دُاء الإنهزاميـــــــّة

 

دُاء الإنهزاميـــــــّة

حامد بن عبد الله العلي

من الحقائق المهمّـة في هذا الدين ، أن كلّ جزئيـّة منه ، لها ارتباط بقواعده الكليـّة ، ومحكماته الثابتة ، ذلك أن كل تشريع في الإسلام حتى المندوبات ، بل حتى ما أذن الله في فعله ، وهو المباح ، هو من جهة ، لاينفك عن تعلق بأصل الإيمان بالله تعالى ربا ومعبودا ، لأن امتثاله يعبّر عن الانقياد لحقيقة أن الله تعالى هو وحده الذي يملك حق التشريع للعباد ، لأنه وحده الذي خلقهم ، فلا يستحق العبادة سواه ، والعبادة أصل معناها الحب المقتضي لكمال الخضوع والانقياد ، ولهذا قيل الطاعة دليل المحبة ، كما قال تعالى ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) .

ولهذا صار التنازل عن أي جزئية من الدين ـ والمقصود هنا إلغاؤها أو رفضها ، وليس إتيان المعاصي ـ يعني نقض أصل الدين ، وقد حذر الله تعالى من انتهاج نهج التنازلات لإرضاء المخالفين .

أولا : لما تقدم من أن التنازل عن أي جزء من الدين يقتضي نقض أصله .

وثانيا : لأن هذا النهج طبيعته الذاتيه أنه تسلسل لاينتهي إلاّ إلى هدم الدين كله ، ولهذا جاء في الحديث ( لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة ، فكلما انتقضت عروة ، تشبث الناس بالتي تليها ، فأولهن نقضا الحكم وآخرها الصلاة ) رواه أحمد وابن حبان والحاكم من حديث أبي أمامه رضي الله عنه ، والمقصود أن ذلك يحدث في مواضع وأزمنة معينة لا أن الإسلام يحاط به فلا يبقى له اسم ، بل جاء في الحديث ( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ) رواه أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة .

ولهذا حذّر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ، أن ينصاع لمطالبة المشركين بتقديم التنازلات لهم ، قال تعالى ( ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ، إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا ) ،وقال ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم ، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ) ، وقال ( ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين ، فما منكم من أحد عنه حاجزين ) ، وتأمل قوله ( شيئا قليلا ) ، ( بعض ما أنزل الله إليك ) ، ( بعض الأقاويل ) وما تشعر من الوعيد ، والتحذير الشديد .

ولهذا قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا ) والمقصود : جاهدهم بالوحي ، ومعلوم أن الجهاد هو بذل الوسع والطاقة ، الذي يعارض التنازل ، والتراجع أشد المعارضة ، ولهذا صار الجهاد ذروة سنام الدين ، لان به قوام الدين ، ونصره ، وعزّه.

ومن المهم جدا للحركة الإسلاميّة أن تعي هذه الحقيقة حق الوعي ، فهي وإن لم يصل بها الحال ـ حتى الآن ـ أن ترفض ، أو تلغي شيئا من دين الله تعالى ، غير أن هذا التراجع المستمر أمام ضغط الواقع ، سيأخذ بها إلى منحى خطير جدا .

وقد بدت بوادر خطورة هذا النهج تلوح في الأفق ، ولنضرب على هذا مثالا ، فعندما دهمت العالم الإسلامي مصيبة إقصاء الشريعة ، قاومها العلماء والمفكرون الإسلاميون مقاومة عنيفة ، وجعلوا ارتكاب هذا الجرم الشنيع ، حدا فاصلا بين الكفر والإيمان ، ثم مع استمرار هذا الواقع الأليم ، واعتياد الناس عليه ظهر من يهون أمره ، ثم جاء بعد ذلك من يخرجه من كليات الدين أصلا ، ويقول ليس هو من مباحث العقيدة

ثم جاء من يجيز فعله تحت ذريعة مصلحة الدعوة ، حتى ربما أصبح ـ في بعض البلاد ـ الذين كانوا يأمرون بالحكم بالشريعة ، هم القائمون اليوم على الحكم بغيرها ، من مرتبة الوزير إلى العمل في النيابة والتحقيق !!! ، وسيأتي اليوم الذي يصبح الناهي عما يفعلون ضالاً مبتدعاً ، بل قد أصبح هذا واقعا !!

