حقيقة الصـــــراع فـي المشهــد العالمــي

 

حقيقة الصـــــراع فـي المشهــد العالمــي

حامد بن عبدالله العلي

كان الإسلام قبل أكثر بقليل من قرن من الزمان، الحضارة الأولى في النظام الدولي ، ثم بعد أن تدهورت أوضاع الخلافة العثمانية ، جاء عصر الاحتلال الغربي لبلاد الإسلام ، والذي كان هدفه التوسع الاستعماري الذي حمته الرأسمالية البازغة آنذاك ، باحثة عن المواد الخام والأسواق والمواقع الاستراتيجية ، ولم تكن تبالي ـ كعادة الجاهلية ـ بحقوق الشعوب ، وقيم الحق والعدالة .

ولم يمض وقت طويل حتى انسحبت الجيوش الغربية ، تاركة وراءها دولا ليست سوى كيانات صغيرة ، ملحقة به ، أوأخرى محصورة بحدود تقزمها ، أوأخرى مشغولة بصراعها الداخلي ، صراع الأحزاب والسلطة ، ثم جميعها في مواجهة مستمرة للعدو الصهيوني المزروع ليؤدي دور الجماعة الوظيفية للاستعمار ، في وقت كان الغرب منشغلا أيضا إلى حــد مـأ بالحرب الباردة .

وكانت دوائر المكر الغربية آنذاك تخطط لطرح لعبة دولية جديدة ، أطلق عليها (الخطر الأخطر) هو اصطلاح غربي يقصد به خطر الإسلام ، وقد تم إعداد هذا المصطلح لتوظيفه سياسيا ، قبل انتهاء الحرب الباردة، لقد بدء قبل منتصف السبيعينات بعد حرب أكتوبر 1973م .

ثم بعد ذلك جاء حدث ارتفاع أسعار النفط، ثم اغتيال السادات من قبل إسلاميين ، وقيام الثورة الإيرانية ، وأصبح العالم الإسلامي يحدث فيه تغيرات كبيرة ، ولكن بعد انتهـــاء الحرب الباردة ، تم ضخ مصطلــــح ( الخطر الأخضر ) ـ الإسلام ـ وتزخيمه سياسيا بكثافة ، لتحفيز وتعبئة الشعوب الغربية ، للاستعداد لمرحلة مواجهة حضارية مع عدو جديد بعد الخطر الأحمر ، فهناك نظرية سياسية تقول بفائدة وجود عدو دائماً في السياسات الخارجية أو خطر يستوجب الحذر والمواجهة , ولهذه السياسة خلفية فلسفية ، تتمثل في نظرية صراع الحضارات لصموئيل هانتنجتن ، ونهاية التاريخ لفوكاياما ، التي تروج لها بعض الاتجاهات الفكرية .

فإذاً الحقيقة المتصلة بمرحلة ما بعد الحرب الباردة ، تؤكد على أن العالم بدءا من ذلك التاريخ ، بات يُعــدّ ليدخــل في مواجهة تخضع إلى معادلة شاذة ، وغريبة ، حيث يقف في أحد طرفيها القطب الأوحد في الساحة الدولية ، وهو أمريكا ، بينما يقف في الطرف الآخر قوى وجماعات متفرقة ، لاتملك في حقيقة الأمر ، ما يجعلها تهديدا حقيقيا عالميا للقطب الأوحد .

غير أن محاولات جاهدة بذلت عن عمد ، في الدوائر الغربية لاسيما أمريكا، لجعل هذه القوى والجماعات المتناثرة ، تقف في موقع تكون هي القطب الآخر الذي يهدد العالم قطب الشر ، لتكون المقابل للقطب الأوحد الذي يمثل الخير ، (الولايات المتحدة الأميركية).

وعلى أية حال فقد أراد (الملأ) في العالم الغربي أن يصنعوا هذه المعادلة هكذا ، واصبح الإسلام الآن في موقع المواجهة ، لقد صنعوا شيئا ، لامر يريدونه ، وصنع الله بصنيعهم شيئا ، لأمر يريده ، ( ومكروا مكرا ومكرنـا مكرا وهم لا يشعرون، فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين ) .

