حكاية المناظرة 2ـ حكاية المناظرة 3

 

حكايـــــة المناظــــرة (2ـ3) الحلقة الثانية

حامد بن عبدالله العلي

ملاحظة مهمة : نرجو من القراء الكرام أن لايعجلوا علينا ، فلا بد لنا من أن نفسح المجال لكل طرف ليأتي بكل حججه ، بلا ظلم ولا شطط ، ثم نختم بالقول الفصل بتوفيق الله تعالى ،،،،،،،،،،،

تتمة الحكاية :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فلما قضى خطيب الطائفة التي تكفر محكمة القوانين قوله .

قال القاضي : فليقم من الطائفة الاخرى خطيبهم ، ولينصر قولهم ، وليحسن الجواب ، وليتـأدب فـــي الخطــــاب .

فقام خطيبهم فقال : جميع ما احتججتم به أيتها الطائفة التي تكفر محكمة القوانين مطلقا حق ، وعلى الرأس والعين ، غير أنها محمولة على المستحلين ، دون غيرهم ، فمن استحل التحاكم إلى غير الله تعالى ، وأجاز لنفسه الخروج عن شريعته سبحانه ولو في شيء يسير ، واعتقد أنه غير ملزم باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به ، ورأى أن لـه أن يتحاكم إلى شريعة أخرى أو هواه ، ولو خالف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فهو كافر خارج عن ملة الإسلام ، وهو متخذ ذلك الذي استحل التحاكم إليــه من دون الله طاغوتا ، وربا ، وشريكا مع الله .

كما ذكر الله تعالى في كتابه الحكيم ، وهذا إجماع بين المسلمين ، ونحن نستصحب هذا الإجماع ، ونبقى عليه ، ونقول عن موضع النزاع ـ وهم حكم غير المستحلين من محكمة القوانين ـ لا ينقلنا عن ذلك الإجماع المتيقن إلا دليل قاطع ، وما ذكرتموه من الأدلة ، لاينفك عن احتمال إرادة المستحل دون سواه ، والباب في التكفير ، وهو باب خطير ، والسلامة لا يعدلها شيء ، وقد ورد في الحديث ( لا يرمي رجل رجلا بالفسق أو الكفر إلا ارتدت عليه ، إن لم يكن صاحبه كذلك ) رواه البخاري .

ومضى قائلهــم : ولهذا نقول : أما من يحكم بغير ما أنزل الله لشهوة ، أو إرادة حظوظ الدنيا من حصول رئاسة ، أو بقاء على ملك ، لا تتوفر معه ملذات الدنيا وحطامها إذا التزم الحكم بما أنزل الله تعالى ، فآثر هذه الملذات على تلك الطاعات ، كما يفعل سائر العصاة ، فهو من جملة الفساق والظالمين لانفسهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهم تحت المشيئة الإلهية ، إن شاء الله عذبهم ، وإن شاء عفا عنهم ، إن كانوا مقرين بما أنزل الله من أحكام ، معترفين بما يفعلونه من الآثام .

قالوا : وأما قوله تعالى ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) فنعم ما ذكرتم من تفسير ، لو لم يأت في تفسيرها عن السلف الماضين من الصحابة المرضيين ، والتابعين ، ما يخالفه ، كما روى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما وابن طاوس وعطاء وغيرهم أنهم قالوا : كفر دون كفر ، وفسق دون فسق ، وظلم دون ظلم ، أي ليس بالكفر الذي ينقل عن الملة ، لكن هو مثل قوله صلى الله عليه وسلم ( قتال المسلم كفر ) ونحو ذلك .

وقد يطلق على المعاصي التي هي دون الكفر الأكبر ، وصف الكفر على معنى الكفر الأصغر ، أي شعبة من شعب الكفر ، وقد يكون في المسلم شعبة من شعب الكفر ، ولا يكون كافرا الكفر الأكبر ، حتى يستجمع خصاله التي توجبه ، والقوم ـ أي السلف ـ أعلم بتأويل كتاب الله تعالى ، وكل خير في اتباع من سلف ، وكل شر في ابتداع من خلف .

