من أسرار الذّكـر
حامد بن عبدالله العلي
إذا كانت عبادة الله وحده لاشريك له ، هي سرُّ الوجود الأعظـم ، فإنّ ذكر الله تعالى هو سرُّ اسرارها ، وهيولى بنيانهـا ، وجوهـر كيانها ، بل هو روحُها ، فهي بدونه كالجسد الميت ، والجثـّة الهامدة .
وإذا جعلنا العبادة بمنزلة نواة الخلية الإنسانية التي منها يتركَّب وجوده المادّي ، فإنَّ ذكرالله تعالى هو بمنزلة الحمض النووي الذي يحمل الجينوم داخل تلك الخلية ، فلا معنى لها ، بل لاوجود لها ، بدونه .
ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح : ( مثل الذي يذكر الله والذي لايذكره كمثل الحيّ ، والميت ) .
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله : (الذكر منشور الولاية الذي من أعطيه اتصل ، ومن منعه عزل ، وهو قوت قلوب القوم الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبورا ، وعمارة ديارهم التى إذا تعطلت عنه صارت بورا ، وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق ، وماؤهم الذي يطفئون به التهاب الطريق ، ودواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست منهم القلوب، والسبب الواصل والعلاقة التي كانت بينهم وبين علام الغيوب.
إذا مرضنا تداوينا بذكركمُ ** ونترك الذكر أحيانا فننتكس
به يستدفعون الآفات ، ويستكشفون الكربات ، وتهون عليهم به المصيبات ، إذا أظلمهم البلاء فإليه ملجؤهم ، وإذا نزلت بهم النوازل فإليه مفزعهم ، فهو رياض جنتهم التي فيها يتقلبون ، وورءوس أموال سعادتهم التي بها يتّجرون ، يدع القلب الحزين ضاحكاً مسروراً ، ويوصل الذاكر إلى المذكور ، بل يدع الذاكر مذكورا) أ.هـ.
والذكر هو أفضل الأعمال على الإطلاق ، وهو من حيث هو ، أفضل حتَّى من الجهاد في سبيل الله ، ولهذا ورد في الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما : (ألا أدلكم على خير أعمالكم ، وأزكاها عند مليككم ، وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من إنفاق الذهب ، والفضة ، وخير لكم من أن تلقوْا عدوّكم ، فتضربوا أعناقهم ، ويضربوا أعناقكم ، قالوا: بلى يا رسول الله ، قال: ذكر الله تعالى ) .
ولكـن صار المجاهد أفضل ، وثوابه أعظـم ، لأنّ الذاكر لايطيق أن يبقى بغير انقطاع ، بينما يجري للمجاهد ثوابه بغير إنقطاع ، ولهذا لما سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن عمل يعدل الجهاد قال للسائل : ( هل تستطيع أن تصوم فلا تفطر ، وتقوم فلا تفتر ) قال الصحابي : لا ، فقال له : فلا عمل يعدله .
ولأنَّ المجاهد ـ بخلاف الذاكـر ـ يمكنه أن يجمع بين الجهاد ، وذكر الله تعالى ، ولهذا أُمـر المجاهدون بذكر الله تعالى حتى في أثناء القتال ، قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا وأذكرو الله كثيرا لعلكم تفلحون ).
ولو لم يكن في ذكر الله تعالى من الفضل إلاّ قوله تعالى: ( فأذكروني أذكركم ) وما صح في الحديث القدسي ( من ذكرني في نفسه ، ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ، ذكرته في ملأ خير منهم ) ، لكفاه فضلا ، وشرفا ، فأيُّ شيء هو هذا الإنسان ، حتى يذكره الله تعالى جل في علاه ، في نفسه ، ويذكره في الملأ الأعلى ؟!
هذا ومن تأمَّل النصوص الواردة في فضل الذكر ، يتبين له بجلاء ، أنّه لم يرد في فضل شيء من الأعمال ما ورد في فضله ، وسبب ذلك أنّ كلّ الأعمال إنما هي رحى تدور على قطب الذكر ، فمقصودها كلها هو أن يذكر العبد ربه بها ، إما بقلبه ، أو بقلبه ولسانه.
ومن تأمل قول العلماء : الذكر ثلاثة أنواع ذكر الأسماء والصفات ، ومعانيها ، والثناء على الله بها ، وتوحيد الله بها ، وذكر الأمر ، والنهي ، والحلال ، والحرام ، وذكر الآلاء والنعماء ، والإحسان ، تبيـّن له أنَّ الذكر صبغة العمل الصالح كلَّه.
ولهذا اختصر النبيُّ صلى الله عليه وسلم فضله في كلمة واحدة عظيمة ، هي قولـــه ( سبق المفرّدون ) رواه مسلم.
قال الإمام المناوي رحمه الله في فيض القدير :سبق المفردون ، أي المنفردون ، المعتزلون عن الناس ، من فَرَد إذا اعتزل ، وتخلى للعبادة، فكأنه أفرد نفسه بالتبتل إلى الله، أي سبقوا بنيل الزلفى ، والعروج إلى الدرجات العلى ، روي بتشديد الراء وتخفيفها ، وقال الإمام النووي في الأذكار: والمشهور الذي قاله الجمهور التشديد.
