إلى المؤمنين الأحرار في الشام:
كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل
قد يكون ظن قابيل حين قتل أخاه هابيل أنه انتصر في تلك المعركة، وقد يكون ظنه أنه ظفر بمطلوبه حين أعدم منافسه فيه، وقد ينظر البعض إلى موقف هابيل بشيء من السلبية معتبراً إياه خَوَراً في العزيمة، وضعفاً عن النزال، ولكن الله تعالى سجَّل لنا أول مشهدٍ من مشاهد الصراع بين ابني آدم تسجيلاً أسفر به وجه الحق وعلا به صوت العدل، واستبان به الوجه الكالح للباطل، وخفت به صوت الظلم بكل جلبه وضجيجه، ليكشف لنا عن المنتصر الحقيقي في هذه المعركة بنفس القدر الذي كشف فيه عن الخاسر الحقيقي فيها، نتأمل هذا المشهد القرآني حيث قال تعالى: (واتلُ عليهم نبأ ابنَي آدم بالحق إذ قرَّبا قُرباناً فتُقُبِّل من أحدهما ولم يُتَقَبَّل مِن الآخر قال لأقتلنَّك قال إنما يتقبل الله من المتقين. لئن بسطت إليَّ يدك لتقتلني ما أنا بباسطٍ يدِي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين. إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين. فطوَّعت له نفسُه قتلَ أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين. فبعث الله غراباً يبحث في الأرض لِيُرِيَه كيف يواري سَوأة أخيه قال يا ويلتَى أعجزتُ أن أكون مثل هذا الغراب فأوارِيَ سوأة أخي فأصبح من النادمين) . نعم؛ هابيل ينافس بتقوى الله في آفاق سامية من القيم والمبادئ الإنسانية، وقابيل ينافس في لعاعةٍ من الدنيا ودركاتٍ سافلة من حظوظ النفس وشهوات الاستعلاء بغير الحق، هابيل يخاف الله فيكف يده عن أخيه الذي همَّ وهدد وبسط يده لقتله، وقابيل تأخذه العزة بالإثم إلى دركات الظلم والخسران المبين، ويصمد هابيل أمام فتنة القتل والإرهاب الظالم، ويتهاوى قابيل إلى حضيضٍ تسمو عنه الغربان حيث يستر بعضها بعضاً حيةً وميتة، في حين ينهش ابن آدم الظالم في جسد ابن آدم المظلوم حياً وميتاً، يروع أمنه ويسفك دمه في الحياة، ويلقي بجسده أرضاً في الممات، ليكون حاله بعد فعلته الأثيمة أضل من حال الغراب، فيا له من انتصار، ويا لها من صولةٍ، ويا لها من رجولة...
وإن من تعاسة ابن آدم الأول الذي اعتدى ظلماً، وقتل أخاه ظلماً، أن حمل وزر كل قتلٍ يأتي بعده؛ قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إلا كان على ابن آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ من دَمِهَا لِأَنَّهُ أَوَّلُ من سَنَّ الْقَتْلَ" ، وكذا حال كل من أحيا هذه السنة السيئة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدىً كان له من الأجر مثل أجور من يتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالةٍ كان عليه من الإثم مثل آثام من يتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً" ، ولن يغني يوم الحساب أحداً كونه تابعاً أو متبوعاً، فلا الظلمة يغنون عن أعوانهم شيئاً، ولا أعوان الظلمة يغنون عن متبوعيهم شيئاً، فقد قال تعالى: (وإذ يتحاجُّون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنَّا كنَّا لكم تبعاً فهل أنتم مُغنون عنا نصيباً من النار. قال الذين استكبروا إنَّا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد) . ويومئذٍ يُقتص للمقتول ظلماً في يومٍ تنصب فيه الموازين بمثاقيل الذر، قال تعالى: (ونضع الموازينَ القسطَ ليوم القيامة فلا تُظلم نفسٌ شيئاً وإن كان مثقال حبةٍ من خردلٍ أتينا بها وكفى بنا حاسبين) ، فليست الدماء التي تسفك في كفة الحق هدراً، كلا، ولكنها آفاقٌ إيمانية يعجز عن فهمها من لم يفهم سوى البطش والفتك لغةً، ومعانٍ لا يستسيغها من استساغ لحوم الناس ودماءهم إداماً...
