لبّيكَ اللهمَّ لبّيكَ |
|
لبّيكَ اللهمَّ لبّيكَ
حامد بن عبدالله العلي
دخل اليوم العشر الأُوَل من ذي الحجة التي هي أحبُّ الأيـّام إلى الله تعالى ، وفي الحديث : ( ما من أيام العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام ، يعني أيام العشر ، قالوا : يارسول الله ، ولا الجهاد في سبيل الله ، قال : ولا الجهاد في سبيل الله إلاّ رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء ) رواه البخاري
وذلك لأنَّ فيها تقع أمّهـات العبادات ، وشريعة الحـج ، والحـجُّ إنما هو السيـر على خطى خليل الله إبراهيم عليه السلام ، التي إقتفـى أثـرها خليلُ الله محمد صلى الله عليه وسلم ، $$$
فهو من أول خطوة يخطوها الحاج ، إستجابة لنداء إبراهيم عليه السلام إذ أذَّن في الناس لتهوى أفئدتهم إلى بيت الله الذي بناه ، قال تعالى ( وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كلِّ ضامـر يأتين من كلِّ فج عميق )
قال الإمام ابن كثير رحمه الله : ( فذُكـر أنه قال : يا ربّ كيف أبلغ الناس ، وصوتي لا ينفذهم ؟! فقال : ناد وعلينا البلاغ ، فقام على مقامه ، وقيل على الحجر ، وقيل على الصفا ، وقيل على أبي قبيس ، وقال : يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجُّوه ، فيقال إنّ الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض ، وأسمع من في الأرحام ، والأصلاب ، وأجابه كلُّ شيء سمعه من حجر ، ومدر ، وشجر ، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة : لبيك اللهم لبيك ، هذا مضمون ما ورد عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وغير واحد من السلف ، والله أعلـم ) .
ولما كان الحجُّ هو ترجمة لعمـق الأمـّة الجغرافي ، إذ هـو المؤتمر الوحيد الذي يجتمع فيه أهل التوحيـد من كلّ فـجّ عميق في مكـان واحـد ، ناسب أن يُربـط بعمـق الأمـّة التاريخي ، وهـو خُطى إبراهيم عليه السلام ، أبي الأنبيـاء _ أكثـر الأنبياء _ ليتشكّل من هذين الرابطيـن العظيـمين ، البعـدان الرئيسان لهذه الأمَّة العظيمـة التي بُعثت جامعـةً لميراث كـلِّ الرسالات ، وأُمرت بإكمـال مسيرة الرسل بالجهـاد إلى نهايـة التاريـخ .
وهذا هـو البُعـد الأول ، أمـّا الثاني فهـو أنها أمـَّة ذات رسالة عالميــة ، وهي وحـدها تملك الهدى ، وكلُّ من في الأرض غيـرها على الضلال ، وهي وحدها في النـور ، وغيرها في الظلمـات ، ولهذا قال تعالـى ( أُخـرجت للناس ) أي أخرجت بالعقيدة الهادية للناس جميعا ، لتعلو بها على الأرض جميـعا ، متجاوزة كلَّ الحدود الجغرافيّة ، والعنصريّة ، و القوميّة ، والعرقيّة .. إلخ .
وخليل الله ونبيه إبراهيم بجهاده العظيم ، هـو مفصـل التاريخ الأعظـم ، ذلك أن التاريخ عندنـا يتمحور حول حقب الأنبيـاء فحسب ، وتدور رحاه حول الصراع بين الحقّ الذي جاءت به الأنبياء ، والباطـل الذي مع أعدائهم ، ثم يتكـرر كل عصر في صور شتى ، وحقيقـة واحـدة ، كما قال تعالى : ( كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون ، أتواصوا به بل هم قوم طاغون ).
وبداية هذا الصراع الذي هو حقيقة التاريخ العظمـى ، في حقبـة نوح عليه السلام ، ومفصله الأوسط في حقبة إبراهيم عليه السلام ، وخاتمته ونهاية التاريـخ هي التي نحن فيها ، بل في آخـرها ، وهـي حقبة نبيّنا محمّد عليه الصلاة والسلام ، خاتم النبييّن وسيّد المرسلـين .
