سبــعُ عبـــَــــر ممــّا غبــــَـــر

 

سبــعُ عبـــَــــر ممــّا غبــــَـــر

حامد بن عبدالله العلــــي

قــد ذم الله تعالى الذين يمرون على آياته الكونية وهم غافلون ، كما قال ( وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنهــا معرضون ) .

وقد كان فيما جرى الأيام الماضية آيات للسائلين ، ما كان حدثا عابــرا ، بل كان والله تصديقا لما في الكتاب ، وعبــرا لأولي الألباب ، فلنذكر من ذلك سبع عبــــر .

الأولى :
ــــــ
تقلب الدنيا بأهلها ، وأنها لا تدوم على حال ، وليتأمل العاقل كيف يجعل ربُّ كل شيء ـ إن شاء سبحأنــه ـ من كان عزيزا مهيبا ، ذليلا وضيعا، كما قال تعالى ( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء ، وتنزع الملك ممن تشاء ، وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ) .

وفي كتب التاريخ : قال عبد الملك بن عمير ، وكان قاضياً على الكوفة بعد الشعبي ‏:‏ كنت عند عبد الملك بن مروان بقصر الكوفة ، حين جيء برأس مصعب بن الزبير فوضع بين يديه فرأني قد ارتعت لذلك ، فقال لي‏:‏ ما لك ، فقلت‏:‏ أعيذك بالله يا أمير المؤمنين، كنت بهذا القصر مع عبيد الله بن زياد فرأيت رأس الحسين بن علي أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ بين يديه في هذا المكان، ثم كنت فيه مع المختار بن أبي عبيد الثقفي ، فرأيت رأس عبيد الله بن زياد بين يديه، ثم كنت فيه مع مصعب بن الزبير هذا فرأيت رأس المختار فيه بين يديه، ثم هذا رأس مصعب بين يديك قال‏:‏ فقام عبد الملك من موضعه وأمر بهدم ذلك الطاق‏.‏

فكم بعد هذه القصة من ملوك بالعراق ، قد ذهب ملكها ، وانتظم في عداد الهلكى سلكها ، وها نحن نرى بأم أعيننا من مثل ذلك ، ما فيه عظــة للمتعظيــن .

ومازالت الدنيا ، تبين سوءتها هذه لبني آدم ، وتظهر حالها للناس ، ولكن أكثرهم لا يعقلون ، فهم يتهافتون عليها تهافت الفراش على النار ، فلا يعتبرون ، ولاهم يذكرون إلا الذين آمنوا وعلموا الصالحات وقليل ماهم .

وإنه لحري بالعاقل أن لا يقيم لها وزنا ، إذ هي لاتزن عند الله جناح بعوضة ، فعلى العاقــل أن يجعلها معبرا إلى الآخرة ، ويبيعها ليشتري جنات عدن ، وأربح التجارة الجهاد في سبيل الله قال تعالى ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهــم الجنة .. الآيات ) .

الثانية :
ــــــــــ

ومن العبر ما نراه من انخداع كثير من الناس بوسائل الإعلام ، وانقيادهم لها بغير وعي ، كأنها ملكت عقولهم ، ولهذا تجد هؤلاء المسحورين ، ينظر أحدهم إلى الصورة التي أعدها المحتل الصليبي ، لتبثها وسائل الإعلام ، ينظر إليها كأنه هو الذي وقع عليها بنفسه ، فوجد الحقيقة كما هي من غير تزييف ولا تحريف ! لا على أنها ما أراد المحتل أن يريه الناس !

والواقع أن المحتل الصليبي الحاقد قد ضمن الصور التي بثها ، رسائل ظاهرة تلتقطها العقول الفارغة الفاغرة فاها لأي خبــر ، وأخرى خفية يلتقطها اللاوعي ، وقد حددها العدو المحتل بدقة وخبث لتؤدي دورها في تشكيل العقول ، والتأثير على النفوس ، وتخدم مشروعه الشيطاني في بناء امبراطورية الصليب المتهودة المتصهينة في العالم.

