عمل أهل الدنيا وعمل أهل الآخرة – الجزء الثاني –

 

عمل أهل الدنيا وعمل أهل الآخرة – الجزء الثاني –
تطبيقات عملية سلوكية
بقلم : خالد بن صالح الغيص
 
لقد تكفل الله تعالى لمن آمن به وعمل صالحاً  وجاهد في سبيله وسار إليه وسعى له أن يزيده من فضله ويبارك له في عمله ويجزيه خير الجزاء  كما قال تعالى : {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(69 ) العنكبوت، وقال جل وعلا أيضاً : { مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}( 160) الأنعام ،  وقال تعالى :{ وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا}( 19) الإسراء ، أي مقبولاً منمى مدخراً لهم أجرهم وثوابهم عند ربهم فعمل أهل الآخرة مضمون النتائج مع الله وتجارتهم مع الله رابحة ، فليفرح أهل الآخرة بعملهم وتجارتهم مع الله  قال تعالى : { قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }( 58) يونس، ولا يُؤتى العبد إلا من قبَل نفسه فهو الذي يضعف أو يكسل أو يسوف أو يتحجج أنه فقير أوعاجز أو لا يستطيع أو غيرها من حجج فيؤخر وعد  الله  أو يصرفه عنه ، وأما عمل أهل الدنيا فغير مضمون النتائج فليس بالضرورة كل من عمل لطلب شئ من حطام الدنيا يناله ، فكم من إنسان سعى لكسب مال  فما  ازداد  إلا فقراً، أو سعى لكسب ود امرأة فما ازاد منها إلا بعداً ، وذلك لاْن الله تعالى يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب كما قال تعالى   { كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا}(20) الإسراء ، وأمر الأرزاق والآجال مما اختص الله بقسمته بين الناس لتستقيم حياة الناس ومعاشهم قال تعالى { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم َعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}(32)   الزخرف ، فهو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر بمقتضى حكمته وعلمه بما يصلح حال الناس  قال تعالى : { أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (52) الزمر، وكذلك أهل الدنيا لا ينالون بعملهم إلا الدنيا وما لهم في الآخرة من نصيب كما قال تعالى :{مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ}(20) الشورى ، وأما أهل الآخرة فإنهم ينالون بعملهم الدنيا والآخرة فان الله تعالى بكرمه وفضله يعطي أهل طاعته الدنيا والآخرة كما قال تعالى:{ مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (52) النساء ، وهذا ما بينته بفضل الله في الجزء الأول ( يمكن الرجوع إليه على الرابط التالي   http://www.h-alali.net/z . )
وعلى ضوء هذه الحقيقة وهذه المعطيات ، يأتي السؤال : كيف يطبقها المسلم في حياته العملية وتصرفاته اليومية  فيكون متوافقاً في  سلوكه ومعتقداته ؟
فالمسلم ينظر الى الدنيا على أنها مسخرة له كما قال تعالى : وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) الجاثية ، فهي مخلوقة لتكون ممراً الى الآخرة وليست دار قرار ، فهو يعمل عمله الدنيوي من زراعة أو صناعة أو تجارة أو غيرها  لينال حظه من الدنيا ليستعين به على عبادة الله ، فهو وإن عمل العمل الدنيوي المباح لكن قلبه معلق بالله تعالى ليبارك له في عمله فيحقق عمله النتيجة المرجوة ، فهو إن بذر البذرة رجا من الله الزرع  كما قال تعالى : أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) الواقعة ، فالله تعالى هو الخالق الذي خلق السبب وأثره وهو قادر على أن يمحو أثر السبب ، وهو الرزّاق ذو القوة المتين  الذي كتب مقاديرالعباد وأرزاقهم  قبل أن يخلقهم كما في حديث عُبَادَة بْن الصَّامِتِ –رضي الله عنه - سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - -  يَقُولُ « إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ اكْتُبْ  قَالَ رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ قَالَ اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَىْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ » رواه أبوداود  وصححه الالباني ،