فإبراهيم عليه السلام ، هـو مجـدّد الرسالات ، ولهذا يبدأ الله بذكره بعد حقبة نوح والنبيين من بعده ، عندما يذكر موكب الرسالات ، كما قال تعالى : ( إنّاأوحينا إليك ، كما أوحينا إلى نوحٍ والنبييّن من بعده ، وأوحينا إلى ابراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، والأسباط وعيسى ، وأيوب ، ويونس ، وهارون ، وسليمان ، وآتينا داود زبورا )
وقال الحق سبحانه : ( شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحا ، والذي أوحينا إليك ، وما وصّينا به ابراهيم ، وموسى ، وعيسى ، أن أقيموا الدّين ولا تتفرّقوا فيه ، كبر على المشركين ما تدعوهم إليه ، الله يجتبي إليه من يشاء ، ويهدي إليه من ينيب )
ويبدأ الله تعالى بذكره عندما يذكـر الإيمان بما أنزل على الأنبياء ، كما قال تعالى : ( قولوا آمنا بالله ، وما أنزل إلينا ، وما أنزل إلى ابراهيم ، واسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، والأسباط ، وما أوتي موسى ، وعيسى ، وما أوتي النبيون من ربهم ، لا نفرق بين أحد منهم ، ونحن له مسلمون ، فان آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا ، وإن تلوا فإنما هم في شقاق ) .
إذ كان هو عليه السلام أبوهم الأكبـر ، ومعلم الخير الأعظـم قبل محمَّد صلى الله عليه وسلم ، ولهذا قال تعالى معظِّما شأنه ، مبجّـلاً أمره ، منوِّهـا بجاهـه العظيم عند ربـّه : ( إنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، شاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ ، وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ، وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ )
ولهذا كانت رسالة محمّد صلى الله عليه وسلم ، إتباع لملّة إبراهيم عليه السلام كما قال تعالى بعد الآيات السابقات في أواخـر سورة النحـل : ( ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) .
وقال تعالى : ( ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن ، واتبع ملَّة ابراهيم حنيفا واتخذ الله ابراهيم خليلا ) .
وإنما استحق خليل الله إبراهيم عليه السلام كلَّ هذا من الله تعالى ، لأنـّه قام بأربعـة مقامـات هي أعظـم مقامات العبودية لربّ العالمـين :
أحدهـا تحطيمه الجاهلية المتمثلة في عصره بالأصنام ، ومواجهته لقومه الكفـار وحيداً ، متوكـلا على الله وحـده ، وصبـره على ذلك حتى حـرقوه في النـار ، فجعلها الله بردا وسلامـا عليه .
والثاني : جهاده العظيم في مواجهة الطاغيـة النمرود بن كنعان بن كوش ، وكان أحد ملوك الدنيا بأسرها ، فإنه قد ملك الدنيا فيمـا ذكروا أربعة : مؤمنان ، وكافران ، فالمؤمنان ذو القرنين ، وسليمان ، والكافران النمرود ، وبختنصر ، وكان النمرود قد طغى مستمرا في ملكه أربعمائة سنـة ، فواجهـه إبراهيم عليه السلام بالحـقّ وحـده ، حتى قطع حجّـته ، فأذلَّ طغيانـه .
والثالث : قيامه بالتوحيـد الكامل ، بالخضوع التام لطاعة ربه ، حتى أمر بذبح ولده ، فإستجـاب ، وتلَّه للجبين ، ففداه الله بذبح عظيـم ،
ولهذا قال تعالى عنه : ( وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ، وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ، وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ، إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ )
الرابع : براءته من كلِّ من ناقض التوحيد ، حتى تبـرّأ من أبيه لما تبيّن له أنه عدوُّ لله تعالى ، كما قال تعالى : ( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إيَّاهُ فَلَمَا تَبَيَّنَ لَهُ أنَّه عَدُوٌ لله تَبَرَّأَ مِنْهُ إنَّ إبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ ) .
وقد قام بهذه المقامات كلُّها وليس في الأرض موحدا سواه _ وزوجته _ ثم آمن له لوط عليه الســلام ، فأكرمـه الله بالنبـُّوة ببركة دعوة إبراهيـم عليه السـلام ، كما كان خير النبييّن محمد صلى الله عليه وسلم إستجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام.
