ليلـة الميعـاد

 

ليلـة الميعـاد
حامد بن عبدالله العلي
 
الأزمنة أوعية الأحداث ، والأحداث العظيمة قـد أعُدَّت لها أزمنتها العظيمة ، وربما سُميت تلك الأحداث بأزمنتها كما يقال يوم بدر ، ويوم حطّين ،
 
ولكلِّ أمّـة أزمنـة تخصُّها ، وإنما جعل الله تعالى هذه الأمـّة أمـّة رسالة السماء ، فمنهاجها هو الكتاب المنزل من السَّماء ، وثقافتها هي الوحي المنزل من السماء ، وعواصمها هي المساجد ، بيوت الإتصال بالسماء ، وأيامها هي أيام السَّماء ، وأحداثها هي أحداث السماء ، ورجالها العظام هم رجال السماء ، أجسادهم  بين الناس و أرواحهـم تطوف حول العرش ، يصبحون ويمسون وهمهم إرضاء من استوى على العرش .
 
وليس من الأزمنـة زمان أكرم على الله تعالى مما خبـَّأه فيما يأتي في الثلث الأخير من زمان رمضان ، وهي أشبه بالثلث الأخير من زمان الليل ، كما الثلث الأخير من زمان الإنسان إذ هو خلاصة إنجازه من نتاج تجاربه .
 
وهي أعظم ليلة في الزمان ، أعطاه الله لهذه الأمَّـة العظيـمة ، وهي على ميعاد معها في العشر الأواخر من رمضان ، وقـد سميت ليلةُ القدر ، لعظم قدرها عند الله تعالى ، وأيُّ فضل أعظـم من أن يختارها الله لينزل فيها كلامه ، ثم يمدحها بذلك قائلا عـزَّ من قائل : ( إنا إنزلناه في ليلة القـدر ) .
 
والفائزون في هذه الليلة ثلاثة أقسام :
 
قسم يدركها فينال فضلها بأجـر العمل المضاعف ألف شهر ، أي كأنه قام ثلاثين ألف ليلة بما فيها من العمل الصالح ، وهذا القسم يُعطَى كما يعطِي الملك عطاء العاملين جميعـا مقابل خدمـتهم .
 
والقسم الثاني : يدركها إدراكاً خاصاً وهم الذين يزيدهم الله تعالى على أجور أعمالهم ألطافا يجدونها في نفوسهم ، وحلاوة يجدونها في قلوبهم ، وقربا من الله تعالى لايعرفون له مثيلا في بقية ليالي المناجاة ، كما يكرم الملك مقرّبيه بأكثر مما يعطي من العطاء العام.
 
والقسم الثالث : هم الذين يدركونها إدراكا أخصّ وهم الذين ـ إضافة إلى ما يناله القسمان السابقـان ـ يُفتح لهم من المكاشفة ما يرون بها آيات هذه الليلة ، كما يُسـر الملك إلى خاصّة خاصّته بمالايطّلع غيـرهم عليه من أسرار الملكـوت.
 
وهؤلاء مؤتمنون على هذه الأسرار ، وإذا حدثوا بها ، أسـرُّوا وهـم في غمـرة أنوار الإخلاص ، وغالبا تُعرف عنهم بعد موتهم ، ولهذا إذا وجدت من يُظهـر مكاشفاته للناس ، فاعلم أنـّه مدّع غير صادق .
 
وليلة القدر هي جائزة الله تعالى الخاصّة للصائمين ، فكما أنَّ لكل مجتهد في الخدمة مكافأة يُخصُّ بهـا ، جعل الله تعالى للصائمين الذين حرموا أنفسهم لذة الشهوات ، وأحيوا ليلهم بتلاوة القرآن ، وأطاعوا ربهم غير معترضين على أمره ، وانقادوا لشريعته مؤثرين رضاه على متع الدنيا ، أعطاهم هذه الجائزة الجزيـلة ، والكنـز العظيم ، وهي مضاعفة عملهم الصالح هذه الليلة حتى يصير أكثر من عمل أعمارهم كلِّها ، وزيادة مغفرة الذنوب ، كما في الحديث ( من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ) .
 
ولهذا جُعلت ليلة القدر في الثلث الأخير من الشهر ، كما تعطى الجوائز في الخواتيـم ، ولم تجعل بعده حتى تقع في زمنه الفاضل على جميع الأزمنـة ، ولتكون الجائزة في الزمن الذي نزل فيه القرآن ، فهي من بركات القرآن العظيم
 
وكأنها ـ من جهة أخرى أيضا والله أعلم ـ إحتفالا بنزول القرآن ، ولهذا يوزع الله تعالى في ليلة هذا الإحتـفال من أفضاله ، وعطائه ، وإكرامه ، وجوائزه ، وهباته ، وحبائه ، ما لايوزع في غيرها ، فيغفر الذنوب ، ويضاعف الثواب ، ويجزل العطاء .
 