قالوا : وأيضا فإن العلة المانعة من تكفير الحاكم الملتزم أحكام الشرع في الظاهر ، وقد أقام مجلس حكمه على أساس التحاكم إلى شريعة الله ، والذي أنتم أيها الطائفة الأخرى لا تكفرونه ، وإن خالف حكم الله طمعا في رشوة أو انتصارا لعصبة ، أو إرضاء لسلطان ، العلة المانعة هي انه غير مستحل لهذا الذنب ، مع أنه قد حكم بغير ما أنزل الله ، فما بالكم أنكرتم هذه العلة ، وقضيتم بخلافها ، مع تحققها في صورة الذي يقضي بالقانون جملة وهو غير مستحل ؟

أفرأيتم لو كان الأول ـ الذي أقام مجلس حكمه على الشريعة ـ يقضي فيما لا يحصى من القضايا كل يوم بالظلم حكما بغير ما أنزل الله ، فهل تحكمون عليه بالكفر ؟ ومتى يتحقق عليه هذا الحكم ؟ وبعد كم قضية ؟ فما تذكرونه من قيود تحكم لادليل عليه ، وإن تركتم الحكم عليه بالكفر الأكبر جملة إلا بالاستحلال مع كثرة وقوع ذلك الذنب منه ، فما بال الحاكم بالقانون إذا لم يستحل حكم عليه بالكفر إذن ! مع أنه كذلك يكثر عنه الحكم بغير ما أنزل الله وهو لا يستحله ، فما الفرق بينهمــا ؟!

قالوا : وأيضا فما بالكم فرقتم بين النصوص التي ورد فيها إطلاق الكفر على المعاصي دون الكفر الأكبر ، مثل قتل المسلم ، والفخر بالاحساب ، والطعن في الأنساب ، وانتفـاء الرجل من أبيه ، وتوليه غير مواليه ، وإتيان الكاهن و العراف من غير تصديق ، والحلف بغير الله من غير تعظيم ، فقلتم في هذا كله : إنه كفر أصغر ، فلما جاءت هذه النصوص في الحاكم بغير ما أنزل الله ، قلتم هي في الكفر الأكبر ؟!

وما الدليل على هذا التفريق ؟ وهلا جعلتم هذه النصوص بابا واحدا ، وقلتم من استحل هذه الذنوب كفر كفرا أكبر ، ومن لم يستحلها فكفره أصغر .

قالوا : أما نحن فالباب عندنا منتظم لاتناقض فيه ، لا نحكم بالكفر الأكبر على من ورد فيه مثل هذه النصوص ، إلا بالاستحلال .

وعلى أية حال ، فالدليل إذا تطرق إليه الاحتمال ، بطل به الاستدلال ، فهذه النصوص غايتها أنها تحتمل إرادة الكفر الأكبر ، و الأصغر ، والأصل في أهل الشهادتين الإسلام ، ولا يحكم عليهم بخلافه ، إلا بدليل قاطع ، والنصوص المحتملة لاتفي بذلك ، واليقين لا يزول بالشك .

قالوا : وقد اشتهر عن السلف قولهم : ( لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب مالم يستحله ) ، وارتضاها الإمام الطحاوي في عقيدته ، التي ارتضاها الأئمة والعلماء ، في سائر الأقطار والأنحاء ، فلننزل هذه القاعدة الجليلة على هذه المسألة الخطيرة .

وقالوا : وقد علمتم ما صنع باب التكفير بأهله ، ضلوا به عن الطريق المستقيم ، فهذا بقاياهم في السجون ، والعذاب الأليم ، وتدرج بهم الشيطان حتى وقعوا في تكفير أكثر الأمة ، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، فصاروا في أشد الغمة .

