ثم يبغي بعضهم على بعض ويتولد من الشر مالا يحيط به إلا الله جل وعلا .
وقد تكررت الأسئلة حول هذه الجماعات وما لها وما عليها فرأيت أن أكتب قاعدة جامعة في هذا الشأن مجموعة من أقوال أئمة الدين وعلماء المسلمين , عسى أن ينتفع بها أخواني الشباب المقبلين على طاعة الله جل وعلا .
فأول ما ينبغي على المسلم أن يعرفه في هذا الشأن أن الحق ليس حكرا على أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم , كما قال مجاهد رحمه الله ( المدخل إلى السنن الكبرى ج1/ص107 ) " كل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم " , وقال شيخ الإسلام في ( جامع الرسائل ج1/ص273) " فمن أوجب طاعة أحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما يأمر به وأوجب تصديقه في كل ما يخبر به وأثبت عصمته أو حفظه في كل ما يأمر به ويخبر من الدين فقد جعل فيه من المكافأة لرسول الله والمضاهأة له في خصائص الرسالة بحسب ذلك سواء جعل ذلك المضاهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة أو بعض القرابة أو بعض الأئمة والمشايخ أو الأمراء من الملوك وغيرهم"
وسنة النبي صلى الله عليه وسلم هي الميزان الذي يقاس به الناس ويعرف به المحق من المبطل كما قال علي رضي الله عنه ( تاريخ اليعقوبي ج2/ص210) " إن الحق والباطل لا يعرفان بالناس ولكن اعرف الحق تعرف أهله واعرف الباطل تعرف من أتاه" , وهي الجماعة التي يجب الانتساب إليها ويحرم الشذوذ عنها كما قال ابن مسعود رضي الله عنه ( تاريخ مدينة دمشق ج46/ص409) " الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك "
وحيث أن الكتاب الكريم والسنة المطهرة أمرا بإتباع الأولين من المهاجرين والأنصار فإن منهجهم هو الحق الذي لا تشوبه شائبة , وإجماعهم معصوم من الزلل بشهادة القرآن والسنة
فمن تلقى الدين عن الكتاب والسنة وفق فهم السلف الصالح فهو السني المستحق للحب والمدح والموالاة بحسب ما التزم من السنة , ومن حاد ذات اليمين وذات الشمال عن الكتاب والسنة أو تنكب لطريقة السلف وتنكر لفهمهم فهو المستحق للذم والبغض والمعاداة بحسب ما أتى من ذلك , قال شيخ الإسلام في (المجموع ج3/ص346) " فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة" , وقال رحمه الله في ( الفتاوى الكبرى ج5/ص292) " فأما أن يفرد الإنسان طائفة منتسبة إلى متبوع من الأمة ويسميها أهل الحق ويشعر بأن كل من خالفها في شيء فهو من أهل الباطل فهذا حال أهل الأهواء والبدع كالخوارج والمعتزلة والرافضة وليس هذا من فعل أهل السنة والجماعة فإنهم لا يصفون طائفة بأنها صاحبة الحق مطلقا إلا المؤمنين الذين لا يجتمعون على ضلالة" .