ذلك أنـَّه كلَّما كان جـاه العابد لله أرفـع عند الله ، كان بركـته على غيـره أعظـم .
ولهذا والله أعلم اختصَّ الله الخليـل برفعه قواعد البيت العتيق ، وأذانه في الناس بالحجِّ ، حتى إذا وصل كلُّ حاج إلى حيث دعاه إبراهيم عليه السلام ، إلى مركـز التوحيـد في الأرض كلٌها ، صلَّى ركعتيـن وراء مقام إبراهيـم ، وقد أبقى الله تعالى أثـرَ قدمـيه الشريفتـين ، أمام الكعبـة ، ليراه كلُّ ملبِّ ، فيتذكَّـر مقامات الخليل عليه السلام ، ويأتسي بحياته المليئة بالجهـاد من أجـل العقيـدة .
فيكتب ذلك كلَّه في ميزان أعمال ذلك النبيِّ العظيم ، الذي كان أمّـة في رجـل ، وأحيا الله به موكـب الرسالة ، وجـدَّد به دين التوحيـد .
وجازاه أعظـم الجزاء على جهاد العظيم ، أن جعـل النبوَّة محصورة في ذريـّته عليه السلام إلى آخـر الزمان ، وآخـرهـم خاتم الأنبياء ، سيد ولد آدم محمّد صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً .
ولهذا فإن الحـاجّ الملبّي لربـّه بالتوحيـد ، ( لبّيك اللهمّ لبّيـك ) الذي يسير على خطى إبراهيم عليه السلام ، حريُّ به أن يتذكَّـر مقاماته العظيمة ، فيقيم بين مناسك الحج ، ومقاصدهـا علاقـة ، كعلاقـة الروح بالجسـد .
فيعلن بتوحيده التمرُّد على جاهلية العصر المتمثلة في كلِّ ما يناقض دين الإسلام ، ويصـدع بمواجهـة طواغيت العصـر الذين طغوا في البلاد ، وأكثـروا فيها الفسـاد ، وتعدوا ذلك إلى إفساد الدين ، وتلبيس الحقِّ بالباطل.
كما يعـلن الإستسلام التـامّ لشريعة الله وحده ، والكفر بما سواها من مناهج ، وشرائع ، وقوانين الجاهليـة .
ويعـزم على الصبـر على هذا الحـقِّ ، ولو كان وحده ، كما كان إبراهيم عليه السلام .
مظهـراً باللسان ، والجوارح ، وبجهـاد النفس ، والمال ، إنتمائـه لركـب المرسلين عبـر التاريخ كلِّه ، إلى محمّد صلى الله عليه وسلم ، متبرّئـا من كلّ أعـدائهـم .
وأنت إذا تأمّلـت مناسك الحج ، وجـدتها كلَّها تدور على هذه المقامات الأربـع ، تؤكِّـدها أصـلاً ، وتفـرِّع عليها كـلَّ تفاصيـل شعائـر الحـج .
ولهذا يرجع الحاجّ بعد حجّه كيوم ولدته أمـُّه ، مكافأة على قيامه بأعظم مقامات العبودية لله تعالى .
غير أنـَّه لما كانت عبادة الحـجّ ، قـد أصابها ما أصـاب غيرها من العبـادات ، من تحوِّلهـا عند كثيـر من المسلمين ، إلى عـادات لايفقهون ما وراءها من المعاني الجليلة ، والمقاصد العظيـمة ، صار على قلوبهـم بين حجّهـم ، وحِكَمِـهِ ، حجابٌ مستـور ، وحجـرٌ محجـور .
وهذا ونسأل الله تعالى أن يثبـِّتنا على ملة إبراهيـم عليه السلام ، ويرزقنا في هذه الأيـام المباركة ، الهدى ، والعمل الصـالح .
ويرزق أمـتنا العـودة إلى دينـها ، والقيام بجهـادها للرجـوع إلى عزهـا.
والله حسبنا ، عليه توكـلنا ، وعليه فليتوكـل المتوكـلون .
الكاتب: حامد بن عبدالله العلي
التاريخ: 06/11/2010