غير أنـــه لم يكن ذلك من قبل الصدفة حتما ، أعني كون الإسلام يصبح في موقع المواجهة مع الغرب ، بل ذلك مرتبط حتما ، بكون الإسلام له وجود تاريخي وقيمي ، بمضامين حضارية شاملة ومتفوقة ذاتيا وموضوعيا على كل المضامين الحضارية الأخرى ، فهي تسوقه سوقا إلى أن يكون في موقع معادلة الصراع العالمي ، قدره أن يكون كذلك ، ولا يمكنه أن يكون بخلاف ذلك ، ( وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ، ملة أبيكم إبراهيم ، هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم ، وتكونوا شهداء على الناس .. الآية ) .

وجاءت أحداث 11/9 لتكون صفارة انطلاق مشروع المواجهة ، والملأ من العالم الغربي ، طمعوا أن يوظفوا هذه الأحداث ، لتغذي فكرة ( العدو الدائم ) إلى أجل غير مسمى ، لتحقيق أهداف استراتيجية غربية على مستوى النظام العالمي .

وهذه الأهداف وثيقة الصلة بعقائد دينيّة تهيمن على الإدارة الأمريكيّة ، وعلى طائفة لا يستهان بها من المحافظين الجدد الذين يتمتعون بالثقل السياسي للكونغرس الأمريكي ، ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لاإله إلا هو سبحانه عما يشركون ، يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ، هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) .

كما تحقق أيضا مصالح تابعة ، ومن ذلك استفادة الرئيس الأمريكي من( اللون البرتقالي) ـ حالة التأهب ـ في حملته الانتخابية ، وسيستثمر من الآن فصاعدا تضخيم أجواء التوتر العالمي ، وإظهار الولايات المتحدة في مظهر الحاجة إلى الدعم الشعبي لتواصل مسيرتها في الدفاع عن الأمن الداخلي ، وأمن العالم ، ليضخ الوقود لحملته الانتخابية ، كما تأتي أيضا المصالح الشخصية لبقيّة (الملأ) هناك تبعا ، على سبيل المثال ، مصالح شركاتهم النفطية ..إلخ.

والحقيقة أن الحذر والتخوف من الإسلام ، لم يتوقف منذ سقوط الخلافة ، فحتى بعد انتهاء فترة الاستعمار ، لم يكن انسحاب الاحتلال الغربي إلا جزئيا وشكليا ، وتحت وطأة تعدد القطبية في النظام العالمي ، غير أنه قد أنفرجت من ذلك فرجة ، خرجت منها صحوة إسلامية ما لبثت حتى اجتاحت العالم الإسلامي .

ثم لما بلغ الصراع بين القطبين سنامه في فترة الثمانينات الميلاديّة على أرض أفغانستان ، بلغت الصحوة سنام الإسلام بانطلاق الجهاد الأفغاني ،فلبست الصحوة على أرض أفغانستان لامة الحرب ، ولم تكن تملك القدرة على ارتدائها ، لولا تسخير ( آل فرعون ) لتسليح الصحوة ، طمعــا في تجنيدها لصالــح (الملأ) الغربي ، فتمثلت مدرسة جهادية شكلت بعد ذلك قاعــدة الجهاد العالمي ( ليكون لهم عدوا وحزنا ) .

وقد وجد الملأ الغربي نفسه مضطرا أن يواجه الحقيقة المرعبة ، وهي أن فكرة ( العدو الدائم ) التي أرادها لعبة يحتلب بها مطامعه ، تحولت إلى تهديد حقيقي ودائم وخارج عن السيطرة ، وبدل أن تجلب اللعبة المال والثروة ، تحولت إلى محرقة للاقتصاد ( فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ) ، وتحولت إلى مصدر إزعاج بالغ ( إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون ) ، واضطرت الملأ إلى أعلان التأهب الأقصى ( وإنا لجميع حاذرون ) .

وخرجت جنود الملأ من أرض الملذات ، لتضرب في مجاهل الشرق ، تطارد عدوا يراها من حيث لاتراه ، ويسبقها من حيث لاتسبقه ، ويدركها من حيث لا تدركه ، ( فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم ).

وتكبكب (الملأ) بوضع عالمي مرعب ، ملئوا العالم فيه خوفا وفزعا ، وبعد أن وعدوا العالم ، أن يقودوه إلى الأمان ، أغرقوه في فوضى ، ورجعوا به إلى زمن حكومات الاحتلال ، كما احتلوا العراق على سبيل المثال ، وغدوا كل يوم يقمعون شعبه ، ويقتلون منهم من يقتلون .

وانقلب مخططهم العالمي إلى ضده ، وخرج النظام الدولي عن حده ، وعاد مكرهم ، مكرا بهم ، ( قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وآتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ) .

والمشهد العالمي اليوم ، شئنا أم أبينا ، غضبنا أم رضينا ، مواجهة بالغة الخطورة ، حققت فيه القاعدة هدفها الاستراتيجي ، بتحويل المواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية إلى تحدِّ حقيقي لهيمنة الغرب على النظام الدولي ، وهو تحد عالمي كما خططت القاعدة ، لا يعترف بالحدود التي صنعها المستعمر ، بل يتجاوزها لئلا يجهضه حراس الملأ الذين وُضِعوا على تلك الحدود .

ثم المنتمون إلى الفكر الإسلامي تجاه هذا المشهد أصناف :

أحدهما : من هم في بؤرة الصراع ، بل هم أحد طرفيه ، و صانعوه ، بنطقهم بالكتاب المجيد ، أو بحملهـــم الحديد.

الثاني : الذين تحولوا بجهلهم بحقيقة صراع الإسلام مع الجاهلية ، أو بحقيقة المشهد الدولي ، إلى جنود أو أبواق ـ من حيث يشعرون أو لا يشعرون ـ للطرف المواجه للإسلام .

الثالث : الذين لا يدرون عن هذا الصراع شيئا ، من المتصوفة ، والمتفقهة ، والوعاظ ، والقراء ، وأهل الحديث ، فهم في هذا الباب بمنزلة الأميين ، وبعضهم لا يدري ولايدري أنه لا يدري ، وبعضهم كتبت له العافية من البلاء الخاص ، وبقي معه الإيمان المجمل ، فينجو ، وبعضهم يمتحن في الولاء و البراء فيلحق بالصنف الثاني .


الرابع : الذين يظنون أن المواجهة مع الإسلام ليست حتمية ، بل هي في المشهد العالمي ليست مع الإسلام أصلا ، ويقولون : هذا التأزم العالمي ، يمكن تجاوزه بالحوار ، الذي يعتمد على الالتقاء حول المنطلقات الحضارية المشتركة مع ( الملأ) الغربيين ، والواجب دعم و تسويق هذا التوجه ، ليحل محل المروجين للمواجهة ، والإسلام يمكن تأويله بما يخدم الالتقاء ، فلماذا الإصرار على دعوى حتمية المواجهة ، هذا زعمهم .

الخامس : الذين يجدون نصوص الوحي تفرض ـ بصرامة ـ الإيمان بالمواجهة مع الجاهلية ، وأنها ليست مرحلة تاريخيـّة ، بل صراع موضوعي دائم يشكل حقيقة ومسيرة الحياة في هداية القرآن ، ويجدون الواقع يشهد لذلك أيضا ، لكنهم يؤثرون التهرب من قبول تحدي هذه الحقيقة واقعا ، ويتركون موقفهم معلقا ، كالعبارات التي تحتمل عدة معان .

غير أن هذا الصنف الأخير ، سيدفع بهم مع استمرار الصراع إلى أحد الأطراف السابقة لا محالة ، إلا الذين لا يدرون ، ذلك انهم علموا حقيقة ما يجري.

وبعـــــــــــــــــد :

فمن الأهمية بمكان أن يُعلم هذه المواجهة ، لا تنحصر بطائفة مقاتلة ، تنتهي بنهايتها ، ولا تقتصر على أشخاص يقودون تلك الطائفة ، بل مشروع الجهاد الذي يحمل الإسلام ويحوطه ويحميه ، صراط مستمر في الأمة ، يحمله من كل خلف رجاله ، إلى آخر حلقة من حلقات الصراع مع الجاهليّة قرب قيام الساعة ، وفي الحديث ( لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم: تعال صل لنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله هذه الأمة ) رواه مسلم .

اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات وألف بين قلوبهم وأصلح ذات بينهم وانصرهم على عدوك وعدوهم ، اللهم العن كفرة أهل الكتاب الذين يكذبون رسلك ، ويقاتلون أولياءك ، اللهم خالف بين كلمتهم وزلزل أقدامهم وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين آمين
.

الكاتب: حامد بن عبدالله العلي
التاريخ: 06/12/2006