سياسة البترو-دولار... حرب استباقية أمريكية
التهديد المنبثق من سياسة اليورو دفع ببعض الدوائر السياسية الأمريكية بالبدء في التفكير بتوجه استباقي لنظام البترو -دولار
الحقيقة إن الاقتصاد الأمريكي يعيش بإمكانيات اكبر من الإمكانيات الذاتية للمجتمع وذلك من اجل الحفاظ على الهيمنة العسكرية والسياسية على العالم
مجلة فورشن : هناك عفن مرعب في الاقتصاد الأمريكي ... بدأت رائحته تفوح
محمد فلاح الزعبي
إن مسلسل تراجع قيمة العملة الامريكية بدأ منذ عدة سنوات، الا انه لم يبلغ المستوى الدراماتيكي الذي بلغه مؤخرا.
ومنذ بعض الوقت، يتحدث الخبراء الاقتصاديون والسياسيون عن المشاكل التي تكاثرت بشكل سرطاني في بنية النظام النقدي الامريكي مؤدية الى بدء العد التنازلي لانهيار الدولار. ولم تعد أنباء الكوارث التي تحدق بالدولار الامريكي لتثير الشك في طبيعة الاتجاه النزولي الذي يسلكه. ولكن السؤال الأكثر أهمية هو: الى أي حد؟ وما هو الثمن الذي ستدفعه الاقتصادات والخزائن والاحتياطيات التي تتخذ من الدولار ركيزة أساسية لها؟
الجواب قد يكون بسيطا، او من صنف "السهل الممتنع"، فالتنبؤ بالمستقبل امر عسير، ولكن كل الدلائل تؤكد ان قيمة الدولار، المتداولة، ما تزال أعلى بكثير، من قيمته الحقيقية، وان حاجة الولايات المتحدة لتغطية العجز المتفاقم في الميزان التجاري وحدها ما تزال تتطلب المزيد من الانخفاض في قيمة الدولار.
وهكذا، فما يبدو انه تراجع كبير اليوم، ما يزال بعيدا كل البعد عن مستوى الكارثة. وهذا المستوى قادم لا محالة. فالمسألة مسألة وقت. ولكن لماذا سينهار الدولار أكثر بكثير مما حصل حتى الآن؟
الاقتصاديون يؤكدون ان وراء هذه المشكلة تقف اداة اقتصادية تم اساءة استخدامها "العجز التجاري المزمن"، وذلك بالاضافة الى "العجز المالي المتراكم في الميزانية الفيدرالية الأمريكي". فالعجز بحد ذاته ليس مشكلة، بل قد يكون حلاً لمشاكل اقتصادية ولكن توظيفه بشكل تعسفي لخدمة مصالح شركات (تسعى لتوسيع حصتها في الأسواق الدولية بخفض قيمة الدولار، ولاجتذاب أموال من الخارج) حوله الى نبع من المشاكل انعكست في انهيار يتزايد يوماً بعد يوم.
ويستمر العجز الامريكي في التفاقم ليبلغ بنهاية هذا العام 800 مليار دولار، أي ما يقارب 7% من اجمالي الاقتصاد الأمريكي، والتوقعات تؤكد وقوع المزيد من التفاقم. (1 ) فمن سيسدد هذا العجز الهائل؟
دعونا نقلب طرق سداد العجز المتعارف عليها في الاقتصاديات الحديثة:
- تعتبر الضرائب احدى الوسائل لتغطية العجز، وان كان هناك الكثير من التحذيرات تجاه استخدامها نظراً لما قد تؤديه من ركود وارتفاع البطالة وانخفاض الانتاجية والمنافسة. وبالتالي لن تتمكن الولايات المتحدة من استخدامها لان آثارها الجانبية بطبيعة الحال ظاهرة في الاقتصاد الامريكي (ركود وارتفاع البطالة وانخفاض الانتاجية والمنافسة). (2 ) بل ان الولايات المتحدة تحتاج الى المزيد من التخفيضات الضريبية التي ستؤدي الى المزيد من العجز. وهناك رفض شعبي وسياسي واضح لرفع الضرائب، مما يجعل اقتراض المزيد من المليارات هو المنفذ الرئيسي لتمويل برامج الحكومة ومشاريعها (الحربية) الطائشة، الأمر الذي قد يدفع بالدولار إلى المزيد من الانخفاض في مجرى الهاوية.