فإذا عدنا إلى ابني آدم، فلنعلم أن المسألة ليست مسألة قاتلٍ ومقتول، بل هي مسألة حقٍ وباطل، ومسألة عدلٍ وظلم، فإذا علم ذلك، فليس مهماً أن يتحرى الإنسان وصف القاتل أو المقتول مطلقاً، بل المهم أن يتحرى الإنسان صفة الحق والعدل فيما هو مقدمٌ عليه، ولئن كان المتقدم في صولة الحق والباطل هذه يروم إنكار منكرٍ أو أمراً بمعروف، فليعلم أن هذا ما تُرخص لأجله الدماء، فعن طارق بن شهاب أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقد وضع رجله في الغرز: أي الجهاد أفضل؟ قال:" كلمة حقٍ عند سلطان جائر" ، وإنما كان هذا أفضل الجهاد لأن من أقدم عليه غلب على الظن أنه مقتولٌ لا محالة، خلافاً لمن يجاهد في المعركة فإنه قد يغلب أو يقضي شهيداً، ولهذا كان من أقدم على أفضل الجهاد هذا حقيقاً بوصف سيد الشهداء فعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجلٌ قام إلى إمامٍ جائر فأمره ونهاه فقتله" ، أي أمر الحاكمَ بالمعروف ونهاه عن المنكر فقتله الحاكم، وفي هذا السياق نفهم توجيه النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي خالد بن عرفطة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا خالد، إنها ستكون بعدي أحداثٌ وفتنٌ واختلاف، فإن استطعت أن تكون عبد الله المقتول لا القاتل فافعل"، قلت: لا يُرخص المؤمن نفسه ويسلمها إلى الموت إلا وهو ينوي بذلك إحقاق حقٍ أو إبطال باطل، وأدنى درجات ذلك أن لا يكون طرفاً في سفك مزيد من الدماء وفي تأجيج الفتنة بمزيد من الهرج، وهذا هو الفرق بين ميدان المعركة القتالية مع عدو الخارج وميدان الفتن مع عدو الداخل؛ فعدو الخارج سبيله السيف لتيسر جمع الكلمة ضده، وعدو الداخل سبيله البيان والمداراة والتألف لتعذر جمع الكلمة وتعدد الشبهات ووجود التأويل ولعمل المنافقين والكائدين للدين والمجتمع لا سيما الملبِّسين من أصحاب العمائم والأكمام الواسعة، فتأمل هذا الفرق لتدرك أن من أرخص دمه بالكف عن القتال في فتنة الداخل ليس بالخائر ولا الضعيف لأنه إرخاصٌ بالحق في سبيل الحق، وتلك لعمري هي المصابرة، وتلك لعمري هي الشجاعة والبأس.
فإلى كل مؤمنٍ في أرض الشام الغالية: إن الحرية التي ننشد هي الحرية من استعباد بعضنا البعض طلباً للدخول في عز العبودية الله عز وجل، فنحن لسنا شعباً وثنياً أو بوذياً أو ملحداً، ولسنا من مخلفات شعوب الطوطم واللات والعزى، بل نحن شعبٌ يؤمن بالله وحده رباً وإلهاً لا معبود بحقٍ سواه، وفي هذا الإطار نطالب بالحرية التي تليق بمكانة المؤمن الحر، لتكون الحرية التي نطلب جديرةً بإرخاص الدماء لها، ونحن شعبٌ مؤمنٌ يعتز بقرآنه فهو ميزان العدل الذي أقامه الله بين الناس فلا نطلب التحرر من عبودية حكمٍ وضعيٍ ظالمٍ لنعيش في فراغٍ سياسي مظلم، بل نملك مشروعاً سياسياً ربانياً مصدره كتاب الله تعالى الذي يخضع له من آمن به، ويتمتع بحرية الاختيار تحت مظلته من توقف فيه، كما قال تعالى: (إنَّا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضلَّ فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل) ، فنحن لن نعود إلى الوراء مرةً أخرى لنتعثر في تجارب الشيوعية العمياء والرأسمالية الهوجاء فلقد تجرعنا المرارة تلو المرارة جراء السير وراء زبالات أذهان البشر. نعم، إن كان ما يسميه الناس اليوم الديمقراطية ويطلبونها يريدون به الوسيلة لأن يعرض كل من لديه بضاعة بضاعته، فعندنا والله البضاعة الرائجة وعندنا والله ما نفيض به على الدنيا بأسرها خيراً وعدلاً وكرامةً لا لأبناء الشام الحبيبة فحسب بل للدنيا بأسرها. هذه الحرية التي تقيم ميزان العدل إذاً هي القيمة الربانية التي يكون العبد المقتول في سبيلها فائزاً منصوراً بإذن الله، فانطلقوا على بركة الله بنيةٍ صادقة، وعزيمةٍ نافذة، وتوكلٍ صادق، وإيمانٍ كالجبال الرواسي، فأنت حين تنطلق بمسيرتك السلمية محتسباً أعظم المجاهدين، وأنت حين تُقتل في مسيرتك السلمية محتسباً سيد الشهداء...