قالت الطائفة الأخرى التي تكفر محكمة القوانين : الآن قد حمي الوطيس ، فاسمعوا منا الجواب الباهر ، والدليل القاهر ، وقام خطيبهم فقال : سأكر الساعـة على قولكــم الجائر ، وأبطل رأيكــم الخاسر …

فقال القاضي : على رسلك ، فقد آن الأوان أن أقضي بينكم ، فارجع القهقرى ، واجلس ، واسمعوا لما أقول بآذان صاغية ، وقلوب حاضرة :

الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى
.
****************
عنوان المقال : حكـــايــة المناظـــرة ( 3ـ3) الحلقة الاخيرة

حامد بن عبدالله العلي

*** قال القاضي : إنه لابد قبل الخوض في هذه المسائل الشائكــة ، تقديم قواعد مهمة ، وهي :

*** أولا : الأصل في أهل الشهادتين أنهم مسلمون ، لا يحكم عليهم بالردة إلا بدليل قاطع ، وبرهان ساطع ، غير أنه كما يجب العناية بحفظ هذا الحق ، يجب أيضا بيان الحد الفاصل بين الإيمان والكفر ، فإن في زوال هذا الحد ، أعظم فساد في الأرض على الإطلاق ، وهو كذلك أعظم أسباب الشقاء في الآخرة ، ولهذا قُدم في القرآن الكفر بالطاغوت في غير موضع ، وكلمة التوحيد هي عنوان هذا الأصل العظيم ، ألا ترون أن نفي عبادة غير الله ، قد تقدمت إثبات عبادة الله ، في لا إله إلا الله .

*** ذلك أن صلاح العالم إنما يكون في اتخاذ الله تعالى وحده الرب المعبود ، ومن الإيمان بربويته وألوهيته أن لا يتحاكم إلى سواه ، كما أن فساد العالم واضطراب أحواله ، إنما هو في أن يعبد مع الله غيره ، ومن عبادة غيره أن يشرك في حكمه.

***ثانيا : أن الناس في هذه المسألة طرفان مذمومان ، ووسط على الهدى.

***أما الطرفان المذمومان :

***فأحدهما : الذين غلوا في التكفير بغير حق ، فكفروا أهل الإسلام إلا أنفسهم ، متبعين في ذلك أهواءهم بغير علم .

***والثاني : الذين لا يكفرون أحدا ممن نطق بالشهادتين ولو أتى بمائة ناقض ، فرارا من فتنة التكفير زعموا .

***فالأولون ظالمون معتدون خارجون عن الشريعة ، مستحقون لاعظم الذم ، قد مروقوا من الإسلام كما يرمق السهم من الرمية .

***والآخرون مفسدون في الأرض ، إذ أزالوا الحد الفاصل بين أعظم متناقضين في الوجود ، الإيمان الذي هو الخير كله ، والكفر الذي هو الشر كله ، فهل ثمة إفساد أعظم من إفسادهم ؟! ولهذا السبب عظم تشنيع السلف على المرجئة .

