أمتنا على أعتاب مرحلة جديدة
الدكتور: فواز القاسم / سورية 11 ربيع الأول / 1432 هجري
عندما قرر حاخامات اليهود والصهيونية في العالم ، في مؤتمرهم الشهير ، في بازل بسويسرا ، في نهايات القرن التاسع عشر الميلادي ، أن يجمعوا شتاتهم ، ويؤسسوا لهم دولة دينية في فلسطين ، كانت خطتهم ترتكز على مرحلتين اثنتين :
المرحلة الأولى :
ويتم فيها تكوين الدولة اليهودية في فلسطين ، ثم إحاطتها بمجموعة من الأنظمة العميلة لحمايتها مما قد يتهددها من الشعوب العربية والإسلامية المحيطة بها ، وذلك ريثما يمر الوقت الكافي ، الذي تتمكن فيه من بناء قوتها الذاتية ، التي بواسطتها تكون قادرة على الدفاع عن نفسها وعن عملائها أيضاً ، تماماً كما يحيط الفلاح فسيلته الغضة الطرية المزروعة توّاً ، بالسواتر والجدران ، وذلك ريثما يقوى عودها ، ويشتد ساعدها ، وتصير قادرة بنفسها أن تدفع عاديات الزمن عنها ...
والمرحلة الثانية :
البدء بالتوسع التدريجي لدولتها ، واحتلال المزيد من الأراضي المجاورة لها ، إلى أن تتمكن أخيراً من بسط أجنحتها على طول الشريط الخصيب ، الممتد من أفغانستان شرقاً إلى فلسطين غرباً .. ولقد استغرق تنفيذ المرحلة الأولى لهذه الخطة الخبيثة قرناً كاملاً ، وهو القرن العشرين الميلادي بكامله ، وها هي تباشير المرحلة الثانية توضع موضع التطبيق الفعلي مع إطلالات القرن الحادي والعشرين ، وذلك باحتلالهم لأفغانستان المسلمة ، ومن بعدها العراق الحبيب ... !!!
ولما كان الوطن العربي والإسلامي في معظمه خاضعاً لقوى الاحتلال الصليبي الغربي لحظة قيام الكيان الصهيوني ، إذاً ، فإمكانية الحفاظ على هذه الدولة لحظة ولادتها ، وحمايتها من ثورة الشعوب العربية والإسلامية المحيطة بها ، كانت مضمونة من قوات المحتلين أنفسهم … فلما اضطرت تلك القوات الصليبية الغازية للخروج من المنطقة العربية والإسلامية ، تحت ضغط تلك الشعوب الثائرة ، والتي فجرت عشرات الثورات ، وسيرت مثلها من المظاهرات ، ودفعت على طريق استقلالها وتحررها أنهاراً من الدماء …
هنا كان لا بد من وضع خطة جديدة ، والإجابة على سؤال مهم : من يقوم مقام القوات المستعمرة في حماية الكيان الصهيوني ، في حال انسحبت تلك القوات إلى بلادها ، ونالت الشعوب العربية والإسلامية حريتها واستقلالها ..!!؟ ولكي يطمئن أساطين الصهيونية والماسونية والصليبية على كيانهم المدلل ، كان لابد من إحاطته بجدار من الأنظمة العميلة لهم ، والمرتبطة بهم ، ليؤدوا بالوكالة ، ما كانت القوات الصليبية المحتلة تقوم به بالأصالة .
ولقد مارست تلك الأنظمة العميلة منذ تسلّمها الحكم بُعيد الاستقلال وحتى الآن ضد الشعوب العربية من الجرائم والفظائع والآثام ، ما يهتزُّ له عرش الله ، ومارست ضدّها من القهر ، والظلم ، والقمع ، والإذلال ، والتجويع ، والتركيع ، والتجهيل، والتضليل ما لا طاقة لبشر على احتماله ... فلقد حاربت دين الأمة ، وأفسدت أخلاقها ، ودمّرت التعليم والصحّة والتنمية والإعلام فيها ، وخرّبت الاقتصاد ، وسرقت الأموال ، ونشرت ثقافات الرذائل والرشاوى والمحسوبيات ، ومارست كل أشكال العهر المادي والمعنوي بحق الأمة وشعوبها ...!!