- طرح وبيع سندات الخزينة بالعملة الوطنية او عملات اجنبية(3 )، يمثل وسيلة لتمويل العجز، الا ان هذه الوسيلة غالباً ما تستخدم لفترة محدودة. فالمستثمرون الذين يشترون السندات لتمويل سوق مبيعاتهم في الولايات المتحدة يمكنهم ان يسحبوا أموالهم في أي لحظة. وبذلك فان هذا الحل ليس بنيويا بما فيه الكفاية لجعله حلا بالفعل. وقد تحولت المديونية الامريكية للخارج (الصين ودول جنوب آسيا خاصة) الى كارثة "تبعية بنكية" لهذه الدول، وبدلا من تخفيض العجز فانها صارت تفاقمه وتزيد الطينة بلة.
- استخدام المدخرات( 4)، يمكن ان يساهم في خفض العجز، ولكن من المعروف ان الاقتصاد الامريكي، افراداً وشركات، يعاني منذ عدة سنوات من انخفاض الادخارات والاحتياطيات. مما يعني، بطبيعة الحال، انه لا مجال لاستخدام هذه الوسيلة في العلاج. ويعتقد ستيفان روش أحد الخبراء الكبار في المنتدى الاقتصادي العالمي، >أن الحلقة الأضعف في الاقتصاد العالمي هو المستهلك الأمريكي الذي لا بد من أن يضاعف حجم ادخاراته.
- جذب المزيد من الاستثمارات لتعديل الميزان التجاري(5 ). ولكن، كما هو معروف، يعاني الاقتصاد الامريكي من نقص كبير في سياسات تشجيع الاستثمار وضعف قدرته على منافسة الاسواق الناشئة (مثل الصين)، وبالتالي لن تنفع هذه الأداة ايضاً في الحل.
- وأخيرا، فان طباعة المزيد من الدولارات وهو "السياسة النقدية المحببة لقادة البيت الابيض" يبدو وكأنه هو الحل. إذ غالبا ما لجأت الادارة الامريكية الى طرح المزيد من الدولارات لسداد المديونية الكبيرة التي ما تزال تتراكم حتى اصبحت تزيد عن 9 تريليون دولار (التريليون ألف مليار) ( 6). هذه السياسة او الاداة الاقتصادية عليها اكثر ما لها من ايجابيات، فآثارها السلبية ظاهرة للعيان من تضخم وبالتالي بطالة وانخفاض الانتاجية وتراجع النمو الاقتصادي. بكلام آخر، لم تنفع هذه السياسة في حل المشكلة بل زادتها سوءا، ويبدو انها لن تنفع لا اليوم ولا في المستقبل.
اذاً، ان المرض عضال وسرطاني وهو يسري في جسد الاقتصاد الامريكي، ولسوف تنعكس آثاره في الاقتصاد العالمي ككل. فبخفض الدولار تريد الولايات المتحدة من كل دول العالم التي تحتفظ باحتياطاتها او تتعامل بالدولار، ان تدفع ثمن الانخفاض. فدولاراتك التي تحتفظ (انت او حكومتك) على سبيل الادخار، عندما تتراجع الى نصف قيمتها، فكأنك تدفع بنصف القيمة الذي فقدته الى حكومة الولايات المتحدة، التي ستطبع دولارات أخرى بدلا منها من دون غطاء.
إن الادارة الامريكية تراوغ على ما يطلقه الاقتصاديون من تحذيرات باقتراب الخطر. وفي اللحظات الاخيرة، تلقي باللوم على الآخرين وتعزو سبب مشاكلها الى الامم الناشئة "العملاق الآسيوي". لتقول ان معظم العجز ينبع من تعاملات الولايات المتحدة مع دول جنوب شرق آسيا مثل الصين، واليابان، وكوريا، وكلها تبيع منتجات الى السوق الأميركي تفوق ما تستورده منه.
