استشـــــــــــراف المستقبـــــــــــــــــل

 

 

استشـــــــــــراف المستقبـــــــــــــــــل ..


حامد بن عبدالله العلــــي
إذا كان اكتشاف الماكينة ، والبارود ، والمطبعة ، والحركات الاجتماعية المدنية التي فجرت طاقات الشعوب بإدماج الدولة بالشعب ، دفع بالعالم الغربي إلى قفزة هائلة أدت إلى تغيير شامل لأنماط الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية .. إلخ ، ثم تتابع تغير المشهد العام لما سمّى : "الحداثة " من المرحلة الجنينية ، فمرحلة النشوء ، فمرحلة الإنطلاق ، هذه المراحل الثلاث التي استمرت من بواكير القرن الخامس عشر حتى عشرينيات القرن العشرين ، ثم أفضى ذلك كله إلى تغيير سريع جدا في شكل العالم الذي عاشه أباؤنا وأجدادنا ، ثم وجد العالم الإسلامي نفسه في طرف العالم .

فإن انفتاح أبواب الثورة التكنلوجية الهائلة ، وتفجّـر ثورة المعلومات والاتصالات ، ومن أهمها وأخطرها انتشار الكمبيوتر الشخصي الذي جعل الحصول على أي معلومات في حالة شيوع لم يسبق له مثيل في التاريخ ، وتداخل وتعقد العلاقات الدولية ، ثم حدوث هذه الظاهرة الغريبة على التاريخ البشري ، وهي تحول الزمان إلى زمان مفتوح لاعلاقة له بالمكان ، وتحول المكان إلى مكان مفتوح ، مما سمح بتفاعلات الحياة البشرية إلى أن تنطلق فجأة إلى أبعد بكثير من نطاق كل مكان على حدة إلى أنماط يدخل فيها أعداد غير محدودة بلا قيود ، وإلى أن ترتبط الأحداث التي ليست في مكان واحد بصورة مذهلة في السرعة والنتائج .

وأخيرا ظهور مبدأ " الشبكة " بديلا عن مبدأ " التدرج الصناعي " ، مما سمح بالتدفق الكوني للتفاعلات بين المحليات والدوليات على جميع الأصعدة إلى حالة تطور تصاعدي بركاني في كل شيء .

إن حــدوث هذا التغير المهول في الحياة بسرعة مدهشة نشهدها ( تقارب الزمان ) ، أسرع بكثير من الحقبة من القرن الخامس عشر حتى عشرينيات القرن العشرين ، يجب أن نتوقف عنده طويلا ، قبل أن نتحدث عن استشراف المستقبل .

ثمة خطان بارزان يسيران جنبا إلى جنب في وسط هذا السير الحثيث ذي الضجيج نحو غاية تبدو مروّعة ، هذا السـير الذي يشبه الجنون الذكي ، أو الذكاء المجنون .


خطان يحاولان أو ـ يحلمان ـ في احتضان هذا المشهد بينهما ، وابتلاعه ، بواسطة نظرية تفكيك "العالم الطرفي" ، وإلحاقه بـ"العالم المركز" ، وتسخير الثورة التكنلوجية ، وثورة المعلومات والاتصالات ، وتداخل العلاقات الدولية ، والانفصال بين الزمـــان والمكان ، لوضع هذه النظريّة موضع التنفيذ في هيكل محكم لم يسبق له مثيل في التاريخ ـ كما غرهم الشيطان ـ ثم جعل التاريخ ينتهي ويقف عند هذه المعادلة ويسري إلى مالا نهاية بها !

ولا نتحدث عنا عن الإلغاء التام لـ"لعالم الطرفي" ، وإنما عن إجباره أن يدور بطريقة ما ـ مع ترك مساحة يختار فيها طريقة سياحته حول المركــــز إن شاء تحت ستار زائف مما يُدعى التعدديـّة ـ في فلك "العالم المركز" .


إن " العالم المركز " الذي فرض نفسه ألـ" العالم المركز" ، عندما استفاد من اختراع الماكنة والبارود والمطبعة .. إلخ ، ثم تطوير هذه بسرعة ، وبناء عالمه عليها ، وقفزه قفزة نوعية أمام بقية العالم ، وجعل بقية العالم ، يلهث وراءه محاولا اللحاق به عاجزا ، لينتقل " العالم المركز " بعد مراحل ( المرحلة الجنينية فالنشوء فالإنطلاق ) إلى مرحلة الصراع من أجل الهيمنة في القرن الماضي.

