خواطـر في أنماط التفكيــر

 

خواطـر في أنماط التفكيــر
 
،
حامد بن عبدالله العلي
،
الفكـر هو جوهـر الإنسان ، وقـد تفكرت في أنماط التفكيـر عند الناس فوجـدت العجـب :  
 
فمن الناس من يقصر تفكيره على ما يحقّقه في يومه ، ومنهم من يقصر تفكيره على ما يحققّه لنفسه في عمره ، ومنهم يمتـد فكره إلى مـا يريد أن يعطيه للجيـل ، وأعظمهم من تعلّقت همّته بعطـاءٍ لأمـّته ، وهؤلاء هم أعظم الناس عقـلا ، وهم الخلَّص الأئمة ،
 
أمـّا الذين اصطفاهم الله تعالى فوق الناس جميعـا ، فعطاؤهم للبشريـّة جمعـاء ،  كإبراهيم ونبّينا صلى الله عليهما وسلّم ، ولهذا كانت أعظم قمة في التاريخ ، تلك التي جمعتهمـا في علوّ السـماء في ليلة المعـراج ، وكان موضوعها :  الهدف الأسمى من الوجود ، الفوزُ بالقـرب من الله تعالى ، قال ابراهيم عليه السلام لنبينا صلى الله عليه وسلم : ( أ قرأ أمتك مني السلام ، وأخبرهم أن الجنة قيعان ، وأن غراسها ، سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ،والله أكبر ) .
 
ومن الناس من فكره في دنياه لايريد سواها ، ومنهـم من يفكّر في دنياه وآخرته ، ومنهم من استحوذ على فكره حياة الخلود فكلّ ما سواها من أمر الدنيا ساقط من عينه بالكليـّة ، وهؤلاء هم أتمّ الناس عقـلا ، وأكملهم لبـّا ، وأكمل منهم من استولى على تفكيـره أن يكون أقـرب الناس إلى الله تعالى في الدنيا والآخـرة ، لايسـبقه أحـد إلى هذه المنـزلة ، وهؤلاء هم صفوة الصفوة .
 
ومن جهة أخرى من العاملين من همُّ فكره النهوض بنفسِهِ لايريدُ سوى ذلك ، ومنهم من يكدح لتعلو جماعتُه أو حزبه ، يشحُّ بعطاء فكره عمَّا وراء ذلك ، ومنهم من يبذل فكـره لكلَّ أمـته ، يريد نهضتها ، ولا يبالي إنْ جهـل مكانُه ،  أو لم يزدد الإنتماء إلى جهةٍ ينتمي إليها  ، فسعادته إذا علم أن أمـّته انتفعت به ،  وهذا هو نمط تفكير القادة المخلصين.$$$
 
ومن جهـة أخرى أيضا ، من الناس من إذا وقع في مشكلة ، ينشغل فكره فيها فيغرق في تفاصيلها حتّى يقعـد ملوما محسورا ، ومنهـم من يستوعبها بسرعه ، ويسرع فكره إلى حلّها وهذا هو الذكيّ ، وأذكى منه الذي يبحث عن حلّ منهجي لها ولكلّ ما يشابهها لينتفع بذلك الناس ، والأعقل منهم جميعا الذي يزيد على ذلك فيستنبط من المشكلات جوانبها المفيدة ، فإنَّ في خفايا كلّ مشكلة كنوز من الفـوائد ولكن أكثـر الناس لايعلمون ، ألم يقل الله تعالى فيما هو من أعظم الإفك ( لاتحسبوه شرّاً لكم بل هو خيرٌ لكم ) .
 
ومن جهـة أيضا ، وجـدت أن أكثر الناس ، من بلادة عقولهم ،  لايحبون التفكـير المفيد ، وفوق هؤلاء من يقصر فكره على من يختاره ليفكَّر بالنيابة عنه ! ولهذا وذاك  ضلَّ أكثر من في الأرض عن الهدى الواضـح البيـّن ، بل بعض هؤلاء الرعـاع كأنه يشعر بالألم إذا فكـّر ، أمـا خاصة العقلاء فبعكسهم تماما ، فراحـة أحـدهم  إذا أصابـه الألـم من شدّة التفكـير فيما ينفـع ، وإذا بقي ساعة بلا فكـرة نافعـة شعـر بتفاهته ،  وهؤلاء هم مفاتيح التغيير في التاريخ .
 
