة القرار: إقران الأمَل بقاعدة ربط الأسباب بمسبباتها، والأمل إذا زاد عن حده أو كان في غير موضعه انقلب إلى ضده، فلزم أن نعود إلى دراسة وإعادة نظر في واقع الإرهاصات والبشائر، وعليه أرى من الضرورة التفريق بين الإرهاصات والبشائر، من منطلق تعريفيهما وواقع كل منهما، إذ أن الإرهاصات تعني الدعائم، والبشائر هي الأدلة وما يستأنس به. ومفهوم ذلك أن الأولى تؤثر تأثيراً مباشراً على العمل ودعمه ونجاحه، والثانية نفسية لا تؤثر تأثيراً مباشراً على العمل.

وهذا يعني أن على حملة الدّعوة العمل الجاد لإيجاد الإرهاصات التي لا يتحقق حُسن العمل إلا بالعمل على إيجادها، ولا يتحقق الهدف إلا بالعمل الجاد لإيجادها. في حين أن البشائر يُستأنس بها فقط وقد تتحقق، وممكن أن لا تتحقق، وغالبها ـ أي البشائر ـ أتى في ظلال أحاديث تتناول الإخبار عن علم الغيب، وأحاديث علم الغيب لم يحدد منطوقها لها زمناً محدداً. أو أتت من خلال استنتاجات سياسية قد تتغير معطياتها أو نتائجها.


علاوة على أن الاستنتاجات السياسية قد تؤدي إلى نتائج خاطئة إن استندت إلى قواعد أو معطيات خاطئة أو تحليل سياسي غير دقيق. مثال ذلك أن البعض يرى في مشاكل الاقتصاد الأمريكي من البشائر، في حين يرى آخر أن مشاكل الاقتصاد الأمريكي نذير سوء، إذ هو أحد عوامل تطلعهم إلى حرب المسلمين لتحسين اقتصادهم باستيلائهم على موارد البلاد وتحكمهم المباشر بها.


.قد يقال أن البحث جدلي أي بحث عقيم لا يؤدي إلى نتائج، ولكني أرى فيه خِلافَ ذلك، فأرى فيه نقاشاً هادفاً لا بد منه لضمان حُسن العمل، وللحيلولة دون تأخر النصر والانتكاس، خاصة وأن المؤشرات تنبئ بمصائب وكوارث قد تلحق بالأمة نتيجة الحروب الصليبية القادمة التي يستعد لها الكفار يُساندهم جميع حكامنا في العالم الإسلامي لضرب الإسلام والمسلمين والعمل الإسلامي بدءً بأرض العراق وأفغانستان، نسأل الله تعالى أن يجنبنا الشرور والمكارة والأهوال،

 

 وأنبه في هذا المقام أن من الانتحار السياسي أن نكونَ كالنعامة تدفن رأسها بالرمال مظنة ألا يراها الصياد، فلا نعطي هذا الموضوع حقه من النقاش الهادف البعيد كل البعد عن الجدل العقيم الذي نسأل الله تعالى أن يجنبنا انتهاجه، وأن نكون من الباحثين عن الحقيقة، الممتثلين بما يمليه علينا واجب الامتثال للشرع، الذين يصفهم شوقي في قصيدة " الخلافة الإسلامية ":


وَمِنَ ألرِجالِ إذا انبريت لَهَدْمِهِم  هَرَمٌ غليظَ مَنـــاكِبِ الصفاحِ


فإذا قذفتَ الحَقَ في أجــلادِهِ   ترَكَ الصًِراع مُضَعْضَعَ ألألواحِ

 
وبالرغم من كل البشائر ـ سواء البشائر النقلية أو البشائر الحسابية ـ فإن لم تستوف الشروط المطلوبة في العاملين وعملهم وإعدادهم فلن يتحقق الهدف بالرغم من كل البشائر، والبشارات.ودليل ذلك مفهوم آية: ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يُشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ) ومفهوم المخالفة للآية أن الوعد ليس لغير الذين أمنوا وعملوا الصالحات حقيقة، فأتى وصف الجماعة الموعودة شرطاً لازماً لتحقق الوعد، فلا يكون الاستخلاف والتمكين وتبديل الخوف بالأمن إلا لمن يستحقه، والاستحقاق مشروط صراحة في سياق الآية.