ومعلوم أنه لاشيء أحبّ إلى الذاكرين من الخلوة مع الله ، عن الخلق ، حتى إنه لتستوحش قلوبهم ممن يقطع عليهم ماهم فيه من نعيم الذكر.
وسبب النعيم ، والإنشراح ، واللذّة ، والحلاوة ، التي يشعر بها المنقطع لذكر الله تعالى ، أن يتصل بالله تعالى مباشرة ، حتى إنَّ الله تعالى يذكر الذاكـر في نفسه العليـّة ، فتكون روحه راقية إلى ذلك المقام العالي ، والجنـّة إنما هي هناك ، أعلاها تحت العرش ، في جوار الله تعالـى ، كما قال تعالـى : ( في مقعد صدق عند مليك مقتدر ) ، فصيب الذاكر من نعيم الجنة ، وريحها ، بحسب خشوعه ، وحضور قلبه ، وقربه روحه من ربه.
ولهذا صار بين الذكر ، وما في الجنة ارتباط عجيب ، وفي الترمذي مرفوعا : ( رأيت إبراهيم ليلة أسرى بى , فقال : يا محمد أقرىء أمتك السلام , و أخبرهم أنَّ الجنة طيبة التربة , عذبة الماء , و أنها قيعان , و غراسها : سبحان الله , و الحمد لله، و لا إله إلا الله , و الله أكبر , ولا حول و لا قوة إلا بالله ) وفيها أيضا : ( من قال سبحان الله ، وبحمده ، غرست له نخلة في الجنة ).
وقد قال الحسن البصري رحمه الله : تفقَّدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء : في الصلاة ، وفي الذكر ، وقراءة القرآن ، فإن وجدتم ، وإلاّ فاعلموا أن الباب مغلق.
وقد علم كلُّ من يطلب العلم بإخلاص ، أنه يضعف إخلاصه ، ويذهب عنه نور العلم ، ويقسو قلبه ، إذا ترك أوراد الذكر ، وإنما سميت أورادا ، لأن القلب يرد إليها ، فيرتوي من الظمأ، فإن تركها ذبلت روحه ، وضعفت قوته ، وتسلط عليه الشيطان.
ومن أسرار الذكر أن الذاكرين الله تعالى كثيرا ، يرفع الله ذكرهم في الناس، وذلك أن الإنسان يحبُّ بطبعه أن يُذكر بين الناس ، فإن ترك ذلك ، وآثر عليه أن يخلو لذكر الله تعالى ، واشتغل بذكر الله تعالى ، عن ذكر نفسه ، آتاه الله تعالى أن يرفع ذكره بين الناس ، حتى إنَّ الذاكـر يموت ، ويبقى ذكره خالداً ، وهذا هو سر تخليد الله تعالى كلّ من انقطع لذكر الله ، أوجاهد لإعلاء ذكر الله تعالى على كل ما سواه ، تخليدهم في القرآن ، حتى خلَّـد الله تعالى ذكر الكلـب الذي صاحب أهل الكهف ، لمجرد أنه صاحب من انقطعوا لذكر الله تعالى ، وتركوا من أجل ذلك كلّ الخلق .
كما خلَّد الله تعالى الأنبياء في الآخرِين ، كما قال تعالى في الصافات : ( وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم ) و( تركنا عليهما في الآخرين سلام على موسى وهارون ) و( وتركنا عليه في الآخرين سلام على إل ياسين ) ونظائرها في القرآن.
وخلد الله ذكر العلماء العاملين ، والأبرار الصالحين ، ورفع ذكرهم بين الناس أجمعين.
هذا ،ومن فضائل الذكر ، وأسراره ، ما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى ، قال : إن الذكر في القرآن على عشرة أوجه :
الأول : الأمر به مطلقا ، ومقيدا ، الثاني : النهي عن ضده من الغفلة ، والنسيان ، الثالث : تعليق الفلاح باستدامته ، وكثرته ، الرابع : الثناء على أهله ، والإخبار بما أعد الله لهم من الجنة ، والمغفرة ، الخامس : الإخبار عن خسران من لها عنه بغيره ، السادس : أنه سبحانه جعل ذكره لهم ، جزاءً لذكرهم له ، السابع : الإخبار أنه أكبر من كلِّ شيء ، الثامن : أنه جعله خاتمة الأعمال الصالحة كما كان مفتاحها ، التاسع : الإخبار عن أهله بأنهم هم أهل الانتفاع بآياته ، وأنهم أولو الألباب دون غيرهم ، العاشر : أنه جعله قرين جميع الأعمال الصالحة ، وروحها ، فمتّى عدمته كانت كالجسد بلا روح.
وقد ذكر ابن القيم في الوابل الصيب ، أسرار الذكر فأوصلها إلى مائة ، وهاهي أهمها مختصرة :
أنـّه يطرد الشيطان ، ويقمعه ، ويكسره.
