ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا
بقلم أبو القاسم المقدس :
لقمان رضي الله عنه..ليس نبيا..ولا ملكا..وهو رجل أسود..غليظ الشفتين..لا يؤبه له..ومع هذا فقد خلد الله تعالى.. ذكره في كتابه في سورة تحمل اسمه..نتعبد ربنا بتلاوتها وتدبر معانيها إلى يوم الدين.. وذلك أن الله "الحكيم" لا ينظر إلى أجسامنا ولا إلى صورنا..ولكن ينظر إلى القلوب..
وماذاك سوى أنه اتصف بالحكمة..حيث يقول المولى عز وجل"ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب"
وإذا قال لك طفل متباهيا..معي مال كثير..فقد يكون ما معه لايجاوز الخمسة دراهم..
فإن قال نفس الجملة..شخص كبير..فيتبادر للذهن أن معه بضعة مئات أوبضعة آلاف مثلا..
أما إذا قالها ثري من الأغنياء أو أحد الملوك..فلابد أنه يعني آلاف الآلاف ( الملايين أو المليارات)..
ولئن قال ذلك ملك الملوك..وجبار الجبابرة..ليكونن شيء لا يمكن تصوره حينئذ..!
يقول سبحانه وتعالى"فقد أوتي خيرا كثيرا"
وما دام الأمر كذلك..فإن السعي الحثيث لنكون من أهل الحكمة..لايكون والحالة هذه ترفا زائدا..فهو وإن كان من أشراف الأمور ومعاليها..غير أننا في عوز لأن نكون حكماء..في عين الله تعالى..الذين قال فيهم "يؤتي الحكمة من يشاء"
فإن قيل ما الحكمة إذن؟!
قيل..قد قال فيها العلماء أشياء كثيرة..
ولكن أسهل ما يقال في حقيقتها..إنها إصابة الحق في موطنه اللائق به وبالكيفية الأولى ..
وقد قال الإمام ابن الفيم في تعريفها:فعل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي..إلخ
وقد أطلق الله تعالى لفظ الحكمة..على السنة..بدليل قوله تعالى موصيا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم"واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة"
وفي سورة لقمان الحكيم..جاء ذكر الحكمة في أربعة مواضع..
الأول-قوله تعالى في مطلع السورة"ألم*تلك آيات الكتاب الحكيم"
الثاني-"ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد"
الثالث-"خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم"..في كلامه سبحانه عن الجنة
الرابع-"ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم"
ويلاحظ من هذا العرض ما يأتي:-
في الآية الأولى..وقعت الحكمة وصفا لكلام الحكيم جل وعلا
وفي الثانية..جاءت الحكمة وصفا لله تعالى..
وفي الثالثة..وصف للقمان ذاته..لكن مع التنبيه أن الله الحكيم هو من آتاه الحكمة..
وفي الرابعة..وصف لله تعالى تارة أخرى..
والمعنى:الله..هو الحكيم..ومن كان هذا شأنه..فلابد أن كلامه بالغ الحكمة "قل فلله الحجة البالغة" فكلامه حكيم أيضا..
ثم هو لكونه بلغ المنتهى في الحكمة..قادر سبحانه أن يؤتي الحكمة من يشاء وقد آتاها لقمان من جملة من آتاهم..
ولما كان القرآن موصوفا بأنه كلام حكيم..فإن أول ما يسعى إليه مريد الحكمة أن يفهم القرآن وأن يعمل به ويتمثله في حياته..
ومن الحكمة ما يوفق الله تعالى له بعض عباده الصالحين..من أهل العلم
والعبادة..فيقول كلمات تستحق أن تكتب بماء الذهب..هي قليلة في مبناها..عظيمة في معناها..
ولهذا ألف ابن رجب الحنبلي كتابا سماه:فضل علم السلف على الخلف..ليبين سبق السلف الصالح على علماء الخلف في الجملة..
وليست هي الحكمة هي هذا فحسب..فقد يوفق المجرب لكلمة حكيمة..وإن لم يكن على جانب عظيم من التقوى..
ولكنها..-أعني الحكمة-حالة يتمثلها من أوتيها في أقواله وأفعاله..فتراه لا ينطق إلا حقا..دون شعور منه أو تكلف..
فإذا وقع في ضائقة أو معضلة أو استفتي في شيء..جاء رده في الغالب شافيا..
يعرف أين يغضب..وأنى يلوذ بالصمت..وأيان يجادل..ومتى يعرض
.. ومتى يجاهد بقلمه..
ومتى يقدم الجهاد بنفسه..إلخ
ترى ذلك سلوكه..دون مزيد عناء أو تحضير..
فكيف نصل لهذه الحالة..التي قال تعالى عن صاحبها:فقد أوتي خيرا كثيرا..
بعض الناس يقول:ليست الحكمة هنا لائقة..بل لابد من ردع فلان في هذا الموقف خاصة..أو فعل كذا وكذا..إلخ
وهذا غلط..وتأمل إن شئت قول الله تعالى"ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة"
فلم يقيد الحكمة بالحُسن كما ترى..خلافا للموعظة..فاشترط فيها أن تكون حسنة حتى يرجى نفعها..
ولما تكلم الله عن الجدال...قال"وجادلهم بالتي هي أحسن"..بل نهى عن جدال أهل الكتاب إلا بقيد "التي هي أحسن"..واستثنى"الذين ظلموا منهم"
وهذا يدلك أن الحكمة حسنة بحد ذاتها..ولاحاجة لتقييدها بوصف يكيفها..وأنه خير مطلق في كل الأحوال..
نعود لما تم الاتفاق عليه من ذي قبل من مناقشة أسباب بلوغ هذه المرتبة العلية..التي يؤتيها الله تعالى من يشاء من عباده..وقد تعمدت عدم ترتيب المقال لأجبرلا القاريء على قراءته كله..
وكنا قد قررنا معا..أن المفتاح الكبير لذخائر الحكمة مكنوز في كتاب الله بالعمل به وتدبره والسنة واقتفائها..وهجر البدع وأهلها..هذا بعامة..
وعلى نحو أخص..فإن من مفاتيح الحكمة..الشكر..والشكر أعم من الحمد في مناح..والحمد أعم من الشكر في نواح..وهذا ما يسمى عند الأصوليين:بينهما عموم وخصوص نسبي..
وما يهمنا هنا..تبيان حقيقة الشكر الحادية بالمرء إلى أن ينتظم في سلك الحكماء الذين هم منارات هدى لأنفسهم وللناس..وإن قل علمهم الشرعي..
أما كون الشكر سببا للرقي في سلم الحكمة..فذلك ظاهر في قول ربنا فيما حكاه عن لقمان"ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله"
والسر في ذلك..فسرته بقية الآية"ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه"..أي شكر المرء ربه لايعود نفعه أصلا إلا على الشاكر..ولما كان الشكر هو تسخير نعم الله لتكون في طاعة الله..لامجرد تمتمة اللسان والشفتين..
فإن ما كان هذا حاله..دل أنه يعرف أمرين لا غنى لأي عبد عن معرفتهما..إن كان يعتبر نفسه عبدا لله:-
-معرفة الله..جل وعز
-ومعرفة نفسه..
فإذا عرف ربه بصقاته وأسمائه..عرفه بجلاله وجماله وكماله..قدره حق قدره..فخشيه ورجاه وأحبه
..
ويعرف إزاء ذلك حقارة نفسه..وضعفها..وتقصيرها..وفقرها..وفاقتها..إلى من يصلحها..
تمّ له بهاتين المعرفتين..ميزان الحياة..وتجلى له صراط الله المستقيم..فلزمه..وحاله إذ ذاك..مزيد من الشعور بالشكر أن وفقه الله لسلوك هذا..ثم هو أيضا في غاية العجب..لألئك التائهين في زحمة الدنيا..المتصارعين على حطامها..المفتونين ببهرجها..
ثم شرع لقمان..في توصية ابنه بأمور..تصلح أن تكون من موجبات الحكمة..وتصلح إن شئت أن تكون من آثارها..أي الحكمة
قال تعالى:"وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم"
ثم قال لقمان
":يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير"
ثم قال"يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور"
وتابع"ولاتصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لايحب كل مختال فخور"
"واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أتكر الأصوات لصوت الحمير"
وفي هذه الآيات فوائد جليلة..لا حصر لها..سأحاول أن أستشف منها ما يأذن الله به مع الاختصار..
-مما يلاحظه أي متدبر ..أن وصية لقمان الأولى عن الشرك والتحذير منه..أردفها الله تعالى..بكلام أنشأه هو سب الكاتب: أبو القاسم المقدسي التاريخ: 28/12/2006 عدد القراء: 6178
أضف تعليقك على الموضوع
|