والمسلم العاقل اللبيب عندما يرى الصور الإعلامية التي يبثها عدوه ، فإنه يقرأ ما فيها من خداع ومكر وكيد عدوه ، ويستفيد من ذلك في إعداد نفسه لمواجهته ، ويوظفها في معركته التي يمثل فيها الحق ، ولا ينظر إليها كالأبله ، أو كأعمى ينقاد للذي يقوده لا يدري أعلى طريق جائر هو ، أم سبيل قاصدة ، ولا ينبغي أن يسمح لها أن تتوغل إلى عقله ، فتلوثه بكيد الكافرين ، ولهذا نبه الله تعالى بعض المؤمنين إذ كانوا سماعين لما يريده العدو بغير وعي منهم لمافي ذلك من الأثــر الخطير على قلوبهم قال تعالى ( وفيكم سماعون لهم ) .

وقد ذكرنا طرفا من رسائل الكيد الذي تضمنتها الصور التي بثها المحتل للرئيس العراق المخلوع جوابا على سؤال منشور في ركن الفتاوى ، وقد كانوا أشد شيء حرصا أن لا يموت عدوهم أو يقتل ، بل يبقى حيا ، ليحولوه إلى مادة إعلامية يسخرونها ، وقد بدءوا بإظهاره في صورة المستسلــم المهين وهو بلحية كثـّة ، ثم وهو أسير ذليل محلوق اللحية ، في "ترميز" خبيث لا يخفى غرضه .

ثم إنهم سيسخرون قضية محاكمته ، لإلحاق مزيد من الهزيمة النفسية إلى أبعد مدى ، ويستفيدون من ذلك فيما أطلقوا عليه " الحرب العالمية على الإرهاب " ويقصدون الإسلام ، ولينفثوا زفرأت من حقدهم إذ باؤوا بالفشل في أفغانستان ، وأبقى الله عليهم من يسوؤهم من قادة الجهاد في الأمة .

ولكن هيهات أن يبلغوا ما أرادوا ، ووشيكا ـ بإذن الله وحوله ـ سيتبين أن هذا الزيف الإعلامي ما هو إلا فقاعات فارغة ، ونصر زائف ، لم يصنع شيئا ، سوى آثار نفسية مؤقتة عابرة ، ذلك أن المخلصين من أبناء الأمة ، على وعي تام أن المعركة أصلا لم تكن بين الغرب الصليبي وبين حزب البعث صنيعته ، بل بين الغرب والإسلام ، فالمعركـة لازالت على حالها ، لم يتغير منها شيء ، وهي باقية إلى آخر الزمان .

فالحرب قــد دارت رحاها قبل مجيئهم للعراق بين عصبة الجهاد أهل التوحيد ، وشياطين الصليب المتهوّد ، وهي لا زالت ، بل عادة جذعة كما بدأت ، فأهل الصليب يُطاردون كما كانوا مطاردين ، وأهل الجهاد بين حسنييهم وسيبقون كذلك ، وإن كانوا يألمون فأعداؤهم أيضا يألمون ، غيـر أن أهـل الجهاد يرجون من الله مالا يرجوه أعداؤهم ، وما فعل الصليبيون بالعراق لا يعدو خسرانا جديدا لهم ، ولتعلمن نبأه بعد حين .


الثالثة :
ــــــــــ

انكشاف حقيقة اللعبة الخبيثة التي تلعبها " مافيا " الصليبية العالمية المتحالفة مع الصهيونية ، وأن زعماء المنطقة قد سُخروا لهذه المافيا تسخيرا ، فهي تلهو بهم كما تلهــو ببيادق الشطرنج ، ذلك أنها تشركهم في جرائمها ، ثم تجعلهم يشهدون مصرع من يتمرد عليها متهمة إياه بأنه مجرم يلقى جزاءه ، بينما هي زعيمة الإجرام العالمي كله ، وإليها يرجع كله ، وهو التي تزرع الإجرام في الأرض ، غير أنها تعاقب من لا يخضع لها ، كما فعلت في حاكم العراق ، لتعطي بقية العبيد بذلك درسا يجعلهم يزدادون انحناء لها وركوعا ، وطاعة وخنوعا ، وكذلك يفعلون .