***كما قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله : (فلهذا عظم القول في ذم " الإرجاء " حتى قال إبراهيم النخعي : لفتنتهم - يعني المرجئة - أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة . وقال الزهري : ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضر على أهله من الإرجاء . وقال الأوزاعي : كان يحيى بن أبي كثير وقتادة يقولان : ليس شيء من الأهواء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء . وقال شريك القاضي - وذكر المرجئة فقال - : هم أخبث قوم حسبك بالرافضة خبثا ولكن المرجئة يكذبون على الله . وقال سفيان الثوري : تركت المرجئة الإسلام أرق من ثوب سابري وقال قتادة : إنما حدث الإرجاء بعد فتنة فرقة ابن الأشعث . وسئل ميمون بن مهران عن كلام " المرجئة " فقال : أنا أكبر من ذلك وقال سعيد بن جبير لذر الهمداني : ألا تستحي من رأي أنت أكبر منه وقال أيوب السختياني : أنا أكبر من دين المرجئة إن أول من تكلم في الإرجاء رجل من أهل المدينة من بني هاشم يقال له : الحسن . وقال زاذان : أتينا الحسن بن محمد فقلنا : ما هذا الكتاب الذي وضعت ؟ وكان هو الذي أخرج كتاب المرجئة فقال لي : يا أبا عمر لوددت أني كنت مت قبل أن أخرج هذا الكتاب أو أضع هذا الكتاب فإن الخطأ في اسم الإيمان ليس كالخطأ في اسم محدث ؛ ولا كالخطأ في غيره من الأسماء إذ كانت أحكام الدنيا والآخرة متعلقة باســم الإيمان والإسلام والكفـــــر والنفاق ) 7/349ـ 395

*** وأما الوسط الذين على الهدى : فهم الذين يشهدون لاهل الشهادتين بالإسلام ، ولمن نقضهما بالكفر ، مستدلين بنصوص الكتاب والسنة وبالإجماع ، فهم على هذا الهدي القويم ، والصراط المستقيم .

*** ثالثا : أن ما يزول به الإيمان بالكلية إنما يعرف إذا عرفت حقيقة الإيمان ، وقد اختلفت الفرق في حقيقته ، فاختلفت في نواقضه ، والصواب في هذا الباب:

* أن ما في القلب ، لا يكون إيمانا بتصديق مجرد ، ليس معه عمل القلب ، ومقتضاه من محبة الله ورسوله وخشية الله ورجاء ما عنده ، لا يكون إيمانا إلا مع عمل القلب ، ذلك أن الإيمان ليس مرادفا للتصديق في اللغة، ولا في نصوص الكتاب والسنة ، بل هو التصديق الذي يقتضي الانقياد القلبي والبدني ، وهو ـ أي هذا التصديق ـ مع الشهادتين وعمل القلب واللسان والجوارح ، كل هذه هــي الإيمان الذي أمــر الله به .

*** رابعا : أن العبادات المأمور بها ، كالإيمان الجامع ، وكشعبه مثل الصلاة والوضوء لها ثلاثة أحوال بالنسبة لما فيها من الأفعال :

إما أن يقتصر العبد على الواجب فقط .
وإما أن يأتي بالمستحب .
وإما أن ينقص عن الواجب ، ثم النقص عن الواجب نوعان :
نوع يبطل العبادة كنقص أركان الصلاة
ونوع لا يبطلها كنقص واجبات الحج .

*** والإيمان كذلك إذا نقص العبد عن الواجبات العملية فيه ، فمن النقص ما لا يبطل الإيمان ، سواء الترك كترك الجهاد الواجب ونحو ذلك ، والفعل كفعل الكبائر مثل الزنى والقتل ونحوهما .

ومن النقص ما يبطل الإيمان في التروك كترك الصلاة عند من يقول بكفر تارك الصلاة ، وترك الأركان الثلاثة الأخرى عندما من يقول به من السلف أيضا .

وفي جانب الفعل كذلك ، فمن الأفعال ما يكون من نقص الواجب الذي يبطل الإيمان ، بمنزلة الأفعال التي تبطل الصلاة كالأكل والشرب فيها ، والحركة الكثيرة ونحو ذلك .

ثم الأفعال التي تبطل الإيمان ، لا يشترط في تكفير فاعلها أن يكون مستحلا .