وأيضـا وجـدت أن أعظـم أسباب السعادة ، جعلها الله تعالى لاتحتاج إلاّ إلى قليل من التفكيـر السليم ، وذلك رحمة من الله بعباده ، فكما جعل ما لا تقوم الحياة الدنيا إلاّ بـه مبذولا لكلِّ أحـد كالهواء والماء ، جعل معرفة التوحيـد ، والنبوة ، والمعاد ، أسهـل شيء في إعمال الفكر للإستدلال عليه ، ولهذا جعل الله تعالى الدلالة على وجوده ،  ووحدانيته ، في الآفاق ،  وفي النفس ، أوضح الدلالات ، وأبينها ، فكلّ شيء في الإنسان ، وحوله ، دليل على هذا الحقيقة الباهرة ، ثـم جعلها هي دليلا ساطعا على النبوة ، فالمعـاد .
 
ولهذا جاء في القرآن أنَّ قادة الضلال جاحدون بعلم ، لامكذبّون بجهـل ،  حتّى فرعون نفسه ،  كما قال تعالـــى عنه وحاشيته : ( وجحدوا به واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ) ، وذلك أنهّم مـا صاروا رؤوس الناس إلاّ لمـا فيهم من الذكاء ، فكيف تخفى عليهم شمس الحقّ المبين .
 
ووجـدت أنَّ من خالط أهل التفكير السليم ، أصابوه بالعـدوى بهذه الخاصية ، فيترقّى حينئـذٍ فكـرُه على قـدر استعداده ، ومن خالط أهـل البلاده أصابته هذه العدوى أيضا .
 
كما أنّ إدامة استعمال الفكـر ينمّيه فيكبـر ، وينضـج ، ويؤتي أكله ، وترك استعمال التفكيـر ، يضعف الفكـر فيغدو بطيئا ثقيلا ، ولهذا تجد العساكر في جيوش الطغاة أضعف الناس تفكيرا ، كما أريد لهم ذلك ، كما ترى عكسهم المجاهدين على بصـيرة من ربهـم .
 
ووجـدت أنَّ من الناس من يتكلَّم ولا يفكَّر ، ومنهــم من يتكـلم أكثر مما يفكر ، ومنهم من يفكّـر أكثر مما يتكلم ، وأكملهم الذي يجعـل إنجاز فكره يتكـلَّم .
 
كما أنَّ أكمل الناس عقـلا ، هـو الذي يعمل عقله دائمـا في الأفكار الكبيرة الجامعـة ، وأدنى منه منزلة الذي يدور فكره حول شخصيـّات يعجب بها ، وأضعف الناس فكرا أولئك الذين يقف فكرهم عند أحداث مجردة ، تأتي وتمـضي ، فتمضى أفكارهم معها .
 
ووجـدت أنّ أكثـر الناس معكوسون في تفكيـرهم ،
 
 ولهذا إذا سألت أكثرهم ما أكثـر ما تخافه ، فسيقول لك :  الموت ، ثم الموت هو أكثر ما ينساه !
 
وإذا سألت أكثرهـم ما أغلـى شيء عندك ، فسيقول لك : العمر ، ثم العمر هـو أكثر ما يضيـّعه ، حتـى يقول أحدهـم : تعالوا نقتـل الوقـت ، وما هـو إلاّ عمـره الذي هو قاتـله  !
 
وإذا سألت أكثـرهم ما هو جوهـرك ، فسيقول لك : العقل ، ثم إنّ تنميـته العـقل بالمعـرفة هو أكثر ما يهمـله.
 
وإذا سألت أكثـر الخـلق ما هو سبب وجودك في الكون ، فسيقول لك : لا أدري!
مع أنه أعظـم سؤال ينبغي أن يدريه !
 
وهذا كلُّه يدل على :
 
أن الشيطان هـو الذي يحول بين الإنسان وبين أن يستعـمل فكره في أمـور من البدهيات والمسلّمات الواضحـة ، ولو استعمل فكره فيها لنجـا ، وذلك حتى يمضـي عمره بلا فائدة .
 
ووجـدت أنَّ الإنسان قد يكون ذكيا جداً في ناحية ، وغبيا جداً في ناحية ، ولا أدلّ على ذلك من الغـربييّن ، فإنهم أذكى الناس في اختراع الآلات والأنظمة ، ثـمّ هـم أغبى الناس ،  وأجهلهم ، وأضلّهم ، في أمور من الهدى مركوزة في الفطرة ، وتأمّـل كيف احتاروا في معنى الأسرة ، حتى سنّت بعض دولهم قوانين تعتـرف بأسـرة بين ذكريـْن ، أو أنثييْن !
 
وتأمّل كيف ضلّوا عن اختلاف الـرجل عن المـرأة ، فزعموا تساويهما !
 
وهذا مثالان لما لايضـل عن المعرفة فيهما ، إلاّ أغبـى الناس، بل حتى الأنعام تهتدي إلى معرفتها.
 
وأما ما وجدته في الحياة ، فأمور عجيبة جدا ، حتى وجـدت بعض المختصّين في علوم دقيقة ، تواجـهه مشكلة أسريـّة سهلة فيعجـز عن حلّها كأنه أغبـى الناس، ولا تحتاج سوى إلـى قليل من الذكـاء .
 
ووجـدت أنَّ الإستكـبار يعطّل التفكيـر عند الأذكيـاء ، ولا أدلّ على هذا من غباء فرعون لمّـا دخـل البحـر ، وراء موسى عليه السلام ، وقومـه ، وقد رآه بأمّ عينيه أنـّه هو الذي شـقّ البحـر !
ومن الأمثلة الواضحة ضلال أهل الكلام عن هدْى أهل السنة في أبواب العقيدة ، لأنّ أهل الكلام استكبروا أن ينقادوا للوحي انقيادا تامـاً ، فوقعت منهم آراء غبية جدا في أبواب الإعتقاد .
 
ولهذا أمر الله تعالى بالشورى ، فهو مبني على التواضع ، وأنَّ العقـول المتواضعه لبعضها تتعلّم من بعضها ، فينتج من مجموعها الخير والنفع للأمة ، والإستبداد يحرم الأمَّة من هذا الخيـر ، ويقتل التفكيـر المفيد ، فتمـوت الأمّـة ، ولهذا كان الإستبداد أعـظم الأدواء التي هوت بأمتنا عن أمجادهـا.
 
ووجـدت أنّ نهوض الأمـم بقدر عنايتها بالتفكيـر السلـيم في شعوبها ، وتعظيمها أمـرَ مفكريها ، وإمدادهم بما يحتاجونـه من الحرية ليبدعـوا ،
 
 وبقـدر ما تخيـف السلـطة المفكِّرين ، وتضـع عليهم أغلال الرقابة والترهيب ، تتخـلَّف الأمـّة وراء الأمم ، ولهذا صارت أمّتنا اليوم متخلّفة ،  ضعيـفة ، لا أبداع فيها إلاّ قليـلا ، ذلك أنـّه لـم تعـُد للفكـر تلك القيمة ، التي كانت يوم سادت حضارتنا العـالم .
 
ووجـدت أنَّ الفكـر في معاني القـرآن ، وما دلَّ عليه من الهدى ودين الحـق ، والانقياد له ، أعـظم ما ينـير العقـل الإنساني ويزكيه على الإطـلاق .
 
ووجـدت أنَّ الفكرة الصحيحة ، ثمرة للنية الصالحة الصحيحة ، فمن علم الله من قلبه نية الخيـر وإخلاص العمل لله ، هداه إلى الفكـرة الصائبة ، وبارك الله له فيها.
 
ووجـدت أنَّ أنجـح الفكـر هـو في الفكر في البناء ، وأفشله الفكر في هدم ما يبنيه الآخرون ، والناس بين هذا وهذا ، مستقـل ومستـكثر .
 
هذا ونسأل الله تعالى أن ينيـر أفكارنا ، ويرزقنا فيها الهدى ، والسداد ، كما قال في الحديث القدسي : ( كلكم ضالّ إلاّ من هديته فاستهدوني أهدكم ) ، اللهم اهدنا فيمن هـديت آمين

الكاتب: حامد بن عبدالله العلي
التاريخ: 02/12/2007