الرابعة :
ــــــــــ

انكشاف حقيقة أن الشر الأكبر ، بل ينبوع الشرور كلها في هذا العصر ، هــو هذا الغرب الصليبي الصهيوني ، وأن جهود الأمة يجب أن تتوجه لجهاده وكسره ، فقد غدت هذه هي أعظم أولوياتها ، وأكبــر مسؤولياتها التاريخية ، ذلك أن من أخبث وسائل هذه الصليبية الصهيونية الغربية ، أنها تصنع الطغاة بطريق مباشرة أو غير مباشر بدعمهـم وتقويتهم ، وتحركهم لتحقق بهم أطماعها الخبيثة ،حتى إذا قضت بهم حاجتها ، فإما أن ترميهم وتتخلص منهم ، أو تحولهم إلى وقود لعبة جديدة ، كما تلعب هذه الأيام بلعبة محاكمة صدام حسين وتوجهها وتستثمرها إعلاميا لتحقيق أهدافها .

الخامسة :
ــــــــــ

الأحزاب العلمانية العربية التي اتخذت منهج التمرد على خالقها ، والإعراض عن ذكره ، سبيلا لنهضة الأمة ، لا ولن تخرج الأمة من محنتها ، ذلك أنها لا تصمد أمام التحديات الكبيرة ، فسرعان ما يتبين زيفها ، فتتهاوى تحت وتيرة الخيانات التي تهرع إليها قادتها ، عندما يلوح لها بريق الذهب ، وزينة الحياة الدنيا.

إن انتصار الأمة في هذا العصر الذي تداعت فيه الأمم على الإسلام ، لن يكتب إلا لمن باع الدنيا بالآخرة ، لأولئك الذين وصفهم الله تعالى بقوله ( لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ) ، والذين وصفهم بقوله ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوارة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتهم به وذلك هو الفوز العظيم ) .

ذلك أن هذه الأمة أخرجت لتكون أمة الآخرة ، التي بعثت رحمة للعالمين ، فهدفها وسر وجودها هو إنقاذ الناس من عذاب الآخــرة ، بإعلاء كلمة الله تعالى في الأرض ، ونشر النموذج الوحيد الكفيل بتحقيق سعادة الإنسان في حياته الأخرى ، وأما ما يحدث في الدنيا من الآثار الطيبة لهذا الهدف فهي تأتى تبعا لا أصلا ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يخشى على أمته أن تفتح لها الدنيا ، لأن ذلك من شأنه أن يلهيها عن رسالتهــــا الأساسية .

السادسة :
ــــــــــ

وبضدها تتبين الأشياء ، فليتأمل العاقل في ضوء ما ذكرناه ، حال أولئك القادة الأبطال المشردين في رؤوس الجبال ، الذين لم يكن لهم قط قصور يتمتعون فيها بأنواع النعيم ، ولا ملك يعظمهم فيه من يبتغي مــا في أيديهم من حطام الدنيا ، ولا يتمثل لهم الناس قياما كلما دخلوا أو خرجوا أو قاموا أو قعدوا ، ولايعظـم عندهم أهل النفاق على قدر نفاقهم ، كما هو حال تلك الأحزاب العربية التي ملكت آلة الدولة ، عندما أذن لها طواغيت الغرب بذلك ، ليحولوا دولهم إلى أدوات يحركونها حيثما اتجهت أطماعهم لينالوا بها ما كتب لهم من حظوظ الحياة الدنيا ، يتمتعون ويأكلون كما تأكل الإنعام والنار مثوى لهم .

بل أولئك المجاهدون الأبطال ، نمط آخر ، وصنف عال ، وصنعة إلهية ، رجال قد هوت إليهم أفئدة المخلصين من أبناء الأمة لصدقهم وتخلصهم من شوب الدنيا ، وبذلهم مهجهم وأنفسهم ليخلصوا أمتهم من ذلها ، وليبقوا رأسها عزيزا في زمن الاستضعاف ، فقلوبهم معلقة بما عند الله تعالى ، وثــَـمّ أملهم الأكبر في القناديل المعلقة تحت عرش الرحمن ، فبهؤلاء وأمثالهم سينصر الله تعالى هذه الأمة ، بل هي اليوم منصورة بهم ، هم صيحتها صيحة الحق العزيزة في وجه الكفر والطغيان ، وهم نبضها الحقيقي ، ونورها الوضاء ، في وسط هذه الظلم الملدهمة ، وهم الطائفة التي بشـر بها النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنهــا ستبقى مهما اشتدت غربة الإسلام ، تقاتل الكفر وأهله معلنة استمرار بقاء الإسلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وان النصر والعاقبة له لا محالة .