ثم منها ما هو موضع خلاف ، ومنها ما يكون موضع إجماع بين العلماء ، كمن يسجد للصنم موافقة للمشركين طمعا في شهوات الدنيا ، فهذا مجمع على كفره ، كما قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله : ( الوجه الثاني أن يوافقهم في الظاهر مع مخالفته لهم في الباطن ، وهو ليس في سلطانهم ، وإنما حمله على ذلك إما طمع في رئاسة ، أو مال ، أو مشحة بوطن أو عيال أو خوف مما يحدث في المآل ، فإنه في هذه الحالة يكون مرتدا ، ولا ينفعه كراهته لهم في الباطن ، وهو من قال الله فيهم ( ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين ) فأخبر انه لم يحملهم على الكفر ، الجهل أو بغضه ( أي بغض الدين ) ولا محبة الباطل ، وإنما هو أن لهم حظا من حظوظ الدنيا فآثروه على الدين ) مجموعة التوحيد 418

وتأملوا قوله : ( أو خوف مما يحدث في المآل ) يعني أن الإكراه الذي يعذر به من يوافق الكفار على دينهم في الظاهر ، لا يتحقق في هذه الصورة بل يتحقق فيمن يقع عليه الإكراه في الحال .


*** وهذه المسألة التي اختلفتم فيها ، إذا قلنا إن اتخاذ متحاكم إليه غير الله في فصل الخصومات ، ورد التنازع الواقع بين العباد ، بحيث يكون هو المرجع المنصوب للقضاء بين العباد ، هو من اتخاذ الشريك مع الله تعالى ، كالصنم الذي يعبد ، والضريح الذي يطاف حوله ، ويُدعى ، ويُركع له يُسجد ، ونحو ذلك من الأفعال التي هي شرك أكبر وكفر أكبر ، فلا معنى لاشتراط الاستحلال للحكم بالتكفير ، ولايجري هذا على قواعد أهل السنة ، بل هو على رأى المرجئة الضالة .

وإذا قيل بل هو باب آخر غير داخل في الكفر ، فهو من جنس اتباع الشيطان في دعوته إلى الذنوب ، وطاعة الرؤساء في معصية الله ، كإعانتهم على الظلم والمعاصي مع عدم الاستحلال ، فالحكم هنا كالحكم على أهل الكبائر .

وهذا القول الثاني هو الذي يحوم حوله ، الذين يدندنون حول إخراج باب الحكم يما أنزل الله من مباحث العقيدة ، زاعمين : أن المراد بالحكم في النصوص الواردة في هذا الشأن ، جنس العمل ، ويقولون : كل عامل بما يخالف الشرع ، هو حاكم بغير ما أنزل الله .

وقال هؤلاء لمن يكفّر محكمة القوانين : إن كفّرتم الحاكمين بغير ما أنزل الله وإن لم يستحلّوا ، فكفّروا أهل الكبائر أيضا ، فذلك لازم لكم لا محالة ، وأخذوا يلمزون المكفّرين للحاكمين بغير ما أنزل الله تعالى بأنهم خوارج .

ولاريب أن من أعظم أسباب تهوين ترك الحكم بما أنزل الله عند الحكام بغير ما أنزل الله ، تحريف النصوص على هذا النحو من أهل الزيغ من الذين يتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة ، وقد فُتنوا لما اقتربوا من أبواب الطواغيت ، وصاروا أيضا فتنة لأولئك الطواغيت ، يهوّنون لهــم ما هم فيه من الكفر ، ويزيّنون لهم ما يفعلونه من الباطل ، وزيّن لهم الشيطان أعمالهم ، حتى غدو عيونا للطواغيت على العلماء والدعاة إلى الحكم بما أنزل الله ، يعينونهم على هدم الإسلام ، ابتغاء متاع الحياة الدنيا ، وما متاع الدنيا إلا قليل .

*** قال القاضي بعد هذه الخطبة الطويلة :

وإذ قد وضحت الآن هذه المقدمات ، فأقول وبالله التوفيق :

الحكم على تارك الحكم بالشريعة لا يتبين إلا بتفصيل صور وقوع الحكم بغير الشريعة من الحكام ، فهم أنواع :

أحدهم : من يحكم بغير ما أنزل الله مستحلا ـ تصريحا أو تلميحا ـ وهؤلاء هم العلمانيون ، المذهب المعروف .