ومن الأمثلة الحيّة أيضا ، قضية الجهاد ، فقد بدأ أعداء الأمة ، بمحاربة مفهوم الجهاد في الإسلام ، فلما أصغى إليهم بعض المتهوّكين ، فألغوا هذا الركن من الإسلام ، لم يكتف أعداء الأمة منهم بهذا ، بل انتقلوا بهم إلى ما هو أضل سبيلا .

إلى أن يأتي الأعداء أنفسهم ، ليجاهدوا هذه الأمة في عقر دارها ، ثم يدعون أولئك المتنازلين سابقا عن الجهاد ، الذين أرضوا أعداء الأمة بتسمية الجهاد إفسادا ، أن يُفتُــوا المسلمين اليوم ، بأن الجهاد مع أعداء الأمّة ضد هذه الأمّة ، إنما هو امتثال لهذه الشريعة ، ومن يقاوم أولئك الأعداء خارج عن الشريعة ، فليُقتل إذا باسم الشريعة !! فصدق عليهم قوله تعالى ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون ) وقوله : ( فلما زاغوا أزاع الله قلوبهم ) .

ولا تعجبوا من هذا الإرتكاس ، فهذه طبيعة نهج تقديم التنازلات ، ذلك انه اتباع للهوى ، والهوى ما سمي هوى إلا لأنّه يهوى بصاحبه ، ولهذا جعل الله تعالى اتباع ما أنزل ، مقابلا لاتباع الهوى ، كما في الآية السابقة ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم ) وفي قوله تعالى ( ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ) وغيرها من المواضع في القرآن ، ذلك انه كما يرفع الله تعالى العبد باتباع الوحي ، يهوي به هواه بإعراضه عما أنزل الله تعالى ، ولهذا قال تعالى ( ولو شئنا لرفعناه بها ، ولكنه أخلد إلى الارض واتبع هواه ) .

والمقصود أن الحركة الإسلامية في انطلاقتها الأولى كانت تؤمن بأن رسالتها تغيير واقع الأمة ليتلاءم مع رسالتها كما هي ، ثم هي ـ بعضها لا كلها ـ تتجه االيوم تحت ضغط هذا الواقع ، من حيث تشعر أو لا تشعر ، إلى تغيير رسالتها ، بالقضم ، والتنازل التدريجي ، لتتلاءم مع الواقع كما هو ، وإذا استمر الحال على ما هو عليه ، فستنقض عرى الإسلام بأيدي من كانوا دعاته يوما ما !

والعصمة من هذه الفتنة أن نتذكّـر أن الله تعالى أمرنا أن نصبر على اتباع ما أنزل ، وعذرنا إن عجزنا ـ بعد السعي وبذل الجهـد ـ عن تغيير واقع الناس ، ولم يأمرنا أن نفتري على دينه ، لأنّ النّاس لا يقبلونه كما أنزله ، قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) ، وقال : ( وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم ، أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعلمون ) .

وأن نعلم أن الله تعالى علّـق النصر، والعز ، والتمكين ،على التمسك بهذا الدين ، والصبر عليه وقت المحن ، فمن نصره نُصِر ، ومن خذله لم يزده خذلان الدين إلا ذلاّ وهوانــا .

وليتأمل العاقل حال المجاهدين ، كيف أعزهم الله ، لما أعزوا دينه ، وما زالوا ينكون في أعداءهم النكاية العظيمة ، ويرعبونهم أشد الرعب ، وقد أهلك الأعداء أموالهم ، وانفسهم ، واتسع عليهم الخرق من كل جانب ، وأحاطت بهم المصائب ، ليصلوا إلى مبتغاهم السيء في أولئك المجاهدين ، فما زادهم ذلك غير تتبيب ، ذلك أن الله تعالى قال : ( إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) ، والله المستعان ، وهو حسب المؤمنين في كل زمان ومكان وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .


الكاتب: حامد بن عبد الله العلي
التاريخ: 06/12/2006