فيا أيها المسلم  الساعي  لكسب معاشه ( سواء كنت تاجراً أو مزارعاً ... الخ ) : اعلم أن سعيك سبب وعمل دنيوي جعله الله لتنال به  رزقك الذي قدره لك في الدنيا فلا يكن سعيك مخالفاً لشرع الله فإنه لن يأتيك غير المقدر "فلو جريت جري الوحوش غير رزقك ما تحوش "  فاطلب رزقك بما أباح الله ، وليكن قلبك معلقاً بالله وحده ورجاؤك به ، وتوكلك عليه وحده لا على العمل أو السبب المادي فكم من انسان جنى عليه اجتهاده كما قيل بالمثل :
إذا كان عون الله للعبد ناصرا ... تهيأ له من كل شيء مراده
وإن لم يكن عون من الله للفتى ... فأكثر ما يجني عليه اجتهاده
وأجمل في الطلب كما في حديث جابر بن عبد الله –رضي الله عنهما -  أن رسول الله -  قال : « لا تستبطئوا الرزق ، فإنه لم يكن عبد ليموت حتى يبلغ آخر رزق هو له ، فأجملوا في الطلب : أخذ الحلال و ترك الحرام » رواه الحاكم وصححه الالباني .
ويا أيتها المرأة المسلمة امتثلي أمر ربك  بالقرار في البيت كما قال تعالى : وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ( 33) الأحزاب ، فإن قرارك في البيت طاعة لربك - هو من عمل الآخرة وجهاد في سبيل الله - فلعل الله أن يزيدك من فضله ويبارك لك  وسيأتيك ماقدره  الله  لك  من رزق ومال ، فإنه يراد للمرأة المسلمة - في معترك الهجمة التغريبية التي نعيشها* – الخروج من بيتها الذي أمرها الله بالقرار فيه ، فأعداء الاسلام  والمسلمين بعد أن هدموا البيت الاسلامي الكبير ممثلاً بشئون الحكم وسياسة الناس فهم الآن يسعون جاهدين في هدم البيت الاسلامي الصغير ممثلاً بالأسرة باخراج المرأة المسلمة من بيتها التي ستُسأل عنه يوم القيامة كما جاء في حديث النبي - قال : « كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا » رواه البخاري ، وللأسف يشاع الآن بين النساء المسلمات : أنّ على المرأة السعي في طلب معاشها وكسب رزقها وخلع وصاية الرجل عليها حتى تضمن مستقبلها ، ويكفل لها ما لديها من مال حياة سعيدة مرفهة تستطيع أن تشتري ما تريد - ولا حول ولا قوة إلا بالله - فالعمل لكسب الرزق هو عمل دنيوي وسبب مادي ليس بالضرورة أن يحصل منه الانسان مايريد –كما بيت آنفاً- فقد يتم له مراده وقد لايتم فهذا في علم الغيب ، ولو أن كل انسان حصل على ما يريده من سعيه لما كان في الدنيا فقير ، فلو أن كل امرأة خرجت من بيتها لكسب رزقها نالت ماتريد لخرجت كل النساء ، وهذا خلاف سنة الله تعالى في خلقه كما قال تعالى : وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) الزخرف ، قال العلامة السعدي- رحمه الله- في تفسيره : يخبر تعالى بأن الدنيا لا تسوى عنده شيئاً ، وأنه لولا لطفه ورحمته بعباده ، التي لا يقدم عليها شيئا ، لوسَّع الدنيا على الذين كفروا توسيعاً عظيماً ، وأعطاهم ما يشتهون، ولكن منعه من ذلك رحمته بعباده  لألا يتسارعون في الكفر وكثرة المعاصي بسبب حب الدنيا ، ففي هذا دليل على أنه يمنع العباد بعض أمور الدنيا منعاً عاماً أو خاصاً  لمصالحهم ، وأن الدنيا لا تزن عند اللّه جناح بعوضة ، وأن كل هذه المذكورات متاع الحياة الدنيا ، منغص مكدرة فانية ، وأن الآخرة عند اللّه تعالى خير للمتقين لربهم بامتثال