الثاني : من يتولى الحكم على الناس ، وهم يتحاكمون إلى الشريعة قبله ، فيزيحها عنهم ، ويمنع قضاة الشرع من الحكم به ، ويفرض القوانين الوضعية ، ، ويؤسس المؤسسات التي تطورها وتزيدها قوة ، ولا يلتفت إلى سواها البتة في القضاء والحكم ، ولا يكون في ذلك كله مكرها ، بل مستحب للشهوات التي تفوت عليه إن حكم بالشريعة ، غير أنه لا يصرح بالاستحلال ، بل يزعم أنه في ذلك كله غير مستحل ، أو يضرب عن القول صفحا ، ويمضي في شأنه المذكور.

الثالث : أن يكون في قوم يتوارثون الحكم ، فيتولى فيجد من قبله قد مهّد للقوانين ، كما فعل صاحب الصورة السابقة ، فيخشى ما كان يخشاه من قبله من فوات شهوات تفوت إن التزم الحكم بالشريعة ، فيُبقى الأمر على ما كان ، إيثارا للحياة الدنيا وركونا إليها .

الرابع : كالثالث غير انه لا يمنعه من تحكيم الشريعة مانع إيثار الدنيا ، بل الخوف من الأعداء الظاهرين ، وذلك يكون في ظل هيمنة الكفار بالقوة في الأرض ، وتخويفهم المسلمين أن يحكموا بالشريعة ، فيرى البقاء في ولايته ريثما تتغير الأحوال ، ويمكنه أن يحكم بالشرع .

الخامس : كالثالث غير أنه يتأول البقاء على الحكم مع أنه قائم على الحكم بغير ما أنزل الله ، ليزيل التحاكم إلى غير الشريعة بقدر استطاعته لأن المعوقات كثيرة ، والتغيير يحتاج إلى زمن غير يسير ، وهو مع ذلك يعمل باتجاه التحاكم إلى الشريعة أمورا بالتدريج ، ويصدق قوله بما يقدر عليه من عمل ، ويصلح ما استطاع إلى ذلك سبيلا .

فالأول كافـــــر ولا كرامة .

والثاني أخوه ، فأفعاله أبلغ دلالةً على الكفر من الأقـوال .

والثالث ألحق الحسّ بالأسّ .

والرابع عليه أن ينزع قميصا يرتديه زورا ، فإن لم يقدر وكان من أهل الصلاة قائما بأمر الدين فيما يقدر عليه ، فقد يكون معذورا .

والخامس إن شاء الله لا يكون موزورا .

قال القاضي :

واعلموا أن أكثر من تحكم بلادهم القوانين اليوم ، مندرجون تحت الأنواع الثلاثة الأولى ، وأما الرابع والخامس فأقل من تبنة في لبنة .

وإن من أعظم الناس جرما بعد الحاكمين بغير ما أنزل الله ، من يزيّن أو يهوّن لهم هذا الشرك المبين ، من كل مفـتٍ للدينار والدرهم لحّـاس ، أو عالم سوء في الفتنة ركّـاس ، زاعمين أن ترك تحكيم الشريعة ما هو إلا معصية ليست بكفـر مطلقا ، ليبقى هذا البلاء في الناس .

وأشر منهم منزلة من يفتي الطواغيت بان الحكم بالشريعة ليس بلازم في الشريعة ، كما فعل علي عبد الرازق ، ومن تبعه من كل شيطان وسواس خنّاس.

*** خاتمــــــــة :

وانصرف الجميع من مجلس النظر ، وقد اجتمعت كلمتهم على ما ذكـر .

فهذه قصة المناظرة .. فتأمل هُديت .. وأحذر المكابـــرة .

والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا


الكاتب: حامد بن عبدالله العلي
التاريخ: 06/12/2006