ويرى بعض الخبراء الاقتصاديين الامريكيين أن الحل يكمن في تعديل أسعار العملات العالمية بحيث تصبح المنتجات الأمريكية أرخص، والمنتجات الآسيوية أغلى بعض الشيء لضمان التوازن بين أسعار تلك المنتجات.
وعلى المدى الطويل، يمكن أن يؤدي تدني العملة الأمريكية الى سد العجز التجاري الأمريكي، وبالتالي الى دعم الصادرات الأمريكية. ويرى بعض الاقتصاديين الامريكيين ان حل هذه الازمة ممكن بالعودة الى طريقة "اتفاق بلازا" التي تم تبنيها في حل أزمة انخفاض اسعار المنتجات اليابانية (مقابل البضائع الصينية) في فترة الثمانينات. (7 ) فعبر "اتفاق بلازا" أمكن حل الأزمة آنذاك عن طريق تعويم وتوفيق أسعار العملات، وتم تخفيض قيمة الدولار الى مستوى معين، بمساعدة من البنوك المركزية في عدة دول.
ومع ذلك، فليس من المرجح ان تتوقف الادارة الامريكية عن التمادي في استخدام "سياسة القاء اللوم على الغير". حيث تسعى الولايات المتحدة الى تحميل جانب من أعباء الأزمة على أولئك الذين تمكنوا من تحقيق نجاحات في اقتصادهم من امثال العمالقة الجدد في آسيا.
ولم تنس الادارة الامريكية ان هذه الدول جمعت ادخارات تفوق ترليون دولار أمريكي، كلها على شكل سندات تصدرها الخزانة الأمريكية. فهذه الدول الآسيوية عملت على حل المشكلة بتمويل العجز في المجالين التجاري والميزانية الأمريكية، بطريق غير مباشر، وذلك لضمان تدفق سلعها الى السوق الامريكية من ناحية، وللعمل على خفض عملاتها هي نفسها أيضا في مقابل الدولار من ناحية أخرى.
ولئن كان من غير المتوقع ان تسحب هذه الدول استثماراتها، فمن غير المتوقع في المقابل ان تظل قادرة على شراء سندات الخزانة الى ما لا نهاية أيضا. ويبدو ان حد الانهيار سيبدأ وسينحدر طويلا في الهاوية عندما تجد هذه الدول نفسها غير قادرة على شراء المزيد من تلك السندات، او عندما تدرك ان السوق الامريكي لم يعد يتسع للمزيد من سلعها وخدماتها. ساعتها لن تجد هذه الدول مبررا للادخار في سندات الخزانة الامريكية لتمويل مشتريات جديدة. في المقابل، فعندما تبدو الاسواق الناشئة أكثر قابلية على استيعاب سلع الصين واليابان وجنوب آسيا فان هذه الدول لن تترد في تمويل مشتريات الأسواق الافريقية والآسيوية والامريكية اللاتينية مما سيحرم الولايات المتحدة من حجم كبير من أموال الاستثمار الخارجية.
حتى الآن، بدت الصين واخواتها مسؤولة عن حل الورطة الامريكية. فكما معلوم ان تجارة الصين مع الولايات المتحدة، التي تميل كفتها لصالح الصين، تعد إحدى الدعائم الرئيسية التي تعتمد عليها بكين في استراتيجيتها الاقتصادية، وهو ما يجعل من مصلحة الصين الأساسية ضمان انتعاش الاقتصاد الأميركي ومنع دخوله مرحلة الركود، التي قد تؤدي بدورها إلى تراجع الطلب الأميركي عن البضائع الصينية، وبالتالي الإضرار بالاقتصاد الصيني نفسه.
ولهذا السبب، بالتحديد، مازالت بكين تحتفظ بكميات كبيرة من الدولار الأميركي في بنكها المركزي. ومع أن البعض أبدى تخوفه من إمكانية إقدام الصين على بيع الدولارات التي في حوزتها لتتسبب في أزمة اقتصادية عالمية بالنظر إلى ارتباط الكثير من العملات بالدولار، إلا أن القليل فقط من المراقبين يعتقدون أن الصين قد تعمد إلى ذلك، اللهم إلا إذا شهدت العلاقات بين البلدين تدهوراً خطيراً على خلفية مشكلة تايوان، كما يقول الباحث الاقتصادي جيفير كب.
وتخشى كل الدول الكبرى والناشئة من كارثة انهيار الدولار كون الاقتصاد العالمي مرتبطاً بهذه العملة بطريقة سحرية ليضمن المتحكمون بهذه العملة، انه اذا حاولت احدى الدول التخلي عن هذه العملة، ستدفع ثمن ذلك نتيجة ارتباط عملتها بها واقتصادياتها باقتصاد الدولار. وهنا تصدق مقولة الرئيس نيكسون "الدولار عملتنا، وتلك مشكلتكم"(8 ) التي قالها عام 1971 عندما اعلن التخلي عن ارتباط الدولار بالذهب. حيث اصبح الدولار منذ ذاك الوقت "عملة العالم" ومشكلته في آن واحد. فرقاب الجيمع معلقة بهذه العملة التي اذا ما هوت ستهوي كالسيف. كما وصفها توماس فريدمان في "نيويورك تايمز" عندما تحدث عن انهيار الدولار واصفا هبوطه بالسيف الذي يقترب لجز الرؤوس، حيث قال: "إن هذا السيف يقترب من الرؤوس بسبب إدراك الأسواق العالمية بأن واشنطن تعاني من معضلتين لا ترغب الإدارة في التعامل معهما"(9 ). ويستطرد فريدمان شرح اسباب المشكلة بالقول انها تعود لمعضلتين: "الأولى، أن الولايات المتحدة تستورد الكثير من النفط فيهبط الدولار في ظل ارتفاع الأسعار. أما الثانية، فهي أن البلاد تستورد رؤوس أموال خارجية لأننا نوفر القليل وننفق الكثير كمجتمع وحكومة".( 10)
في السابق، استخلص الاوروبيون العبر جيداً، بعد تصريح نكسون وبدأوا مشواراً طويلا امتد لربع قرن كان ردهم توحيد عملتهم تحت اسم اليورو. ولكن هل معنى ذلك أن الاقتصاد الأوروبي أصبح منيعاً ولا يتأثر بهزات الدولار؟
بكل بساطة، نعم. ولكن نسبيا فقط. فالعملة الاوروبية ما تزال محدودة القبول دوليا، وما تزال تلعب دورا محدودا في التعاملات الكبرى، وليس لها مكان خارج اوروبا في معاملات النفط مثلا. وبالتالي فإن الأوروبيين، الذين قد يجدون عملتهم قد تحولت الى موئل للهاربين من الدولار، يخشون في الوقت نفسه، من ان انهيار الدولار، حتى وان كان سيعني انخفاضا في قيمة ما يدفعونه من اجل شراء النفط، الا انه سيترك أثرا ملموسا على قيمة مبيعاتهم للسوق الامريكية.
ومن المعروف انه تم ابتداع اليورو من قبل الاستراتيجيين الجيو-سياسيين الفرنسيين من اجل تأسيس عالم متعدد الأقطاب بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. وكان الهدف هو موازنة الهيمنة الساحقة للولايات المتحدة في الشؤون الدولية. والاعتقاد السائد هو إن تحالفاً ما بين باريس وموسكو وبرلين يمتد من الأطلسي إلى آسيا يستطيع أن يضع حداً لسلطة الولايات المتحدة.
هذا التهديد المنبثق من سياسة اليورو دفع ببعض الدوائر المتنفذة في المؤسسة السياسية للولايات المتحدة بالبدء في التفكير جدياً بتوجيه ألاستباقي لنظام البترودولار حتى قبل أن يصبح بوش رئيساً. كذلك من شأن انهيار الدولار الأميركي أن يؤثر سلباً على الاقتصاد الآسيوي الذي يحتفظ بأغلب احتياطاته بهذه الورقة الخضراء اللون والصفراء العمر.
