ما هكذا تورد الإبل يا فضيلة مفتي تونس |
|
ما هكذا تورد الإبل يا فضيلة مفتي تونس
الشّيخ خَمِيس بن علي الماجري*
في سابقة من نوعها تهجّم الشّيخ عثمان بطّيخ مفتي الدّيار التّونسيّة على الشّباب المتديّن في تونس ووصفهم بالجهل وبتهديد الاستقرار والأمن الذي تنعم به البلاد في\"العهد الجديد\"، وبأنّهم يعكّرون صفو المناخ الطّيّب بإثارة الفتن وإدخال الاضطراب والحيرة ...\"، كلّ هذه الأحكام القاسية والعنيفة صدرت عنه لسبب التزام الشّباب بالسّنّة في أداء صلواتهم: قبضا ورفعا وغير ذلك ممّا ثبت يقينا عن رسولهم صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم 1. وإنّ المرء ليستغرب من حشر مؤسّسة الفتوى نفسها في اشتباك مع شباب يستحقّ النّصح والرّحمة، خاصّة وأنّ المشهد التّونسيّ يتميّز بحساسيّة شديدة ومناخ متوتّر ضدّ كلّ متديّن يخالف الرّؤية الرّسميّة للدّين وتطبيقاته. والذي صدر عن المفتي كلام مرسل ليس بحجّة، لأنّ القول في الدّين لا يقبل إلاّ بدليل، ولذلك قال أهل العلم: إنّ كلام العلماء يُحتجّ له ولا يُحتجّ به. إنّ القول بدون حجّة من شرع غلط فاحش وتكلّف طائش لا يجوز أن نسكت عنه حتّى لا يروّج القول فيقبل. وإنّ اتّهام المخالف دون وجه حقّ لمجرّد خلاف معتبر داخل الدّين هو الفتنة بعينها والظّلم الذي لا يقبله مسلم. وإنّ إلقاء الشّبهة في قلوب النّاس، سبب عظيم لشيوع كثير من الباطل بين الخلق، لكونها مركّبة من حقّ مع ما فيها من الباطل، وإزالة الشّبهة أمر واجب. وإنّي إذ أستعين بالله تعالى على الرّد على المفتي، فإنّي أتوسّل إلى ذلك بإزالة شبه ثلاثة أوردها حضرته في مقاله المشار إليه:
الأولى: لا فتنة في مسائل الفروع.
والثّانية لا يحقّ لأحد أن يلزم أحدا في مسائل الاجتهاد.
والثّالثة أنّ القبض والرّفع وما في حكمها هو المذهب المحقّق في المالكيّة.
المخالفة في فروع المسائل لا يعدّ فتنة إنّ المهمّة الأساس للمفتي والدّاعية إلى الله تعالى هي نشر العلم الشّرعي الصّحيح مساهمة في إصلاح المجتمع، وأنّ العبد مسؤول يوم القيامة عن التّبليغ دون الحكم على الأعيان. وإنّ الحكم على الأعيان المظهرين للإسلام على وجه العموم هو من التّكلّف المنهيّ عنه، فضلا على أنّه من مسائل القضاء الشّرعي الذي يختصّ به علماء القضاء دون غيرهم. والذي صدر عن المفتي في إصدار الأحكام على أعيان النّاس، أوقعه في أمور منها: 1 التّقصير في المهمّة الأساس\"الدّعوة والبيان\". 2 أوقعه في الخصام مع المسلمين الملتزمين إجمالاً. 3 أوقعه في ولاء الكارهين للدّين وأعدائه لكم، وهذا ينال من واجب الولاء للمؤمنين والبراء من أعداء الدّين. الاعتصام بالسّنّة نجاة وليس فتنة أبدا إنّ الشّباب الذين هاجمهم المفتي ولم يرحمهم ليسوا تنظيما حزبيّا أو معارضة سياسيّة، إنّما هم يعملون بما وصلهم من سنّة، والعمل بالسّنّة هو النّجاة، كما قال إمام دار الهجرة:\"السّنّة مثل سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلّف عنها هلك\"2 ، وفي مثل هذا المعنى يقول الإمام الزّهري:\" كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسّنّة نجاة\"3 وإنّ العمل بالفروع في الفقه لا يكون فتنة بحال، وإنّما الفتنة في ترك العمل بالسّنّة الصّحيحة الثّابتة. قال رجل للإمام مالك: يا أبا عبد الله من أين أحرم؟ قال: أَحْرِم من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله، فقال: إنّي أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر. قال: لا تفعل؛ فإنّي أخشى عليك الفتنة! فقال: وأيّ فتنة في هذه، إنّما هي أميال أزيدها! قال: وأيّ فتنةٍ أعظم من أن ترى أنّك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثمّ تلا قوله تعالى:\"فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم4\"، 5، وهذا منه رحمه الله تعالى نصّ في إنفاذ الوعيد. لا ينكر المختلف فيه، وإنّما ينكر المجمع عليه لم يأتنا سعادة المفتي بالأدلّة التي بنى عليها أقواله من أنّ العمل بما ليس عليه مذهبه أو مؤسّسته في مسائل الفروع يعدّ فتنة، والحال أنّ الشّريعة قرّرت أنّه لا إنكار في مسائل الخلاف بضوابط معيّنة، وأنّه ليس من حقّ أحد أن يعترض على من يخالفه إذا لم يخالف نصّا أو إجماعا أو قياسا جليّا، وهذه بعض أقوال أهل العلم في الباب: 1 قال الإمام النّووي في شرح مسلم: قال العلماء:\" ليس للمُفْتِي ولا للقاضي أن يعترض على منْ خالفه إذا لم يخالف نصّا أو إجماعا أو قياسا جليّا\"6. 2 قال الإمام السّيوطي في قواعده في\"الأشباه والنّظائر\": \"لا ينكر المختلف فيه، وإنّما ينكر المجمع عليه\"7 وقال:\"الاجتهاد لا ينقض بمثله\"8 3 قال الحجاوي المقدسي: \"... فيحكم كلّ واحد باجتهاده وليس للآخر الاعتراض عليه ولا نقض حكمه\". 4 قال شيخ الإسلام ابن تيميّة:\"مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه\". وقال: \"... فهذه مسائل الاجتهاد التي تنازع فيها السّلف والأئمّة، فكلّ منهم أقرّ الآخر على اجتهاده، من كان فيها أصاب الحقّ فله أجران، ومن كان قد اجتهد فأخطأ فله أجر، وخطأه مغفور له، فمن ترجّح عنده تقليد الشّافعي لم ينكر على من ترجّح عنده تقليد مالك، ومن ترجّح عنده تقليد أحمد لم ينكِر عليه من ترجّح عنده تقليد الشّافعي ونحو ذلك\". وقد قال أحمد في رواية المروذي:\"لا ينبغي للفقيه أن يحمل النّاس على مذهبه ولا يُشدِّد عليهم\". 5 قال سفيان الثّوري:\"إذا رأيت الرّجل يعمل العمل الذي قد اختلف وأنت ترى غيره فلا تنهه\". 6 روى الخطيب البغدادي عن سفيان الثّوري قوله:\"ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحداً من إخواني أن يأخذ به\". فهذه أقوال أهل العلم تجمع على أنّه لا تثريب على من قال بقول قد سبق إليه في مسألة خلافيّة. إنّ وقوع الاختلاف بين النّاس في الفروع لا ضرر فيه، لأنّ الشّارع الحكيم ذمّ الافتراق ولم يذمّ الاختلاف الذي لا يؤدّي إلى فتنة، وإنّ كلاّ من الاختلاف والافتراق، لا يلزم وجود أحدهما حصول الآخر. أمّا الاختلاف المنضبط فقد يكون رحمة، وأهله معذورون. قال شيخ الإسلام ابن تيمية:\"والنّزاع في الأحكام قد يكون رحمة إذا لم يفض إلى شرّ عظيم من خفاء الحكم، ولهذا صنّف رجل كتاباً سمّاه: كتاب الاختلاف، فقال أحمد: سمّه كتاب السّعة، وإنّ الحقّ في نفس الأمر واحد، وقد يكون من رحمة الله ببعض النّاس خفاؤه لما في ظهوره من الشّدّة عليه\"9. وخلاصة ما سبق أنّ الشّريعة أوجبت على الأمّة أن لا تنكر على من لم يخالف نصّ الكتاب وسنّة صحيحة وإجماعا قديما، أمّا إذا خالف النّصّ الصّريح الواضح، ساغ الإنكار، بل وجب. وعلى هذا الأساس صار العمل من عهد الصّحابة والتابعين وأئمّة المذاهب الفقهيّة. هذا بإيجاز شديد في المسألة الأولى* أمّا في المسألة الثّانية* *، فإنّي سأبيّن اعتراضي على كلام فضيلة المفتي من وجوه: أوّلهــا: أصول الإسلام الثّـاني: أصول الإمام مالك رحمه الله تعالى. الثّالث: أقوال المحقّقين في المذهب المالكيّ. أصول الإسلام 1 : \"لا إكراه في الدّين\": ودون دخول في خلاف أهل العلم هل أنّ هذه الآية وأخواتها نسخت بآية السّيف، أم لا، فإنّ من المعلوم أنّه لا إكراه في الدّين، وأدلّة ذلك كثيرة جدّا، منها قوله تعالى:\"أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ\"يونس 99، ومنها قوله تعالى:\"قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ\" هود 28 ، ومنها قوله تعالى:\"لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ\" الشّعراء 3، وقوله تعالى:\" فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا\" الكهف 6. وقوله تعالى:\"لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّيْنِ\" 10 ، ومعنى الآية أن لا تكرهوا على الدّين الإسلامي من لم يرد الدّخول فيه، فإذا كان الإكراه في الدّين كلّه ممنوعا أيكون إكراه النّاس في المذهب مباحا؟ وإذا كان الإكراه في المذهب غير مشروع، أفتكرهون النّاس على فروعه؟ 2 المفتي يبيّن ويرحم: ينتظر الخلق من المفتي الرّحيم أن يبيّن لهم الدّين ولا يكرههم عليه، قال تعالى:\"لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِر\"11 وقال أيضا:\"مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ\"12 وقال:\"فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ\"13، وقال:\"وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ\"14، فإذا تقرّر ذلك، فليس للمفتي أن يحاكم مخالفه أو يتنقّصه أو يصفه بما لا يباح له، من مثل\"الجهل\" و\"الفتنة\" و\"تعكير الصّفو العام\"، بل يبيّن ويرحم عملا بقواعد الدّين المقرّرة. أصول مالك العمليّة الرّافضة للإكراه فإذا تقرّر ما سبق، أنّ الإكراه في الدّين وفروعه مرفوض في شريعتنا المطهّرة على قول الكثير من أهل العلم، فالإكراه ـ كذلك ـ مخالف لأصول مالك العمليّة والعلميّة. ومن أصوله العمليّة، أذكر حادثتين اثنتين: الأولى: بعد أن أخمد المنصور ثورة \"النّفس الزكيّة\"، قال مالك ببطلان طلاق المكره بمقولته الشّهيرة\"طلاق المكره ليس بشيء\"، وهو يقصد رحمه الله تعالى نقض عهد المنصور العبّاسي لأنّه أخذ البيعة على النّاس لنفسه بالإكراه وحلف النّاس بالطّلاق إن نكثوا... فهذا مالك نفسه يرفض فرض السّياسي نفسه على شعبه وإكراههم على بيعته، و هو لا يعتبرها إذا حصلت بالإكراه، ويبطلها كما يبطل طلاق المكره تماما، فإذا كان مالك يرفض الإكراه في المسائل الكبرى المهمّة، فكيف يُقبل الفقهاء المالكيّون الرّسميّون على إلزام التّونسيّين وإكراهم في فروع فقه؟ أليست هذه مخالفة صارخة لإمام المذهب؟ الثّانية: رفض الإمام مالك أن تفرض السّلطة أو تحمل مذهبها في مسائل الاجتهاد على أحد. ولقد ألحّت السّلطة السّياسيّة العبّاسيّة المتمثّلة في أبي جعفر المنصور والرّشيد على فرض الموطّأ على الأمّة بقوّة السّلطان ـ خاصّة على أهل العراق الخارجين ـ فأبى مالك ورفض ذلك الأمر بكلّ شدّة، ولقد راودوه عن ذلك مرارا، وكان كلّ مرّة يردّ:\"إِنَّّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي الفُرُوعِ، وَتَفَرَّقُوا، وَكُلٌّ عِنْد نَفْسِه مُصِيْبٌ\"15. وهذه الحادثة وحدها تبطل النّزاع في المسألة. كما تبيّن بكلّ وضوح رفض مالك توحيد الفتوى ورسميّتها وحصرها في شخص واحد، لأنّّ أهل السّنّة اتّفقوا على أنّ العلم لا يجوز أن يبلّغه واحد، بل يجب أن يكون المبلّغون له متواترين، كما اتّفقوا على أنّ الولاء يجب أن يكون لكلّ علماء الأمّة العاملين دون تخصيص. أصول مالك العلميّة الرّافضة للإكراه: أهل السّنّة والعلم والإيمان يعرفون الحقّ ويتّبعون سنّة الرّسول ويرحمون الخلق، ولذلك تراهم أحرص النّاس على البيان دون إلزام، قيل للإمام مالك:\"الرّجل يكون عالما بالسّنّة، أيجادل عنها؟ قال:لا! ولكن يخبر بالسّنّة، فإن قبلت وإلاّ سكت\"16. وعلى هذا الأمر سار أهل العلم والحقّ من المالكيّة وغيرهم، قال ابن عبد البرّ:\"قال أهل العلم والنّظر: حدُّ العلم التّبيين وإدراك المعلوم على ما هو فيه\"17. وسئل ابن تيمية عمّن ولي أمراً من أمور المسلمين ومذهبه لا يجوّز شركة الأبدان، فهل يجوز له منع النّاس؟ فأجاب:\"ليس له منع النّاس من مثل ذلك ولا من نظائره مماّ يسوغ فيه الاجتهاد، ولهذا فإنّ مثل هذه المسائل الاجتهاديّة لا تنكر باليد، وليس لأحدٍ أن يلزم النّاس باتباعه فيها، ولكن يتكلّم بالحجج العلميّة، فمن تبيّن له صحّة أحد القولين تبعه، ومن قلّد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه\"18. وقال:\"ليس لأحد أن يلزم أحداً بقبول قول غيره ولو كان حاكماً، وإذا خرج ولاّة الأمر عن هذا فقد حكموا بغير ما أنزل الله ووقع بأسهم بينهم \"19 إنّ إكراه النّاس على فروع العبادة هو العبث و الفتنة، والواجب على المفتي أن لا يدخل في خلاف مع شعبه، منعا للتّنازع والتّصدّع بين المسلمين. لأنّنا لا نكاد نجد مسألة في الإسلام إلاّ وفيها خلاف بين النّاس، وللعلماء الرّبّانيّين دور عظيم في استيعاب تلك الخلافات عبر تطويع الأنفس وتربيتها على تقبّل الخلاف المشروع والقبول بالتّعدّد المباح، حفاظا على وحدة الأمّة وعرى أخوّتها. وإنّ محاولات فرض نمط معيّن للصّلاة ـ كما تسعى لذلك المؤسّسات الدّينيّة الرّسميّة في تونس ـ محكوم عليه بالفشل، لأنّه ـ فضلا على إنكار الشّريعة له ـ مخالف لطبيعة الأشياء، كما هو تدخّل سافر ومتخلّف بكلّ المقاييس في حقوق النّاس وخصوصيّاتهم. 3 أقوال المحقّقين في المذهب المالكيّ: القبض: هو وضع اليد اليمنى على اليسرى وتعيين محلّ وضعهما ـ وإن اختلفوا في موضعه، هل هو تحت السّرّةِ أو فوقها أو فوق الصّدر. وجمهور أهل العلم على أنّ القبض سنّة، والأدلّة على ذلك كثيرة جدّا. منها: القبض: إنّ الرّوايات عن مالك اختلفت، فأشهب وابن الماجشون ومطرف وابن المنذر وأصحاب مالك المدنيّون ينقلون عنه استحسان وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصّلاة مطلقا. وأمّا ابن القاسم فنقل عنه قولين: الأوّل: الكراهة مطلقا. والثّاني: التّفريق بين الفريضة والنّفل. فكرهها في الأولى وأباحها في الثّانية. قلت: فإذا اختلفت الرّوايات في المسألة الواحدة، فإنّ المطلوب: 1 الأخذ برواية الجماعة المستحسنة للقبض أولى بالأخذ من رواية الفرد أو الإثنين القائلين بالسّدل. 2 الرّجوع إلى مرجع المالكيّة الأوّل، وهو ما كتبه مالك بيده في الموطّأ عن طريق سهل بن سعد المروي20. قال ابن عبد البرّ وهو من كبار المالكيّة: لم يأت عن النّبيّ فيه خلاف وهو قول الجمهور من الصّحابة والتّابعين وهو الذي ذكره مالك في الموطّأ ولم يحك ابن المنذر وغيره عن مالك غيره... هذا وقد جاءت رسائل عديدة مستقلّة تبيّن أنّ القول بالقبض هو الرّاجح في المذهب، من هذه الرّسائل: \"ــ 1 نصرة القبض والرّدّ على من أنكر مشروعيّته في الفرض\" للشّيخ العلاّمة محمّد بن أحمد المسناوي الفاسي المالكي 1072 هـ 1136 هـ والرّسالة قيّمة نافعة نفيسة لما فيها من التّأصيل بالدّليل. ــ 2 هيئة النّاسك في أنّ القبض في الصّلاة هو مذهب مالك تأليف الشّيخ محمّد المكّي بن عزوز . الرّفع والرّفع ـ كذلك ـ له مستندات كثيرة في المذهب المالكيّ* على ومن أراد المزيد فليرجع إلى تفصيل في ذلك في مقال وأختصر هنا على المرجع المعتمد في الفتوى في جامع الزّيتونة ـ ردّ الله اعتباره ـ هو شرح الزّرقاني على مختصر خليل، وما استدركه وسلّمه البنّاني الفاسي، ولذلك اشتهرت عبارة لدى أهل علم بلدنا\"القول ما قاله الزّرقاني وسلّمه البنّاني\" وفي مسألة رفع اليدين قبل الرّكوع وبعده ومن القيام من اثنتين يقول البنّاني:\" ... وقول الزّرقاني لا الرّكوع إلخ، هذا أشهر الرّوايات، والظّاهر أنّه يرفع عند الإحرام والرّكوع والرّفع منه، والقيام من اثنتين لورود الأحاديث الصّحيحة بذلك اهـ\"، كما قال أيضا:\".... إنّ الرّوايات مشهورة عن مالك عمل بها كثيرا من أصحابه\"21. الغيرة على مذهب مالك وحصره في المسجد لا يلتقيان: إنّ استخدام الدّولة العلمانيّة لمالكيّة \"مزيّفة\" أمر لا يجوز أن يستمرّ، وإنّ تحكّم السّياسي في الفتوى وزجّ الدّيني وتوظيفه في الأجندات السّياسيّة أمر مقزّز، ولذلك جاءت الفتوى تسند شحن المحرّضين الذين يتّهمون الشّباب بالخروج على الدّولة لمجرّد مخالفة المالكيّة الرّسميّة. وإنّ السّاحة التّونسيّة بإصرار تطرّف السّلطة على اضطهاد الشّباب الملتزم بالسّنّة، مرشّحة لتشهد فصلا جديدا آخر من فصول الصّراع المرير بين الشّعب والحكم، ولذلك سارعت منذ ثلاث سنوات بطرح مبادرة تحت عنوان\"الإمام مالك رائد الإصلاح في تونس\" تجدونها في موقع تونس المسلمة على هذا الرّابط 22 تستهدف إطفاء حرائق شرور الاختلاف، وتجميع كلّ التّونسيّين على أصول الإمام مالك الحقيقيّة الجامعة، لعلّها تجنّب البلاد ما تنبّأتُ به من فتن قادمة لبلادنا لا قدّر اللّه. لماذا ينزعج البعض من تديّن الشّباب؟ إنّنا نستغرب أن يظهر فضيلة المفتي في مبحث فرعيّ بشكل متوتّر، والحال أنّه بان بينونة كبرى عن القضايا الجوهريّة للوطن، وغاب غيابا كلّيّا على الخطر الحقيقي الذي يهدّد الوحدة المذهبيّة والسّنّيّة التي ينفخ في كيرها نابتة الرّافضة الذين يطعنون في أصول الدّين وثوابت الشّريعة ووحدة الأمّة. فهل يشكّل تديّن الشّباب في تونس خطرا على البلاد؟ دع عنك أنّهم يشكّلون خطرا على المذهب المالكيّ! هذا ما نفهمه من خلال عمل المؤسّسة الدّينيّة ضدّ شباب مسالم فرّ من جحيم البعد عن الله عزّ وجلّ واحتمى ببيوت الرّحمان حيث السّكينة والأمن. لماذا تغضّ المؤسّسة الدّينيّة الرّسميّة عيونها عن الشّباب الشّارد عن ربّه الواقع تحت شبكات الجريمة والاغتصاب والقتل وعبادة الشّيطان والصّليب؟ لماذا تسكت في وجه المدّ الشّيعي والطّرقي والعبث الأخلاقي؟ لماذا تسكت عن التّوسّع الإلحادي والشّيوعي والعلماني الطّاعنين في كمال الشّريعة وتمامها وعزّتها وهيمنها؟ فهل أخطأ هؤلاء الشّباب وارتكبوا من الجرائم حتّى أثارت عليهم الدّولة الطّامّة والعامّة في مساجد محروسة بترسانات شديدة من سياجات \"قانونية\" وأمنيّة لخنق حقّ التّونسيّ في التّديّن والنّشاط الدّعويّ. ألم تتساءل المؤسّسة الدّينيّة الرّسميّة لماذا لم تجد لها قبولا لدى الشّباب، فأقبل هؤلاء على\"التّديّن المشرقي\" كما يروّج؟ لقد وجد الشّباب كتيبات وورقات ومطبوعات كثيرة وميسّرة وبلغة مبسّطة سهلة، فتلقّوها بالاستحسان والقبول لأنّها مؤصّلة مقنعة، في حين أنّ الكتب المالكية ـ إن توفّرت ـ هي لا تقنع الباحث عن الحقّ، لأنّك لا تجد فيها إلاّ الفقه المحض والرّأي المجرّد، وقد خلا أكثرها من ذكر الدّليل، وما كان هذا يليق بمذهب، أجمعت الأمّة على أنّ إمامه إمام في السّنّة والحديث... يا فضيلة المفتي اتّق اللّه عزّ وجلّ، ولا تجعلوا من فروع الفقه دينا ولا تجعلوا المالكيّة الرّسميّة عقيدة من خرج عليها خرج على الدّين وخرج على الدّولة. يا فضيلة المفتي، إنّ الشّريعة حقوق كلّها، وأعظمها على الإطلاق حقوق اللّه تعالى وحقوق عباده، والدّفاع عنها إقامة للدّين وبذلك تحفظ الدّماء والأعراض والأنفس والأموال، وتعطيل هذه الحقوق تحت أيّ نوع من المعاني إخلال بالدّين وتحريض على الظّلم، ونيل من الشّرع. أدعوك ـ يا فضيلة الشّيخ ـ ونفسي أن نتجنّب الأهواء وأن نحافظ على الاعتصام بالسّنّة فهي سبيل الرّحمة والجماعة والائتلاف، وهي حبل الله تعالى الجامع والمؤلّف بين التّونسيّين المسلمين، ولا نتفرّق عليها أبدا. كما أدعوك ونفسي أن نقبل بالخلاف في الفروع، وأن لا نخلط الأمور ولا نتعمّدها، فتوظيف الخلاف الفرعي في صراع سياسيّ وأمني لا يجوز أن تنخرط فيه المؤسّسات الدّينيّة الرّسميّة لأنّه يجلب لها الفضيحة والعار. اسمحوا لي ـ سعادة المفتي ـ في الختام أن أقول لكم: إنّ \"فتواكم\" الخالية من الرّحمة والنّصح والمخاصمة للعلم والعدل، لا أعتبرها تدور في دائرة الشّرع الحكيم، لمفارقتها الاستقامة الدّينيّة، وسقوطها في ظلمات طاغوت الهوى المرفوض جملة وتفصيلا. قال الإمام الشّاطبي رحمه الله تعالى:\" فكلّ مسألة حدثت في الإسلام فاختلف النّاس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة علمنا أنّها من مسائل الإسلام وكل مسالة طرأت فأوجبت العداوة والتّنافر والتّنابز والقطيعة علمنا أنّها ليست من أمر الدّين في شيء وإنّها الّتي عنى الرّسول صلّى الله عليه وسلّم بتفسير الآية وهي قوله\" إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ\"23، فيجب على كلّ ذي دين و عقل أن يتجنّبها. فإذا اختلفوا وتقاطعوا كان ذلك لحدث أحدثوه من اتباع الهوى ...وهو ظاهر في أنّ الإسلام يدعو إلى الألفة والتّراحم والتعاطف. فكلّ رأي إلى خلاف ذلك فخارج عن الدّين\"24 إنه حان الوقت أن يحرّر الدّين من إكراهات الحكم وضغط العوام وضيق المقلّدين واختطاف الأهوائيّين. وليس للمفتي الحقّ أن ينكر على الشّباب تمسّكهم بصفة صلاة النبيّ فضلاً على أن يحكم عليهم أو يحرّض عليهم المتربّصين ويوغر صدور العامّة عليهم، أو ينحاز إلى طرف دون آخر، بل ينبغي أن يبقى فوق الجميع، يوطّن الأنفس على قبول الخلاف ويبيّن الدّين بدليله، وهذا وحده الكفيل الذي يجمع بين الشّعب ويصطفّ حوله حتّى يسود بين الجميع الحبّ والمودّة. لا تعالج الصّحوة بمثل هذه الأساليب، والحلّ الحكيم هو التعقّل والاقتناع بالفشل الكامل لتجربة تجفيف التّديّن وأن تتوقّف الدّولة عن مواجهة الصّحوة، فإنّها لن تفلح، لأنّه لا يمكن لها أن تطفئ جذوة الإيمان في قلوب شعب مسلم، وإنّ الفزع إلى الحلّ الأمني خاسر وفاشل بكلّ المقاييس، لأنّ العقائد لا يمكن قهرها أو كسرها. لقد حصرت المؤسّسة الدّينيّة اهتمامها بالجدل الفارغ، وظلّت منذ فبركتها من عهد الحبيب بورقيبة تضيّع جهود وذكاء أهل علمها في مباحث كلاميّة وفقهيّة فرعيّة لا تجدي نفعا، في حين أهملت اهتمام الإسلام بقضايا العقيدة و الحقّ والخير والمساواة والعدل. عجبت من المؤسّسة الدّينيّة الرّسميّة في تونس، وهي تخاصم شبابا يحرصون على اتّباع السّنّة، و لا تنخرط في إيجاد الحلول الدّينيّة لمشاكل البلاد المتراكمة والمستعصية. إنّ أهل السّنّة هم أهل الجماعة وهم أشدّ النّاس حرصا على وحدة الأمّة، والاختلاف في فروع الدّين لا يؤثّر في جماعتها ووحدتها أبدا، فكم كان الاختلاف بين الصّحابة ومن تبعهم بإحسان وهم خير القرون وأفضلها، وكانوا جماعة واحدة، وعلى هذا يجب أن نربّي أنفسنا وشعبنا على هذه المبادئ: 1 وحدة في الأصول وتنوّع في الفروع. 2 الاجتماع في الأصول واجب وفريضة والاختلاف في الفروع سعة ورحمة. 3 نشر ثقافة التّسامح وحسن التّعامل مع الخلاف وذلك بتوعية النّاس أنّ الخلاف واقع وموجود، وهو إنّما يذمّ إذا عارض قاطعاً من الدّين أو ضروريّاً منه، وأنّ أتقى النّاس وأعلمهم وهم صحابة النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم في زمنه وبعده وكذلك من بعدهم اختلفوا، وتفاوتت اجتهاداتهم، ولم يكن هذا سبباً لفرقة ولا اضطراب ولا فتنة، والأمثلة على هذا كثيرة لا تحصى منها: حديث:\"لا يصلّيّنّ أحد العصر إلاّ في بني قريظة\"، فاختلاف الاجتهاد يلزم كلّ مجتهد أن يأخذ بما أدّاه إليه اجتهاده، ويلزم مخالفه ألاّ يثرب عليه. 25 والواجب على الجميع الرّجوع إلى الحقّ، فالحقّ أحقّ أن يتّبع، والحقّ كما قال الفاروق الشّهيد \"أبلج لا يخفى على فطن26\" و الموفّق لا يكتفي بمعرفة الحقّ، بل يجب أن يحبّه ويعمل به، لأنّه من أراد أن يحترم نفسه ويصون دينه فعليه أن يقبل الحقّ، ولا يدفعه الكبر والبغي والتّعصّب على عدم التّسليم له والانقياد إليه، ولا يجعل ولاءه للأهواء يعميه عن قبول الحقّ من أيّ كان، فانّ التّعصّب البائس والمصالح التّافهة هي الّتي أصبحت اليوم حكما في قبول الحقّ وردّه. قال ابن مسعود رضي اللّه عنه :\" ومن أتاك بحقّ فآقبل منه وان كان بعيدا بغيضا، ومن أتاك بالباطل فآردده وان كان قريبا حبيبا\"27، وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى: \"وليس صلاح الإنسان في مجرّد أن يعلم الحقّ، دون أن لا يحبّه ويريده ويتبعه، كما أنّه ليس سعادته في أن يكون عالمًا بالله، مقرًّا بما يستحقّه، دون أن يكون محبًا لله، عابدًا لله، مطيعًا لله، بل أشدّ النّاس عذابًا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه؛ فإذا علم الإنسان الحقّ وأبغضه وعاداه، كان مستحقًا من غضب الله وعقابه مالا يستحقّه من ليس كذلك، كما أنّ من كان قاصدًا للحقّ طالبًا له ـ وهو جاهل بالمطلوب وطريقه ـ كان فيه من الضّلال، وكان مستحقًا من اللّعنة ـ التي هي البعد عن رحمة الله ـ مالا يستحقّه من ليس مثله، ولهذا أمرنا الله أن نقول:\"إِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ\"، و\"الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ\" علموا الحقّ فلم يحبّوه ولم يتّبعوه، و\"الضَّالُوْنَ\" قصدوا الحقّ لكن بجهل وضلال به وبطريقه، فهذا بمنزلة العالم الفاجر، وهذا بمنزلة العابد الجاهل، وهذا حال اليهود فإنّه مغضوب عليهم، وهذا حال النّصارى فإنّهم ضالّون\"28. هذا هو جانب من الصّورة الواضحة والصّادقة للوضع الدّينيّ في تونس، وكلّ من قال بخلاف ذلك فهو مزيّف ومخادع. نسأل الله الكريم ربّ العرش العظيم أن يجعلنا ممّن ينظر بعين الإنصاف ويتبع الهدى دون اتّباع الهوى، ولا يقول على الله إلاّ الحقّ، ولا يلبّس على النّاس دينهم. وأن نكون ممّن يخدم الدّين، ولا يستخدمه، ولا تلهنا الدّنيا عن إيصال الحقّ إلى مستحقّه. ــــــــــــــــــ * المشرف العام على موقع تونس المسلمة http://www.tunisalmoslima.com 1 انظر فتواه في جريدة الصّريح التّونسيّة شهر 7 / 2009، والمبيّنة في بحث لي هذا هو رابطه http://www.tunisalmoslima.com/