كما ينبغي أن يعلم أن كثيرا من الطوائف والأشخاص من يخلط الحق بالباطل ويكون معه من الحق ما يجب موافقته عليه ومعه من الباطل ما يجب رده عليه , قال شيخ الإسلام في (المجموع ج8/ص37)" وهكذا عامة ما تنازع فيه الناس يكون مع هؤلاء بعض الحق وقد تركوا بعضه وكذلك مع الآخرين ولا يشتبه على الناس الباطل المحض بل لا بد أن يشاب بشيء من الحق فلهذا لا يزالوا مختلفين إلا من رحم ربك فإنهم هم الذين آمنوا بالحق كله وصدقوا كل طائفة فيما قالوه من الحق فهم جاؤوا بالصدق وصدقوا به فلا يختلفون" , وقال رحمه الله في (اقتضاء الصراط ج1/ص38 )" لكن نجد كثيرا من هؤلاء قد يكون القول الباطل الذي مع منازعه فيه حق ما أو معه دليل يقتضي حقا ما فيرد الحق في هذا الأصل كله حتى يبقى هذا مبطلا في البعض كما كان الأول مبطلا في الأصل "
ومن الأصول المهجورة في هذا الزمان تبعض الولاء والبراء بتبعض الهدى والضلال , وهجر هذا الأصل أورث في الناس البغي والعدوان مع الجهل والظلم نسأل الله السلامة , قال شيخ الإسلام في (قاعدة في المحبة ج1/ص134) " وهذه القاعدة قد ذكرناها غير مرة وهي اجتماع الحسنات والسيئات والثواب والعقاب في حق الشخص الواحد كما عليه أهل جماعة المسلمين من جميع الطوائف إلا من شذ عنهم من الخوارج والوعيدية من المعتزلة ونحوهم وغالب المرجئة , فإن هؤلاء ليس للشخص عندهم إلا أن يثاب أو يعاقب محمود من كل وجه أو مذموم من كل وجه وقد بينا فساد هذا في غير هذا الموضع بدلائل كثيرة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة "
كما أن من أعظم البغي والاعتداء الذي يولد الفرقة والشتات عدم إعذار المجتهدين من أهل العلم والسنة , واعتبار كل خطأ يخطأ به المجتهد موجبا للفرقة والهجر والتأثيم والتبكيت , قال شيخ الإسلام في (المجموع ج11/ص15) " ومن جعل كل مجتهد في طاعة اخطأ في بعض الأمور مذموما معيبا ممقوتا فهو مخطئ ضال مبتدع" , وقال رحمه الله في (المجموع ج19/ص191) "وكثير من مجتهدى السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا انه بدعة إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة وإما لآيات فهموا منها ما لم يرد منها وإما لرأى رأوه وفي المسألة نصوص لم تبلغهم" , وقد رسم معاذ بن جبل رضي الله عنه المنهج الحق في التعامل مع زلات أهل العلم بقوله (المدخل إلى السنن الكبرى ج1/ص444 ) " اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال ما هذه ولا يثنينك ذلك عنه فإنه لعله يراجع ويلقى الحق إذا سمعه فإنه على الحق نورا"
ومما تسبب في ترسيخ الفرقة وتعميق الخلاف بين الطوائف المنتسبة للسنة تأول مقالات المخالفين بالظن والهوى من غير رجوع لمناهجهم وعاداتهم في تقرير مرادهم وتحرير أقوالهم , ومثل هذا الصنيع وإن وقع فيه من ينتسب للخير والصلاح فهو من جنس الكذب نسال الله العافية , قال شيخ الإسلام في (درء التعارض ج1/ص12) " وكل تأويل لا يقصد به صاحبه بيان مراد المتكلم وتفسير كلامه بما يعرف به مراده وعلى الوجه الذي به يعرف مراده فصاحبه كاذب على من تأول كلامه"
ومن أسباب الفرقة التعصب للشعارات والرايات الحزبية فلا يكون حب الشخص وبغضه تابعا لمراد الله تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم بل يكون تابعا لحزبه وطائفته بالحق والباطل , قال شيخ الإسلام في (مجموع الفتاوى ج11/ص92)" وأما رأس الحزب فانه رأس الطائفة التى تتحزب أي تصير حزبا فان كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون لهم ما لهم وعليهم ما عليهم وان كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم سواء كان على الحق والباطل فهذا من التفرق الذى ذمه الله تعالى ورسوله فان الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف ونهيا عن التفرقة والاختلاف وأمرا بالتعاون على البر والتقوى ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان " , وقال رحمه الله في (اقتضاء الصراط ج1/ص70)" ومن هذا الباب ما خرجاه في الصحيحين عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا وكان من المهاجرين رجل لعاب فكسع أنصاريا فغضب الأنصاري غضبا شديدا حتى تداعوا وقال الأنصاري : يا للأنصار وقال المهاجري: ياللمهاجرين , فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما بال دعوى الجاهلية, ثم قال : ما شأنهم؟ فأخبروه بكسعة المهاجري للأنصاري , قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم : دعوها فإنها منتنة وقال عبد الله بن أبي ابن سلول: أو قد تداعوا علينا لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل , فقال عمر: ألا نقتل يا رسول الله هذا الخبيث لعبد الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا يتحدث الناس أنه يقتل أصحابه
ورواه مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال اقتتل غلامان غلام من المهاجرين وغلام من الأنصار فنادى المهاجري يا للمهاجرين ونادى الأنصاري يا للأنصار فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا أدعوى الجاهلية ؟ قالوا: لا يا رسول الله إلا أن غلامين اقتتلا فكسع أحدهما الآخر, فقال : لا بأس لينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما إن كان ظالما فلينهه فإنه له نصر وإن كان مظلوما فلينصره .