ولقد أعرب مديرو احتياطيات البنوك الآسيوية في الصناديق السيادية لمصدري النفط عن قلق واسع إزاء المخاطر المباشرة، المحدقة بقيمة مقتنياتهم من سندات الخزانة الأميركية والمتمثلة في انهيار الدولار. وقد تنامى هذا الشعور المقلق.
اذا، ما دام وضع الدولار هشاً وضعيفاً، فلماذا لا ينهار كليا الآن؟ الطريقة السحرية (أو وهم الثقة بامكانيات الاقتصاد الامريكي على الصمود والتوسع والاستهلاك الى ما لانهاية) التي تربط العالم بالدولار ليست وحدها السبب، بل النفط أيضا. فقد اقدمت الولايات المتحدة الامريكية على احتلال العراق والسيطرة على منابعه من اجل هذه الثروة النفطية من جهة. ولحماية دولارها من جهة ثانية، ولكن كيف يحمي النفط الدولار؟
إن النفط ليس فقط هو السلعة الأكثر أهمية للتجارة العالمية؛ إنها عماد الحياة لكل الاقتصاديات الصناعية الحديثة. فحتى فترة قريبة فان كل بلدان الأوبك (منظمة البلدان المنتجة للنفط) وافقت على بيع نفطها مقابل الدولار فقط. وطالما بقيت الحال على هذا المنوال، فليس من المتوقع أن تصبح اي عملة كاليورو مثلاً عملة الاحتياط الرئيسية.
وهكذا، فقد أصبح الدولار بمثابة "المقاصة" الدولية لكل ما يتعلق بتجارة النفط. فاذا كنت تريد ان تشتري نفطا، فيجب ان تشتري دولارا. واذا كنت تبيع نفطا، فيجب ان تقبض دولارا. الامر الذي يجعل هذه العملة هي الحافظة الرئيسية لسوق تبلغ قيمتها أكثر من 20 مليار دولار يوميا.
هذا السياق يعني أيضاً أن الولايات المتحدة قد سيطرت بشكل فعال على كل سوق النفط العالمي: يستطيع بلد ما شراء النفط فقط إذا امتلك دولارات وهناك بلد واحد فقط له الحق في طبع الدولار: الولايات المتحدة. هكذا، فان الولايات المتحدة تستطيع، في الواقع، مجرد طبع المزيد من الدولارات واستيراد النفط قدر ما ترغب بدون أن تقلق بالنسبة للسعر.
وبدلا من دولار كان يكفي لشراء عشر بيضات، قبل سنة، فانه بالكاد يكفي لشراء خمس بيضات اليوم. (الواقع، حسب هذا المثال، فان بنك الاحتياط المركزي الذي طبع ضعف ما كان متداولا من الدولارات، كان هو الذي سلق وأكل البيضات الخمس الضائعة).
دعونا نسترجع ذاكرتنا، الم يكن العراق اول من اعلن تسعير وبيع نفط باليورو؟ ألا يبدو هذا السؤال كافيا، بحد ذاته، للجواب على سؤال "لماذا احتلت امريكا العراق؟".
ولئن سعت الولايات المتحدة من وراء إحتلال العراق الى الهيمنة على نفطه وتعزيز قدرتها على طباعة وبيع المزيد من الدولارات لتمويل مستهلك لا يشبع في السوق الامريكي، ومنتج لا حدود لجشعه، ولابقاء الدولار كمقاصة سعرية لكل ما يتعلق بتجارة النفط، استكشافا واستخراجا وتصديرا، فان الهزيمة العسكرية والسياسية والمعنوية التي تعانيها هناك قلبت السحر على الساحر. فالولايات المتحدة تجد نفسها اليوم مضطرة الى انفاق نحو 58 مليار دولار سنويا على عمليات عسكرية لم توفر الاستقرار لحكومة اتباعها الذين نصبتهم في هذا البلد. ( 11) وبرغم كل الجهود الرامية الى الحفاظ على تدفق النفط، فان عمليات التخريب ما تزال تشكل عائقا يحول دون عودة العراق الى سوق النفط كقوة مؤثرة. واذا ما وجدت الولايات المتحدة نفسها مضطرة الى الانسحاب، فانه لن تكون هناك قوة على الأرض تستطيع ان تجبر حكومة متحررة من هيمنة وجرائم الاحتلال على بيع نفطها ب
الدولار.