تمّ ذلك كلّه من خلال خطط خبيثة مدروسة ، سهرت على تنفيذها عشرات الأجهزة الأمنية والإعلامية المافياويّة المدرّبة على أيدي أعتى أجهزة الحقد والإجرام في العالم. كلّ ذلك ، والشعوب العربية صابرة محتسبة ، تخشى الله ، وتخاف الفتنة ، وتتجرع المرارة والألم ، وتصبر على الضيم ، وتموت في اليوم الواحد ألف موتة وموتة، ويرتفع في أعماقها مخزون الغضب شيئاً فشيئاً كلما مرّ الوقت ، وطال ليل الظلم، فتلجمه بلجام العقل والصبر والحكمة ...
وفي نفس الوقت ، كان يرتفع في عقولها أيضاً مخزون الوعي والإدراك والرغبة في التضحية والثورة ، شيئاً فشيئاً ، وبشكل موازٍ لحجم المأساة التي تمرُّ بها الأمة ، ولحجم الجريمة التي ترتكبها طغمة الحكام بحقّها وحقّ أبنائها ... ومع مرور السنوات والعقود ، كان يتعمّق الجرح أكثر فأكثر ، وتكبر المأساة ، ويتراكم الغيظ ، ويزداد الوعي ، وينفد الصبر ، وتطيب الشهادة ، حتى نادى منادي الأمة : لقد طفح كيل الظالمين ، وطال ليل المحنة ، ونفد الصبر ، وجاوز الظالمون المدى ، ولم يعد في قوس الصبر منزع ، فوجبت التضحية ، وحقّ الفدا ...
وفي ساعة مباركة من يوم الجمعة ، التي تتفتح فيها أبواب السماء ، وتُستجاب فيها دعوات المظلومين ( الساعة الخامسة مساءً من يوم الجمعة المصادف للرابع عشر من كانون الثاني يناير لسنة 2011 ميلادي ) زحفت الجماهير التونسية الثائرة لتحاصر وزارة الداخلية التونسية ، وزارة القهر والظلم والإذلال ،
ومن بعدها القصر الجمهوري ، فهرب الطاغية بطائرته المسروقة من أموال الشعب ، هائماً على وجهه في الآفاق ، فلا يجد من يؤويه ويستقبله ، ليكون عبرة لكل ظالم أفّاق ... وفي نفس الساعة المباركة ، الخامسة مساءً ، من نفس اليوم ، الجمعة المباركة ، الموافق للحادي عشر من شباط ( فبراير ) ، أي بعد شهر تقريباً من هروب ابن علي ، كانت طائرة حسني مبارك تقلع من القصر الجمهوري إلى غير رجعة ، على وقع هدير عشرات الآلاف ، بل الملايين من الجماهير المصريّة الثائرة الزاحفة من جميع المحافظات المصرية وقصباتها ...!!!
وبهروب طاغية تونس ، ومن بعده طاغية مصر وفرعونها ، في أقل من شهر ، تكون الأمة من المحيط إلى المحيط ، قد وضعت أقدامها على أعتاب مرحلة جديدة وعهد مشرق وضّاء ، عنوانه : الحريّة والكرامة والعزّة ، بدلاً من : الذلّ والقهر والعبودية . وإننا لعلى ثقة مطلقة بأن قافلة الحريّة قد انطلقت في الأمة ، وأن موكب التحرير فيها قد أقلع ، وعبثاً يحاول الجلادون تعطيل مسيرته ، أو إعاقته بإطلاق شراذم العبيد عليه ولن تفلح سياط الجلادين ( والبلطجية ) في النيل من كبرياء الأحرار وعزّتهم وشموخهم حتى لو مزًّقت جلودهم ...!!!
ولن يرتدًّ _ بعون الله _ موكب الحرية بعدما حطم السدود ، وأزال الحدود ، ورفع الصخور ، ولم تبق أمامه إلا حفنة من الأشواك ...! إنما هي جولة بعد جولة ، والنصر مع الصبر ، والعاقبة للمتقين ... نعم ... قد تؤخر شراذم الرقيق ، موكب الحرية لبعض الوقت ، وقد تسبب له لكماتهم الخسيسة والجبانة بعض الجروح ، وقد تسيل منه بعض الدماء ، وقد يسقط له بعض الشهداء .!!!
ولكن القافلة تسير ، غير عابئة بنباح الكلاب ، وسيصل الموكب المبارك _ بإذن الله _ إلى برِّ العافية ، وشاطئ الأمان ... (( والله غالبٌ على أمره ، ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون )) صدق الله العظيم .
الدكتور: فواز القاسم / سورية 11 ربيع الأول / 1432 هجري الكاتب: الدكتور: فواز القاسم / سورية التاريخ: 14/02/2011 عدد القراء: 14849
أضف تعليقك على الموضوع
|