.لذا يجب أن تقرن دراسة الإرهاصات والبشائر بدراسة " العقبات والموانع " ونتبحر في دراستها، ونواصل إعادة النظر في عملنا وفي تركيبية تكتلنا، وفي أفكارنا المطروحة وتنقيتهم من الشوائب لاتصالهم المباشر لا بل تحكمهم في الإرهاصات والبشائر، ونحول بين المعوقات والموانع وبين تأثيرهم السلبي على العمل، وأن يُقرن البحث بالمعوقات والموانع بالبحث في الإرهاصات والبشائر، والعمل على الحيلولة بين الأولى وبين أن تؤثر على عملنا، بنفس القدر الذي نبحثه في إيجاد الإرهاصات والإستأناس بالبشائر.


أرى في مسألة " إعادة النظر " الحرص المطلوب للمحافظة على التكتل ونقاء أفكاره وقيمه الذاتية، علاوة على أنها حكم شرعي نبه الله تعالى رسوله الأمين لإعمالها في مناسبات عدة في القرآن الكريم، منها: ( عَبَسَ وَتوَلّى أن جاءهُ الأعمْى، وما يُدريك لعله يزكى، أو يَذكرُ فتنفعه الذكرى، أمّا من استغنى، فأنت له تصدى.) وقوله تعالى: ( يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.) وقوله تعالى ( ولا تقولن لشئ إني فاعلٌ ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا. ) وقوله تعالى:( عفا الله عنك لِمَ أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين.) كما أنها قد جاءت في إجماع الصحابة في مواقف عدة: منها طلب أبي بكر من عمر إعادة النظر في موقفه من نفيه لموت الرسول صلى الله عليه وسلم مخاطبا عمر والمسلمين: ( من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.) وحين خاطب عمر أيضا في واقعة الردة بعد ذلك:( أجبارٌ في الجاهلية، خوارٌ في الإسلام يا عمر؟ والله لو منعوني عقال بعير كانوا يٌؤدونهُ لرسول الله لجاهدتهم فيه. ) وما ذلك إلا طلب إعادة النظر في مواقف وآراء.


في أحد معارك المسلمين وعندما لم يتمكنوا من فتح أحد الحصون، طلب قائد الجيش البحث عن سنة مغيبة ربما غفلوا عنها، وبسببها ربما تأخر النصر، وعندما ظنوا أنه ربما يكون ترك السواك، وعندما بدأوا بالتسوك آذن الله بالنصر ودك الحصن....


ليس مرادي في ذلك الدعوة إلى التسوك أو إطلاق اللحى ولبس الدشداشة وتغطية الرأس بالعمامة، بل إعطاء كل ما يمكن أن يكون معوقاً حقه من الدراسة والتمحيص وتحاشي ما نراه معوقاً، والعمل على إيجاد ما نراه داعماً وبذلك نكون قد أخذنا بقاعدة " ربط ألأسباب بمسبباتها "، وأخذنا الحيطة لأي أمر مهما صغر كان المفروض أن نأخذ به، أو أي أمر يقتضي اجتنابه وتحاشيه، وكل عقبة في طريقنا تعطل العمل أو تأخر الوصول إلى الهدف يجب تحطيمها، وذلك من دعاوى الكياسة والفطنة والوعي السياسي المستنير الذي ألزمنا بها الحكم الشرعي، والذي أوجبه علينا كوننا حملة دعوة ساعون للتغيير.

يروى في الأثــر : ( المؤمن كَيّسٌ فطِن.) ويروى :   ( أنت على ثغرة من ثغر اٌلإسلام فلا يُأتين بها من قبلك.)،

 

 فعدم توفر الوعي السياسي والكياسة والفطنة في حملة الدعوة يُؤدي إلى سلبية العمل، وربما فشله وتأخر وإعاقة الوصول للهدف.

وانوه هنا أنّ موضوع هذا البحث موجه لحلة الدعوة الاسلامية الساعين لنهضة الأمّة على اختلاف مشاربهم ومواقعه.

يتبع إن شاء الله


الكاتب: حاتم ناصر الشرباتي
التاريخ: 28/12/2006