أوامره واجتناب نواهيه . انتهى  بتصرف يسير ،  وهو كذلك خلاف الواقع ، فكم من امرأة خرجت من بيتها لكسب رزقها ولم يكتب لها ما تريد وشقيت من حيث أرادت السعادة بل وخربت بيتها بيدها وهي لا تشعر ، فكم طالعتنا الصحف اليومية من اعلان للمحكمة لمزاد علني على بيع منزل قد تخاصم عليه الزوجان ، فهم قد ظنّا أن خروج الزوجة للعمل سيساعد الزوج على شراء البيت ويعيشان عيشة سعيدة ، فاذا بخروج الزوجة كان من أكبر الأسباب في دب الخلا ف والشقاق بينها حتى حدث الانفصال والتنازع على البيت وبيعه في النهاية ، فلن ينال أي مخلوق من هذه الدنيا إلا ماكُتب له ،  فلا تطلب المرأة المسلمة الشقاء لنفسها بمخالفتها لأمر ربها( **) لظنها أن خروجها  سيأتيها  بخلاف المقدر ،  ولتحيى  كما أراد الله تعالى لها قارةً في بيتها تعيش في كنف ورعاية الرجل ( سواء كان أباً أو زوجاً ...) وسيأتيها ماقدره الله لها وان اجتمع على خلاف ذلك مَنْ  بِأَقْطَارِهَا  كما في حديث النبي - قال : «واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعواعلى أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف » رواه الترمذي وصححه الالباني ، ولا يستخفنها الذين يريدون منها الخروج لكسب الرزق بقولهم : اخرجي من بيتك لتحصلي على رزقك !، فإنه لن يأتيها إلا ما كُتب لها ، وإن كان بذل السبب مطلوباً ولكن لا يكون ذلك بمخالفة أمر الله فكل ميسر لما خلق له كما ثبت في حديث النبي - - ،  فابن الملك ماذا فعل حتى وُلد ابناً لملك ؟ لا شيء ، إنما هو قدر الله ، فإيمان المسلم بالله وبالقضاء والقدر خيره وشره من الله يجعله يعيش في هذه الدنيا آمناً مطمئناً مرتاح البال يبذل السبب والعمل المادي المشروع غير المخالف لشرع الله  لعلمه أنه لن يأتيه من الدنيا إلا ما قدره الله له أو عليه ، وأن الله برحمته بعباده لا يقضي قضاء إلا وهو خير لعبده المؤمن كما قال النبي - - : « عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ » رواه مسلم ، فهو يمتثل لأمر الله وينتهي عن نهيه كما أرد الله يبتغي بذلك وجه الكريم ، فإن علم الحكمة من الأمر والنهي فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، وإلا فوّض أمره الى الله فهو العليم الحكيم يعلم ما يصلح عباده ، فلا يكون امتثاله لشرع الله تابعاً لمعرفة الحكمة من الأمر والنهي فما كان معلوم الحكمة امتثل له وإلا تركه لأنّ المسلم ما سمي مسلماً إلا لاستسلامه وانقياده لأمر الله ونهيه سواء علم الحكمة أم لا ، فهناك من يلقي الشبه على المرأة المسلمة بقوله : ما الحكمة في قرار المرأة في بيتها ؟ فأقول : كل خير في اتباع هدي القرآن فإنه يهدي لكل خير كما قال تعالى : إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) الاسراء ، فهناك حكم وخير كثير من قرار المرأة في بيتها لعل أن يمنّ الله علي لذكر شيء منها في مقال آخر (**) .
فهذه بعض التطبيقات العملية والسلوكية لما ذكرته من مقارنة بين عمل أهل الدنيا وعمل أهل الآخرة ،        وأسأل الله التوفيق والسداد  ،،،        والله تعالى أعلى وأعلم  ،    وأستغفر الله من الزلل     .
________
(*) لمعرفة خطر وحجم مايراد للمرأة المسلمة من قبل أعدائنا انصح  بقراءة  تقرير مؤسسة راند رسالة ماجستير لصالح الغامدي فيما يتعلق في موضوع المرأة .
(**)  انصح بقراءة مقالي  "لا تطلب المرأة المسلمة الشقاء لنفسها" ومقال " تربية الأبناء وغلبة التفكير المادي " في موقع المسلم  .
 
خالد بن صالح الغيص
6/11/1431هـ - الكويت-
ksmksmg@hotmail.com

الكاتب: خالد بن صالح الغيص
التاريخ: 25/09/2010