قــد وجد في هذا العصـــــر أن ما أثمرته تلك الحقبة ،،

من خماسيّة :


ثورة التكنلوجيا السحرية ونطلق عليها سحرية لأنها أشبه بالسحر حتى لقد تطلعت إلى تغيير خلقة الإنسان بالتحكم بجيناته ، وهي التكنلوجيا البيولوجية !


والانفجار السريع المذهل في عالم الإتصالات و المعلومات .


وتقارب العالم .


ومع انفصال الزمان والمكان .


ومفهوم الشبكات .


ستعطيه هذه المرة امتيازا خارجا عن إحصاء التقدير الإنساني ، وإمكانات هائلة ، يمكنه بها ومعها ، ليس من الهيمنة السياسية على العالم فحسب ، بل من وضع بنية واحدة للأسس المنهجيّة للتفكير والعلم والفن والعقيدة العالمية ، تحكم العالم من خلال ذلك الهيكل المحكم الذي يمسك بخيوطه الرئيسة ، وبالتالـــي فإنــها فرصة تاريخية لا يجوز بحال ـ كما يتصور "العالم المركــز" ـ إهمالها .

ولاريب أن قدرا غير قياسي من المكر والدهاء ، ذلك الذي يقف وراء هذا التخطيط الذي لم يقبل بأقل من جعل العالم كله ، والشعوب كلها ، مسرحا له ، مستثمرا التطورات السريعة والمفاجئة ـ بالنسبة لحركة التاريخ ـ في الحياة البشرية ، محولا لها إلى أدوات في مخططه العالمي وأحلامه الكونية .

وقد وصف الله تعالى مكر الأعداء قائلا : ( وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهـم لتزول منه الجبال ، فلاتحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام ) .


وقد ذكر الله تعالى أنه هو الذي يفتح على الإنسان أبواب كلّ شيء ، وهو الذي يُؤتيه ما يُؤتيه من وسائل التمكين ، وهو الذي يمكّنــــه في الأرض فيما شـــــاء ، ( ولقد مكنّاكـم في الأرض وجعلنا لكم فيه معايش قليلا ما تشكرون ) .


وكما قال تعالى ( وكذّب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذّبوا رسلي فكيف كان نكير ) .


وقال ( ولقد مكنّاهم فيما إن مكنّاكم فيه ، وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة ، فما أغني عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء ، إذ كانوا يجحدون بآيات الله ، وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون ) .


ولكنه أخبر أنه يفعل ذلك امتحانا ( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم ، إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم ) ، ثم استدارجا ( فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء ، حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ، فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ) ، ( أيحسبون إنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ) .


أما الخطان فهما :


خط الرأسمالية التي تحولت إلى نظام سياسي واجتماعي وثقافي خطير النتائج ، أعني أنها لم تعد تعني رأس المال : رصيد السلع القابلة للإستهلاك ، أو الآلات ، أو الحقوق المدعاة في الأشياء المادية والتي تأخذ شكل نقود ، بل تعني التوسع الذاتي .


أعني أن التراكمات السابقة لراس المال لم تعد تعني شيئا إلا بقدر ما تستخدم لمراكمة المزيد منها ، وفي النهاية تصب في مصلحة شخصية مادية قاسية ، تبقى ساعية نحو هدف تراكم رأس المال فحسب .


فالفرق المخيف بين الرأسمالية السالفة ، والمعاصرة ، أن النظم الرأسمالية السالفة كانت عملية تراكم رأس المال تكاد تتوقف عند نقطة أو أخرى ، أما اليوم فإن الرأسمالية أصبحت تحوّل كل شيء إلى حالة "سلعية" ، لقد أصبحت قادرة على أن تحول كل شيء إلى طابع سلعي بشكل مخيف جدا ، لقد اصبح التراكم اللانهائي لرأس المال هو الهدف أو القانون الإقتصادي الذي يحكم إقتصاد العالم ، وقد تسارعت في هذا الممر بسبب تسارع ثورة الحياة المعاصرة التي أشرنا إليها بخماسيتها السالفة الذكر ، فقد أدت إلى تغير واسع النطاق في علاقات الحياة الإنسانية .


الخط الثاني : هو خط الحلم الإمبراطوري الذي تقف وراءه اليهودية العالمية ، ولليهود خبرة لا يستهان بها في استثمار ما عند غيرهم من قوة الهيمنة، بل لا يكاد يوجد لهم كيان ـ بعد أن ضرب الله عليهم الذلة ـ إلا بحبل من الناس كما قال تعالى ، ومن ذلك استثمارهم قوة الغير .