فالحذر الحذر أيها المحتسبون في هذا الطريق أن تستدرجوا إلى السلاح فليس هذا محله، وإن للسلاح يوماً نطهر فيه جبل الشيخ من رجس بني صهيون، ونزحف به إلى القدس الأسيرة موجهين فوهات بنادقنا إلى نحور أعدائنا لا إلى صدور بعضنا البعض، والعاقل من اتعظ بغيره، لا نريدها ليبيا ثانية يتداعى عليها الأكلة بأكذوبة حماية المدنيين فرج الله عن أهلها، ولا نريدها عراقاً ثانياً ترتع فيه رموز المجوسية الفارسية فتروع أمنه وتهتك عرضه فرج الله عن أهله أيضاً، ولا نريدها خليجاً أمريكياً تنطلق منه الصواريخ التأديبية والعمليات العسكرية الاستباقية حرره الله عاجلاً غير آجل، بل نريدها حركةً ينخرط فيه الشعب الواحد في مشروع: (إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم)، ليقوموا دولة العدل فيردوا المظالم، ويقيموا دولة الكرامة الإنسانية فيشعر كل فردٍ أنه أهلٌ لتلقي الخطاب الرباني، وأنه جديرٌ بمشروع الاستخلاف في الأرض؛ استخلافٌ شعار الكرامة فيه: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً، وشعار العدل فيه: اضرب ابن الأكرمين. ونحن لا ننسى في هذا السياق أن نهمس في آذان نصارى أهل الشام فنقول: نحن نتحرك يوم الجمعة من المساجد باسمنا وباسم كل من ينتمي لهذا الشعب ويتمثل هذه القيم، فأين تحرككم يوم الأحد من الكنائس التي تريدون لأجراسها ما نريد لمآذننا؟
أيها المؤمنون الأحرار في بلاد الشام: لقد صنعتم خيراً حين شيعتم قتلاكم بكلومهم محتسبين إياهم شهداء لله، فلعمر الحق إن ذلك هو الفوز وتلك هي حقيقة الانتصار للروح لا تشوشها نزوة عنف أو شائبة انتصار للجسد، نحسبهم والله حسيبهم، وإن وفاءنا لكم يا طلائع العدل أن نرفد مسيرتكم بكل ما يُسيِّر سفينة النصح التي أبحرتم بها إلى شاطئ الحرية والكرامة لحِق بكم من لحق، وتخلف عنكم من تخلف، وأما القابعون في أقبية التاريخ السوداء يكيدون ويمكرون، فبيننا وبينكم قوله تعالى: (واتلُ عليهم نبأ نوحٍ إذ قال لقومه يا قوم إن كان كَبُر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمرُكم عليكم غُمّة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون) ، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
ختاماً، نعتذر لمن كان مداده الدم بأن مدادنا القلم، ولكنه اصطفاء الله تعالى، وفضل الله يؤتيه من يشاء، وإن اختلاط المدادين هو الذي يصنع هذه الأمة في الوقت الذي يكتب تاريخها، ولولا ذلك لضاعت صفحاتٌ من تاريخ أمتنا ناصعة، أعني ضاعت عن الخلف، أما عند الله تعالى فلا يضيع شيء، فما ضر الشهداء ألا يعرفهم الناس وقد اصطفاهم رب الناس...
وكتب د.وسيم فتح الله الكاتب: د. وسيم فتح الله التاريخ: 12/04/2011 عدد القراء: 15037
أضف تعليقك على الموضوع
|