ولهذا ـ والله أعلم ـ تتنـزَّل الملائكة في هذا الإحتفال العظيم ، وينزل معها الروح وهـو جبريل الذي نزل بالقرآن ، فهو الذي يقود هذا الإحتفال ، ولهذا عطفه الله عن الملائكة عطف الخاص على العام ، في قوله ( تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كلِّ أمر ) ، فهي الليلة التي تحتفل فيها السماء بنزول القرآن ، فيهبـط عليه السلام وحوله الملائكة فيهـا ، ويبقـون في الأرض حتى يطلع الفجـر .
 
وأحسب ـ والله أعلم ـ أنَّ كلَّ ملك نزل مع آيات الكتاب ، أو نزل بنصر الكتاب ، ينزل تلك الليلة ، ولولا أن يكون الناس أمة واحدة فيؤمنون جميعا ، وتذهب حكمة الإمتحان المبْني على الإيمان بالغيب ، لرأى الناس هذا الإحتفال العظيم ، ولرأوا أنوار السماء تملأ الأرض إبتهاجا بنزول القرآن العظيم .
 
وكأنَّ ملائكة الله تعالى تنزل في الأرض لتسبح الله على إنزاله كلامه العليِّ المقدَّس على أهل الأرض ، مع غناه عنهم ، ووقوع المعاصي منهم ، إنزالـه كلامه الذي هو صفة من صفاته العلية ، من فوق العرش المجيد ، ليهديهـم سبل السـلام ، قـــال تعالى ( يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام )   
 
ولهذا يُلقى في الأرض السلام في هذا الإحتفال العظيم ، قال تعالى ( سلامٌ هي حتَّى مطلعِ الفجر ) ، وهو شعارُ الإسلام الأكبر ، ومنه اشتـقَّ إسم الإسلام ، دين الله تعالى الذي ارتضاه ، وهو دين الأنبيـاء جميعا ، وهو اسم جنةِ عدنٍ التي هي منتهى الإسلام ، وغاية منهجـه .
 
ولهذا شُرع لأهل الإسلام أن يحضروا هذا الإحتفال السماوي العظيم ، بإحـياء هذه الليلة بتلاوة القرآن ، والإتصال بالسمـاء ،  لتتذكـَّر هذه الأمَّة أن رسالتها سماوية ، ترد الناس إلى أصلهم الذي خلق في السماء ، وسكن الجنـَّة ليعود إليها ، وهو آدم عليه السلام ، وتترفَّع عن كلِّ الوشائج السفليّة الأرضيـّة ، و أنَّ ثقافتها موحدة للبشر جميعا في إطار إخوة الإيمان بالله تعالى ، ثقافة منزَّهة عن التعصُّب العرقي ، والتمييز العنصـري .
 
فتُسمع في بيوت الله تعالى وفي أرجاء الأرض كلُّها آياتُ القرآن تُتلى من المؤمنين ، تحفُّهـم ملائكـة السماء التي تملأ الأرض ، إيذانا بأن الرحمة والسلام باقيان في الأرض ما بقي فيها كلام الله تعالى يتلى ، حتى إذا أذن الله تعالى بزوال الأرض والسموات ، رفع أولا كلامه ، فلاتبقى آية في مصحف ، ولا في صدر أحد إلاَّ رفعت ثم تقوم القيامه ، كما جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه بسند صحيح عند الدارمي وغيره .
 
وقد خُبِّئت هذه الليلة العظيمـة ، بين ليالي العشر حتى يشرئبُّ لها العاملون ، ويتشوق إليها المتشوّقون ، ويجتهد في طلبها المجتهـدون ، ذلك أنَّ من طبيعة النفس الإنسانية أنها إلى ما تتوقعه ولا تدري متى هو ألهـف ، وإلى ما تتنظره في كلِّ لحظة أشـوف .
 
ولهذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن هذه الليلة العظيمة الجليلة ( أَتَاكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ ، وَتُغَلُّ فِيهِ مِرَدَةُ الشَّيَاطِينِ ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ )
 
فنسأل الله أن لايحرمنا خيرها ، وأن يرزقنا فضلها ، وأن يستجيب دعاءنا ، وأن يغفر لنا فيها جميع ذنوبنا .
 
آمين

الكاتب: حامد بن عبدالله العلي
التاريخ: 29/07/2013