السابعــة:
ـــــــــــ

وأخيرا فإن من أعظــم العبر المستفادة أن أهم واجب على علماء الشريعة اليوم أن يصدعوا بمعارضة الطغيان والاستبداد ، فقد رأينا كيف اتخذه الأعداء ذريعة لاحتلال بلاد الإسلام ، فهذا من شؤم الظلم والاستكبار .

وإنه لمما يثير الأسى حقا أن يقترف بعض المنسوبين إلى علم الشريعة الغراء ، أكبر فرية على دين الله تعالى ، عندما يوظفون توقيع شريعة الله تعالى العظيمة التي نزلت لإخراج العباد من عبادة العباد ، إلى عبادة رب العباد ، ومن الجور والاستبداد ، إلى العدل والهدى والرشاد ، يسخرونه لأنظمة الاستبداد والجــور ، ويقولون للناس :

إن هؤلاء الطغاة المستبدين الظلمة الموالين لأعداءكم ، هم ولاة أمركم فصفقوا لهم ما حييتم ، وأما ظلمهم واستبدادهم فهو قـدر ، قد مضى عليكم بسبب ذنوبكم ، فلا تعترضوا عليـه !

وقد هيئوا بهذه الفرية أكبر ذريعة للتدخل الأجنبي في بلاد الإسلام ، فلا جــرم هم شركاء في وضع الأمة في هذا الموقف المهين .

إن واجب علماء الشريعة اليوم أن يضعوا حدا لاستبداد الأنظمة العربية ، ويطالبوها بإصلاحات سياسية جذرية ، تمنع تكرار مأساة ما حدث في العراق ، وأن يجاهدوا لمنح الشعوب حقوقها ، وحرياتها المشروعة ، وأعظم ذلك أن تحكم بشريعتها وتجاهد أعداءها .

وأن يضعوا حدا لجعل السلطات كلها بيد من لايسئل عما يفعل ! .

وأن يقفوا موقفا شجاعا أمام إرهاب الدولة وجرائمها التي لاتقارن بما يطلقون عليها " إرهابا " هذه الأيام ، لا من جهة الكم ولا الكيف ، وأن يأخذوا على يد العابثين بثروة الأمة ، يستأثرون بها ، ويعبثون بمكتسبات الأمة لمصالحهم الشخصية والعائلية والحزبية .

هذا هو واجب العلماء اليوم : السعي للتغير من داخل الأمة ، تغيير الرأس ليصلح الناس ، فمن رأس العين يأتي الكدر .

لا أن يلقوا باللوم كله على الشعوب المسكينة المقهورة ، والغاضبين من أبناء الأمة المخلصين .

ولا أن يهللوا لاستبداد وظلم الدولة ، وهو قائم على سوقه ، قابض على صولجانــه بالظلم والباطل ، قد غشي ظلمه الصغير والكبير ،والشريف والحقير .

ولا أن يسمحوا لأنفسهم أن يكونوا جزءا من دولة الظلم والاستكبار ، ثم يصيحون علينا في كل "فضائية" بالتنديد " بالإرهاب " ، وهم واقفون على منصة الإجرام والإرهاب الأكبر نفسهــا !!

إن عليهم أن يفيقوا من سباتهم ، ويقوموا بواجبهم في أن يكونوا أول من يحدث التغيير المطلوب فيما هو من أكبر أسباب أزمات أمتنا ، وهم هؤلاء الطغاة الذين أرهبوا الشعوب الإسلامية عقودا طويلة ، وأذلوا رقابها للإرهاب الصليبي الصهيوني العالمي .

لا أن يباركوا لهذا الطغيان حتى يتخذه أعداء الأمة ذريعة لإحتلال بلاد الإسلام .

فمتى يفيقون من سباتهم .



الكاتب: حامد بن عبدالله العلي
التاريخ: 07/12/2006