سؤال آخر لابد ان يطرح هنا: لماذا تعادي الادارة الامريكية فنزويلا؟ الم تكن فنزويلا اول، في ظل حكم الرئيس هوغو شافيز، من قام بإبرام صفقات مقايضة مقابل نفطها مع 12 بلد لاتيني؟(12 ) وهنا سؤال آخر يمثل جواباً لما قبله.
في اجتماع قمة الأوبك في سبتمبر- أيلول 2000 ، سلم شافيز إلى قادة دول الأوبك تقريراً عن "المنتدى العالمي حول مستقبل الطاقة"، وهو مؤتمر دعا إليه شافيز في وقت مبكر من تلك السنة لتفحص التوريدات المستقبلية لكل من الطاقة الأحفورية والطاقة المتجددة . إحدى التوصيتين الرئيستين للتقرير كانت ان على الأوبك أن تستفيد من المقايضات بالإلكترونيات عالية التقنية والتبادلات الثنائية لنفطها مع زبائنها من البلدان المتطورة، بل ان شافيز ذهب اكثر مما فعل صدام حسين حيث قال: "ينبغي للأوبك أن تتجنب استخدام كل من الدولار واليورو في العديد من التعاملات التجارية".( 13)
اذاً، لو قررت "أوبك" قبول اليورو فقط مقابل نفطها، عندئذ ستنتهي السيطرة الاقتصادية الاميركية. وستنهار امبراطورية الجشع والهيمنة، حتى قبل ان تكون قادرة على تهديد أي من العروش المتراخية. وبالتالي لن تعود أوروبا بحاجة إلى دولارات امريكا، كذلك الامر بالنسبة لليابان التي تستورد ما يزيد عن 85% من نفطها من الشرق الأوسط سوف تحول نسبة كبيرة من أصولها التجارية من الدولار إلى اليورو. كما ستبدأ اليابان بالتالي بتحويل حوالي 400 مليار دولار من سندات دين حكومة الولايات المتحدة الاميركية الى سندات باليورو. اما الصين فستغير احتياطيها من ترليون دولار الى ترليون يورو. (14 )
ويجب علينا الا ننسى ان الاتحاد الاوروبي مصدر اليورو لا يعاني من عجز تجاري ضخم وليس مثقلا بالدين لبقية العالم مثل الولايات المتحدة. وكذلك فان معدلات الفائدة في منطقة اليورو هي أعلى معدلات على نحو ملموس. وتمتلك منطقة اليورو حصة من التجارة العالمية أكبر مما لدى الولايات المتحدة وهي أيضاً الشريك التجاري الرئيسي للشرق الأوسط. ولكنه أيضا كان قوة استعمارية لا تقل سوءا عن الولايات المتحدة في الماضي.
مع ذلك، فان العالم كله في مثالنا السابق لا يخسر شيئاً سوى الدولار الامريكي الذي هو مصدر المشكلة. طبعاً، ان سيناريو التخلص من المشكلة، اذا ما اريد له ان يمثل على خشبة المسرح العالمي لن يتم بالضرورة بهذه السهولة، لماذا؟
لن تقدم "اوبك" ولا اي منظمة دولية على التخلي عن الدولار، لا بل لن تسمح لاحد ان يفكر بذلك، فالمنظمة الدولية والهيئات الأممية سلمت عنقها للقطب الامريكي الذي يديرها كما يشاء لا كما يريد الآخرون.