فهذان الإسمان المهاجرون والأنصار اسمان شرعيان جاء بهما الكتاب والسنة وسماهما الله بهما كما سمانا ( المسلمين من قبل وفي هذا )وانتساب الرجل إلى المهاجرين والأنصار انتساب حسن محمود عند الله وعند رسوله ليس من المباح الذي يقصد به التعريف فقط كالانتساب إلى القبائل والأمصار ولا من المكروه أو المحرم كالانتساب إلى ما يفضي إلى بدعة أو معصية أخرى , ثم مع هذا لما دعا كل واحد منهما طائفة منتصرا بها أنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وسماها دعوى الجاهلية حتى قيل له إن الداعي بها إنما هما غلامان لم يصدر ذلك من الجماعة فأمر بمنع الظالم وإعانة المظلوم ليبين النبي صلى الله عليه وسلم أن المحذور من ذلك إنما هو تعصب الرجل لطائفته , مطلقا فعل أهل الجاهلية فأما نصرها بالحق من غير عدوان فحسن واجب أو مستحب "
ومن أسباب الفرقة أن كثيرا من الجماعات تحتوي أهل الضلال وتسكت عن باطلهم بل وتدافع عنهم وتنصرهم – وإن لم توافقهم على تفاصيل مقالاتهم - مداهنة لهم وتكثرا بهم في الحزب أو الحركة أو التنظيم نسأل الله العفو والعافية , فإذا رد أهل العلم عليهم ضلالهم تعرضوا لسخط هذه الجماعات واتهمهم الناس بتفريق المسلمين مع أن الرد على المبطلين من دعائم الدين قال شيخ الإسلام في (بيان تلبيس الجهمية ج1/ص592) " والمبطلون يعارضون نصوص الكتاب والسنة بأقوالهم وبيان فسادها أحد ركني الحق وأحد المطلوبين فإن هؤلاء لو تركوا نصوص الأنبياء لهدت وكفت ولكن صالوا عليها صول المحاربين لله ولرسوله فإذا دفع صيالهم وبين ضلالهم كان ذلك من أعظم الجهاد في سبيل الله " , وقال رحمه الله في (المجموع ج28/ص231) " ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة فان بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين حتى قيل لأحمد بن حنبل الرجل يصوم ويصلى ويعتكف أحب إليك أو يتكلم فى أهل البدع فقال إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه وإذا تكلم فى أهل البدع فإنما هو للمسلمين هذا أفضل فبين أن نفع هذا عام للمسلمين فى دينهم من جنس الجهاد فى سبيل الله إذ تطهير سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته ودفع بغى هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب فان هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعا وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداء "
وأخيرا : قال ابن القيم في (إعلام الموقعين ج3/ص396) "ولا يوحشنك من قد أقر على نفسه هو وجميع أهل العلم انه ليس من أولى العلم فإذا ظفرت برجل واحد من أولى العلم طالب للدليل محكم له متبع للحق حيث كان وأين كان ومع من كان زالت الوحشة وحصلت الألفة ولو خالفك فإنه يخالفك ويعذرك والجاهل الظالم يخالفك بلا حجة ويكفرك أو يبدعك بلا حجة , وذنبك رغبتك عن طريقته الوخيمة وسيرته الذميمة, فلا تغتر بكثرة هذا الضرب فإن الآلاف المؤلفة منهم لا يعدلون بشخص واحد من أهل العلم , والواحد من أهل العلم يعدل بملء الأرض منهم , واعلم أن الإجماع والحجة والسواد الأعظم هو العالم صاحب الحق وإن كان وحده وإن خالفه أهل الأرض" .
هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين