الثـَّورَة المسْتدامَـة !

 

الثـَّورَة المسْتدامَـة !
 
حامد بن عبدالله العلي
 
( قبل عدة سنوات أُجْـريت إحدى التجارب ، طلب فيها العلماء القائمون على التجربة من تلاميذهم ،  التبرع بإرتداء نظارة تعرض الصور مقلوبة ، حيث كانت عدسات تلك النظارات تقلب الشيء المرئـي رأساً على عقب !
 
وفي الأيام القلائل الأولى من التجربة ، كان التلاميذ يتعثّرون في سيرهم ، ويتخبّطون في الأثاث وكأنهم سُكارى ، كان التلاميذ يتخبّطون في المقاعد ، ويسيرون إلى أركان حجرات الدراسة عندما يبدّلون الفصل ، ويسقطون على وجوههم ، ويعانون من وقت عصيب بوجه عام ،
 
ولأنهّم كانوا يعرفون الأشياء على حقيقتها الفعليّة ، فقد رفضت عقولهم هذه البيانات الجديدة ، أو رفضتها في البداية على الأقل ،
 
ثم حدث بعد ذلك شيءٌ غريب ، فبعد بضعة أيام قلائل ، بدأ التلاميذ يقبلـون العالم الزائف المقلوب رأساً على عقب ، على أنـّه عالمٌ واقعي حقيقي !$$$
 
 لقد أصبحت عقولهم معتادة على ذلك التشوُّه ! ولم يعودوا يتساءلون حتى إن كان ما هو بأعلى قد صار بالأسفل والعكس !
 
 وبعد مرور أسبوع واحد فقط ، كانوا يتحركون بصورة طبيعية تماما ، وكان ذلك موضع دهشة الباحثين ، ولذلك مدُّوا التجربة إلى شهر كامل !
 
وكانت النتيجة أنَّ الطلبة قالوا بنهاية الشهر ، إنَّ تلك النظارة لم تعـدّ تسبب لهم مشكلة من أيِّ نوع ، وكان بوسعهم أن يقرؤوا ويكتبوا بصورة طبيعية تماما ،
 
بل إنهم استطاعوا تحديد الأبعاد ، والمسافات بدقـَّة ، والأكثر من ذلك ، أنهم استطاعوا صعود السلم بسرعة تضارع سرعة زملائهم ممن لم يتعرضوا للتجربة !! ) ص 212 تجديد حياتك د. فلييب ماكجرو
 
ليست هذه التجربة الطريفه إلاَّ مثالا حيّا على واقعنا البائس ، على الأقل إلى ما قبل إنقلاب عربة البوعزيزي ، التي إحتفلت تونس بذكراها الأولى قبل أيام .
 
ومع ذلك فهي ـ أعني هذه التجربة ـ لاتزال صالحة إلى حدّ كبير لتكـون مثـالاً مدهشا لمساحة كبيرة من المشهد العام في عالمنا العربي !
 
فلم تُلبس الدكتاتوريات العربية شعوبنا فحسب ، مثـل تلك النظارات التي تقلب كلَّ شيء في الحياة رأسا على عقب ، بل ألبست (نخبـاً) لايحصيهم إلاَّ الله تعالى ، بمن فيهم الناطقون بإسم شريعة الله ليزيّفـوا أحكامها ! والمفكّرون ، و المثقفون ، والإعلاميون .. إلـخ
 
حتـَّى ربما ..لقـد صار يُخيَّـل إليك _ بل هذا هي الحقيقة فعـلاً إلى حدّ كبير _ أنَّ جميع من تراهـم عينـاك حول النظام ، إنـما يرتدون تلك النظارات ، ثـمّ يتحوَّلون إلى وكلاء توزيع لها ، لتلبسهـا شعوبـُنا !
 
 وتراهـم يكدحون الليل والنهار ، وكأنْ ليس لهم هـمُّ ، لا هدف في حياتهم ، إلاَّ أنْ يرى الجميع الحقائـق مقلوبـة ، والواقع مزيفـاً !
 
ثم مع مرور الزمـن يعتاد (هذا الجميع) ،  على (هذه الرؤية المقلوبـة) ، فيجعلون حياتهم تسير وفـق (هذا الواقع المقلوب) ،
 
 ثـم يرغمون أنفسهم على أن تصدِّق أنـَّه ليس مقلوبا ، بل هـو حقيقيُّ تماما ،
 
ثـم .. ليبقى هذا الزيف إلى أجـلٍ غير مسمَّى ، تورِّثه أنظمـة الحكم في بلادنا العربية في الشعوب ، كما تـُورَّث الشعوبُ نفسها من الحاكم لولده ! وذلك إلى مالايعلم أمـده إلاّ الله !
 
أما بالنسبة لي ، فلازلت أرى هذه النظارات العجيبة على الوجوه المسكينة ، أينما تقلَّبـت عيناي الحائرتان المندهشتان مما تـرى ، سيما في خليجنا ، وجزيرتنا العربية !
 
ألا ترون كيف أنَّ المفاهيم الكبرى عندنـا، والتي تتحكَّم في حياتـنا كليَّا تقريبـا ، لاتزال تـُرى مقلوبة تماما :
 
 فالاستبداد في أقبح صوره ، برؤية هذه النظارة ، هـو حِكمة ( طويل العمر ) الذي ما إنْ تنـزل نازلة على الشعوب حتى ( يمسح شاربَه الحكيـم ) وينقذهم ببصيرته !!
 
 وأمَّا الشعب _ في رؤية هذه النظارة _ فكلَّ الشعب ، حتى عباقرته ، ونوابغه ، مهما بلغوا في عبقريّتهم ، ونبوغهـم ، هم في النهاية كالقطعان السائمة ، المحتـاجة دائما إلى حكمـة ( ماسح الشارب ) و( طويل العمر ) ليحلّ لهم المعضلات ، وليرشدهم إلى القرارات الصائبات ،
 
وعليهم أن ينظروا بنظارتهم المقلوبة إلى كلامه غير ما يبدو ظاهرا منه ! وأن يسيِّروا حياتهم على هذا (الغيـر) ، تماما مثل من خضعُوا لتلك التجربة التي ذكرتها في أوَّل المقال !
 
والجميع عليه أن يرى بتلك النظارة ، أنَّ الشعب لاشيء بدون ( مالك القطيع ) فهـو الذي يعطيهـم معيشتهـم ، ويكرمهم بما يملأ بطونهم ، ويقـرَّ عيونهم ، ولهذا أضيف إلى (أذكار) الطعام بعد التجشُّـؤ ، وقبـل رفع المائدة : ( الله يعـزَّه) !!
 
 بل حتى جنسيّتـهم _ وهي مشتقة من كونهم جنسا من أجناس الأحياء البشرية _ فلـ ( ماسح شاربه ) الحقُّ المطلق أن يجـرّدهم منها ، ليصبحوا فجأةّ كائنات بلا وطن _ فوجىء سبعة من المعارضين المعروفين بحبّهـم لوطنهم ، وإخلاصهم ،  في الإمارات بسحـب جنسياتهم قبل أيام !! ـ لأنَّ طويل العمر غضب عليهم ، وقرر أن يجرَّدهم من ( جنسهم ) الذي له الحقُّ وحده أن يعطيه ، ويمنعه من شاء !!
 
وأمَّا المعارضة السياسية التي تحتاجها كلَّ دولة حديثة لتكون العملية السياسية متوازنة ، مثالية الأداء ، كفيلة بنجاح مهماتها ، فهي _ في تلك النظارات _ هـم أهل الفتنة ! ودعاة الفرقـة ! والفئة الضالة ، وداعمو الإرهاب .. إلـخ ! ، أما في ( نظارات ) (المشايخ) فهم : الخوارج المارقة ، والفرق التي في الضلال غارقـة ، الذين يعصون (ولي الأمر) ، ويحرضون العامّة على مخالفة توجيهـات (ماسح شاربه ) ، فهم إلى النار سائرون ، وفي طريق الجحيـم ماضـون  !!
 
وأمّا سرقة ثروة الأمّة ، ونهب خيرات الوطـن ، فتراها تلك النظارات ، تصرفاً سليماً ، وحقـاً لـ( ولي الأمـر) مستقيـماً ، فهذه ( ديرته ) ، وما فيها ( حلاله ) ، والناس ( عياله ) !!
 
وهكذا .. كلَّ شيء انقلـب في حياتـنا السياسية ، بل في الحياة العامة مما له علاقة بنظام الحكم _ وفق تلك النظارات _ رأساً على عقـب ،
 
 واستمرأ الناس هذا الإنقلاب ، فرأوْهُ حقيقيا ، وليس زائفا ، ومع مرور الزمن ، إستحكم خداع النفس هذا ، فبنـوْا حياتهم عليه ، وبدَّلـوا كلَّ شيء ليتوافق معه ، وغيـَّروا حتى دين الله تعالى ليلتئم إليه !
 
وصار العقـلاء الذين لايلبسون تلـك النظارات ،  إذا تحدثوا عن سلطة الشعوب ، كأنما يعتنقـون دين الشياطين !
 
 وإذا تكلَّموُا عن ثروة الأمة في أوطانـها ، وأنها حقُّ خالصٌ لها ، يجب أن تردُّ إليها كاملة ، فكأنما يبتدعـون بدعة الضالين المضلين !
 
وإذا همسوا بحرية الأفراد في نقد السلطة فكأنما ينشرون الزندقة ، ويشيعون الهرطقة ،
 
 وأما إذا فتحوا باب حقوق الأمـّة ، ومحاسبة السلطة المضيِّعة لهـا ، فتلك عندهم ردَّة المرتدين ، المستحقَّة لضرب الرقاب بدين ربِّ العالمين !
 
غير أنَّ هذا العام المنصرم _ أعنـي مع إنطلاقة الثورات العربية_ قد أحدث زلزالا عظيما ، وفجـَّر بركانا هائلا ،
 
 فغـدت على إثـره تلك النظارات المزيفـة تتساقط من العيـون ، فيرى الناس واقع أنظمتهم السياسية مكشوفا على الحقيقـة بلا زيـف ،
 
 وأيقظ هذا الزلـزال قلوبا غلفا ، وفتـح أعينا عميا ، وفتق آذانا صُمَّـا ! وصـار صوت الشريعة الحقة في باب العقيدة السياسية الإسلامية يُعـلن ، وأحكامها المستحقـَّة تُبيـَّن ،
 
فالأمّة هي الأصل ، هي مالكـة أمرها ، وصاحبة حقَّ التصـرُّف بمقدَّرات أوطانها ، وسلطتها هي صاحبة السموّ ، و( طويلة العمر ) تدوم لها مادامت الأمة ، كما شريعتها هي صاحبة السيادة ،
 
والنظام السياسي هي التي تضعـه ، وهو لايعمل إلاَّ بمقتضى تفويضها ، وتحت رقابتها ، فإن حاد عـُزل ، وإن استبدّ استُبدِل .
 
 وانطـلق قطـار التغييـر ، بادئـا بإصلاح الفكر ، وإشاعة المفاهيم الحقـَّة ، وإزاحـة ما ران على الفكـر ، والعقـول ، من زيف عشعش عليها عقوداً طويلة ، حتى نسج خيوط العنـكبوت ، تعيش فيه أجيال وتمـوت !
 
غير أنَّ هذه التغيير الكبير الذي انطـلق في أمتنا مبشرا بالربيع العربي ، بحاجة إلى يستمـر فلا يتوقف ركضه ، وأن يستديم فلا يبطؤ سيـرُه .
 
فليست الأمة بحاجة إلى شيء اليوم ، أعظـم من ثورة مستدامة ، تبقى جذوتها متقدّة ، وشعلتها حيـَّة ، والأيدي عليها متَّحدة ، حتى يتمّ تطهيـر كلَّ ما تراكم من الزيف ، والأكاذيب ، في نفوس ، وعقول ، وفكر شعوبنا العربية .
 
بحيث ينشأ نشـؤٌ جديد ، تصبح فيه هذه المعادلة : ( تحريـر الفـرد ، وتكريم الإنسان ، وتقديس العدالة ، وإخضاع السلطة لها قبل المجتـمع ، وجعـل الأمّة هي مالكة أمرها ، وأوطانها ، وثرواتها ، وهـي تضع سلطتها ، وتحاسبها ) ، تصبح من بدهيات الفكر ، ومسلمات الحيـاة ، والبنية التحتية الراسخة في جميع بلادنا العربية ، حتى تدرس في مدارسنا ، وتخطب على منابرنا ، وتقام عليها أسس حياتِنـا .
 
ولن تنجـح ثوراتنا العربية وتستمر ، حتى نصل إلى هذا الهدف ، ويصبح كلُّ ما مضى قبله من الزيـف في حياتنا السياسية ، والثقافية ، والإجتماعية في ظل الإستبداد ، يصبح ماضياً كئيبا ، نلعنـه كلما ذكرناه ، كما نلعن إبليس اللعين .
 
فيا أيها المفكرون والدعاة ، ويا أيها القادة ، والأنصار الأباة ، جددوا الهمّة ، إلى بـلوغ القمـّة ، واستمـروا في بثِّ حماس الثورة في الأمـّة .
 
والله حسبنا عليه توكلنا ، وعليه فلتوكـّل المتوكّـلون .
 

الكاتب: حامد بن عبدالله العلي
التاريخ: 22/12/2011