ولكن، هل انسدت الابواب؟ وهل تحول الدولار الى "حتمية" في الوجود والبقاء كما لو انه امر لا مفر منه؟ يعلم الجميع ان بقاء الدولار مفروض بشكل غير مباشر نتيجة الكثير من الضغوط واعمال الابتزاز والتهديد بالقوة، ولكن، اليس من المنطقي ان تبدأ الدول والأفراد في التفكير بالخسائر الناجمة عن الاحتفاظ بالدولار قبل انهياره؟ هل يجب انتظار ان يقع الفأس بالرأس.وهناك حقيقة لابد من تثبيتها وهي إن الاقتصاد الأمريكي يعيش بإمكانات اكبر من الإمكانات الذاتية للمجتمع وذلك من اجل الحفاظ على الهيمنة العسكرية والسياسية على العالم .
السيناريو البديل والقابل للتطبيق، هو البدء في اعداد سلة من العملات بالنسبة للاحتياطيات وشرائها سندات خزينة باليورو والين واليوان، بل وحتى عملات دول نامية أخرى، كالهند وماليزيا وجنوب افريقيا، الى جانب الدولار واعتماد عدة عملات في تسعير المنتجات الاستراتيجية النفط، القمح.. وغيرها.
البداية تتطلب خطوة اولى لتلافي الكارثة التي فرضت علينا دون استشارتنا، كدول نامية. فلماذا يجب ان نستشير واشنطن ونطلب العون من المؤسسات الاقتصادية الدولية التابعة لها، اذا لم تقف موقف الحياد، حيال مصالحنا؟
قد يكون من مصلحة الدولة المنتجة للنفط ان تعيد حساباتها وعلاقاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة على اساس مستقبل الدولار، وطالما ان الدولار تعدى شفير الانهيار، لعله من المنطقي ان نتساءل: "لماذا يجب ان نلقي بانفسنا الى التهلكة ما دام سقوط الدولار مجرد مسألة وقت، ومادام القاع بعيدا جدا؟"
التنبأ بانهيار امريكا:
وما زالت الإدارة الأمريكية المحافظة تخط كل يوم خطا ينبيء بنهايتها فهي تتخبط بعد فوز الديمقراطيين بأغلبية مجلسي الشيوخ والنواب نتيجة الفشل السياسي والهزيمة العسكرية في العراق، وإجبار بوش على كسر رأس مثلث الإرهاب المحافظ باستبعاد وزير دفاعه المغرور رامسفيلد لامتصاص غضب الناخب الأمريكي، وأغلب الظن – حسب التقارير الأمريكية- أن الولايات المتحدة الأمريكية بين خيارين لا ثالث لهما: (15 )
الأول: الالتفاف على فكرة الاحتلال وإعادة الانتشار في مناطق خارج الكتل السكنية شمالا وجنوبا بإغراءات لسوريا وإيران أو لأحدهما دون الآخر.
والثاني : حزم الأمتعتة الأمريكية من العراق والعودة بها إلى حيث أتت مع إعداد الساحة لتولي إسرائيل بصورة كاملة مقاليد الوكالة الكاملة في المنطقة، وهو خيار قد يبدو مستبعدا مؤقتا ولكنه أحد الاحتمالات المتاحة أمام الديمقراطيين بعد الانتخابات الرئاسية القادمة.
ولكن مازال هناك مسألتان معلقتان وهما: (16 )
1) قلق الحكومة الإسرائيلية ( الوكيل المعتمد للاستعمار ) في هذا الوقت بالذات من تراجع المد الاستعماري الأمريكي في ظل صحوة المقاومة الإسلامية بعد هزيمة الجيش الإسرائيلي على يد المقاومة اللبنانية، فلم يكن التراجع أو الانسحاب الأمريكي متوقعا أو مطروحا قبل تحقيق الأجندة الإسرائيلية كاملة في المنطقة من تصفية الملف النووي الإيراني والقضية الفلسطينية والاندماج والهيمنة الاقتصادية على السوق العربية، ولكن ها قد جاءت الانتخابات بما لا تشتهي إسرائيل (ولا يعني هذا أن الديمقراطيين أقل دعما لإسرائيل من المحافظين الجدد).