وليس بعجب أن يكون الجشع المادي ، والعلوّ الإستكباري العقائدي ، هما المحرك وراء قُوى الشرّ العالميّة ، في كل عصر ، فقد كانا دائما وسيلتي الشيطان ، ولهذا كان القرآن دائم التركيز على هذين ( وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ، ما هذا إلاّ بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ) ، ( إنهم كانوا قبل ذلك مترفين وكانوا يصرون على الحنث العظيم ) ، ولهذا قال تعالى ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لايريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ) ، فالعلو في الأرض هو استكبار الضالين بضلالهم ، ولاريب أن اعظم الفساد هو هذه الرأسمالية المجنونة التي عبّدت الناس تعبيدا للمادة والحياة الدنيا.


ومع أن التحليل المنطقي ـ لأوّل وهلة ـ يسير في اتجاه توقّّع نجاح هذين الخطين في مشروع الهمينة على العالم ، بعد تحويل الثورة الجديدة فيه , والتمكين الهائل للأسباب والسيطرة الذي فتح الله تعالى بها على الإنسان في "العالم المركز " ، وصار فتنة للناس ـ وهو من جملة ما تدل عليه الأحاديث المخبــرة عن انفتاح أبواب الفتن آخر الزمان ما لم يحصل مثل في تاريخ الإنسان ـ تحويل ذلك كلّه إلى وسائل لهذه الهيمنة.


غير أن التحليل المتعمق يعطي نتيجة أخرى معاكسة تماما ، وهي أن هذه الثورة العالمية ـ التكنلوجيــا الساحرة ، والمعلوماتية ، وتقارب العالم ، وانفصال الزمان والمكان ـ ستؤدي إلى إحداث بعثرة لنظرية (العالم المركزـ والعالم الطرفي) ، ولن يكون بمقدور هذه النظرية أن تنجح في تسخير هذه الثورة لها ، بل سينقلب الوضع العالمي انقلابا كبيرا وعجيبا .


فيؤدي ـ أولا ـ إلـــى مرحلة فوضــى ، قد يكون جزءا منها مقصودا من العالم المركز في بادئ الأمر لظنه أنها تخدم مشروعه ، لكنها ما تلبث أن تتحول إلى اضطرابات شديدة الوطأة على البشرية بعامة ، كثيرة الزلازل والفتــــن ، عظيمة الامتحان للمؤمنيـــن ، ثم يعقبها تغيــّر جذري في موازين القوى ، واستقطاب جديد في المشهد العالمــي ، سيكون الإســلام ـ أحد قوى العالم الطرفي ـ فيه قوى عالميـّـة ، وهو النصر الذي بشرنا به دائما .

والسبب أن هذه الثورة التمكينيّة المهولة الفتّانة ، تحمل وجهين متناقضين ، فهي على قدر ما أغرت العالم المركز بأحلامه الكيدية الشيطانية ، فإنها تمد العالم الطرفي من إمكاناتها الهائلة أيضا ، فقد أمدّته بقوة العلم فلم يعد حكراً على العالم المركز ، وأمدته بالقدرة على الإتصال والتلاحم ، والقدرة على اكتشاف أسرار قوة العالم المركز ، والوصول إلى نقاط ضعفه ، ومكنته من الامتداد عبر العالم ، وتجاوز الحدود المعيقة ، والسدود المانعة .


وعجبا لهذه الثورة لقد جمعت بين كونها استدراجا للمستكبر تزلفه إلى نهايته ، وبين كونها سلاحا بيد المستضعف تمكنه من الإنتصار .


أوحت إلى المستكبر أنه قادر على كل شيء ( وظن أهلها أنهم قادرون عليها ) ، وأوحت إلى العالم الطرفي بأنه قادر على تحويل تدبير العالم المركز إلى تدميـر ، وكيده إلى كيد عليه ، ( أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس ) ، كما قال تعالى ( إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا ) ، وأعظم الكيد هو تحويل كيد العدو نفسه إلى سلاح يدمره .


ولكن لاعجب فقد قال تعالى ( وهــم ينهون عنه وينئون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون ) .


وقال ( وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلاّ بأنفسهم وما يشعرون ) .

وقال ( قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم الله من حيث لا يشعرون ) .


وتأمل كيف جعلهم يهلكون أنفسهم بأنفسهم ، ويمكرون هــم بأنفسهم ، وأن الله تعالى يذرهم حتى يُتِّموا بنيانهم الذين به يمكرون ، ثم يجعل نفس بنيانهم يخر عليهم من فوقهم ، من حيث لا يشعرون .

فسبحان الذي يقذف بالحقّ علاّم الغيوب ، الذي بيده الملك كلّه ، وإليه يرجع الأمر كلّه ، علانيته وسره ،،،

 


الكاتب: حامد بن عبدالله العلــــي
التاريخ: 07/12/2006