2)الاحتلال الامريكي للعراق بما افرزته من ارهاصات في المنطقة العربية حيث التكلفة الكبيرة وازدياد العجوزات في الموازين التجارية للدول العربية , وكذلك ظهور حركات جهادية لاتقبل باي تفاوض او حلول وسط مع الولايات المتحدة او ماسمته امريكا (ارهابا) دون تمييز بين هذه الحركات والتي لاتزال تزتنزف القدرات الامريكية بما تسببه لها من قلق ادى الى شل القدرة الهجومية للولايات المتحدة.
لقد توقع كل من ريتشارد هاس رئيس المجلس الأمريكي للعلاقات الخارجية وبرجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق بأن مصير أمريكا في العراق والآثار المترتبة على إخفاقها في العراق ستكون مثل آثار حرب السويس على الإمبراطورية البريطانية وزوالها ولكن.
الفارق الوحيد بين الحالتين هو عدم وجود بديل يملأ الفراغ الأمريكي في المنطقة في حين وجد البديل الأمريكي لبريطانيا وفرنسا بعد حرب السويس فورثت أمريكا التركة الاستعمارية في الشرق الأوسط والعالم أيضا.
ويظهر حاليا على السطح ثلاث قوى إقليمية ستتنازع النفوذ مستقبلا وفق تحليل معظم مراكز البحث الأمريكية، منهما دولتان حسم أمرهما أما القوة الثالثة فما زالت قيد التكوين، ويمكن تسميتها بكتلة المقاومة في المفهوم العربي (والراديكالية من المنظور الأمريكي الصهيوني).
والقوتان الإقليميتان المقصودتان هما : إسرائيل وإيران، فإسرائيل كانت إلى وقت قريب تحاول بمساعدة المحافظين الجدد تفريغ الساحة والاستئثار بالهيمنة المطلقة من خلال نزع المعادل التكنولوجي النووي من إيران، ولكن العوامل الداخلية والظروف المحيطة تتحرك في اتجاه آخر.
لذلك سيتفرغ المحافظين الجدد (فيما تبقى من ولاية بوش) وإسرائيل وحلفائهما الغربيين ضرب المشروع المقاوم بشتى الوسائل والإمكانيات خلال الفترة اللاحقة بتبني استراتيجيات ناعمة لتفتيت المنطقة وشفط مواردها المالية ومقوماتها الاقتصادية بعدد من التكتيكات المرحلية .
وما تحاول امريكا فعله للخروج من هذه المستنقعات هو ابقاء ساحة المعركة بعيدة عن اراضيها ,واثارة الحروب الاهلية في المنطقة العربية لتبقى تجارة السلاح رائجة ولان معظم شركات بيع الاسلحة بيدها وبهذا تبقى تسيطر على اقتصاديات العالم ,من اجل التغطية على والوضع الاقتصادي الداخلي المتعفن ,وهو ما عبرت عنه مجلة فورشن الشهيرة عندما قالت "هناك عفن مرعب في الاقتصاد الامريكي ...بدأت رائحته تفوح..."
****************
المصادر:
(1) والدن بلو,تفكيك العولمة ,افكار لاقتصاد عالمي جديد,الشركة العالمية للكتاب 2005.
(2) احمد فتحي سرور ,العالم الجديد بين الاقتصاد والسياسة والقانون , ط2 دار الشروق ,الاردن ’ 2005.
(3) الموقع الاكتروني www.islamonlin.com.
(4)الموقع الرسمي لصندوق النقد الدولي www.imf.org.
(5)نفس المرجع السابق.
(6) عصام سعد , العولمة جدل الراسمال والسياسة ,ط1 دار الفقيه للنشر 2004.
(7)الموقع الالكتروني www.alarabonline.org.
(8)نفس المرجع السابق
(9)احمد فتحي سرور, العالم الجديد بين الاقتصاد . سبق ذكره.
(10) المرجع السابق .
(11)غسان ابراهيم ,امبراطورية الوهم تنحدر .
(12)المرجع السابق
(13)الموقع الالكبتروني www.miamessa.blogsbot.com.
(14)نفس المرجع السابق.
(16)المركز الاستراتيجي للدراسات الدولية www.csis.org.
الكاتب: محمد فلاح الزعبي التاريخ: 08/07/2009 عدد القراء: 6302
أضف تعليقك على الموضوع
|