قلت : نقل عن بعض السلف : إذا تمكن الذكر من القلب ، فإن دنا منه الشيطان صرعه ، كما يصرع الإنسان إذا دنا منه الشيطان ، فيجتمع عليه الشياطين ، فيقولون : ما لهذا فيقال : قد مسه الإنسي.
وأنـّه يرضي الرحمن عـزّ ، وجل.
وأنـّه يزيل الهم ، والغم عن القلب.
وأنّـه يجلب للقلب الفرح ، والسرور ، والبسط.
وأنـّه يقوي القلب ، والبدن.
وأنـّه ينور الوجه ، والقلب.
وأنـّه يجلب الرزق.
وأنه يكسو الذاكر المهابة ، والحلاوة ، والنضرة.
وأنـّه يورثه المحبة التي هي روح الإسلام.
وأنـّه يورثه المراقبة حتى يدخله في باب الإحسان.
أنـّه يورثه الإنابة، وهي الرجوع إلى الله عز وجل
وأنـّه يورثه القرب منه.
وأنـّه يفتح له بابا عظيما من أبواب المعرفة.
وأنـّه يورثه الهيبة لربه عز وجل ، وإجلاله.
وأنـّه قوت القلب ، والروح.
وأنـّه يورث جلاء القلب من صدئه.
وأنـّه يحطُّ الخطايا ويذهبها، فإنه من أعظم الحسنات، والحسنات يذهبن السيئات.
وأنـّه يزيل الوحشة بين العبد ، وبين ربه تبارك وتعالى.
وأنّ ما يذكر به العبد ربه عز وجل من جلاله ، وتسبيحه ، وتحميده، يذكّر بصاحبه عند الشدة.
وأنّه سبب نزول السكينة، وغشيان الرحمة، وحفوف الملائكة بالذاكر.
وأنّ الاشتغال به سبب لعطاء الله للذاكر ، أفضل ما يعطي السائلين.
وأنّه أيسر العبادات، وهو من أجلها وأفضلها.
وأنّه ليس في الأعمال شيء يعم الأوقات والأحوال مثله.
وأنّ الذكر نور للذاكر في الدنيا، ونور له في قبره، ونور له في معاده، يسعى بين يديه على الصراط.
وأنّ الذكر رأس الأمور، فمن فتح له فيه فقد فتح له باب الدخول على الله عز وجل.
وأنّ في القلب خلة وفاقة لا يسدها شيء البتة ، إلا ذكر الله عز وجل.
وأنّ الذكر يجمع المتفرّق، ويفرّق المجتمع، ويقرّب البعيد، ويبعّد القريب. فيجمع ما تفرق على العبد من قلبه وإرادته، وهمومه وعزومه، ويفرق ما اجتمع عليه من الهموم، والغموم، والأحزان، والحسرات على فوت حظوظه ، ومطالبه، ويفرق أيضاً ما اجتمع عليه من ذنوبه ، وخطاياه ، وأوزاره، ويفرق أيضا ما اجتمع على حربه من جند الشيطان، وأما تقريبه البعيد فإنه يقرب إليه الآخرة، ويبعد القريب إليه وهي الدنيا.
وأنّ الذاكر قريب من مذكوره، ومذكوره معه، وهذه المعية معية خاصة غير معية العلم والإحاطة العامة، فهي معية بالقرب والولاية والمحبة والنصرة والتوفيق.
وأنّ الذكر يعدل عتق الرقاب، ونفقة الأموال، والضرب بالسيف في سبيل الله عز وجل.
وأنّ الذكر رأس الشكر، فما شكر الله تعالى من لم يذكره.
وأنّ أكرم الخلق على الله تعالى من المتقين من لا يزال لسانه رطبا بذكره.
وأنّ الذكر أصل موالاة الله عز وجل ورأسها والغفلة أصل معاداته ورأسها.
وأنّـه جلاب للنعم ، دافع للنقم بإذن الله.
وأنّـه يوجب صلاة الله عز وجل ، وملائكته على الذاكر.
وأنّ من شاء أن يسكن رياض الجنة في الدنيا، فليستوطن مجالس الذكر، فإنها رياض الجنة.
وأنّ إدامة الذكر تنوب عن التطوعات، وتقوم مقامها، سواء كانت بدنية أو مالية، أو بدنية مالية.
وأنّ ذكر الله عز وجل من أكبر العون على طاعته، فإنه يحببها إلى العبد، ويسهلها عليه، ويلذذها له، ويجعلها قرة عينه فيها.
وأنّ ذكر الله عز وجل يذهب عن القلب مخاوفه كلّها ، ويؤمّنه.
وأنّ الذكر يعطي الذاكر قوة، حتى إنّه ليفعل مع الذكر ما لم يطيق فعله بدونه.
وأنّ الذكر سدُّ بين العبد ، وبين جهنم.
وأنّ الجبال والقفار تتباهي ، وتستبشر بمن يذكر الله عز وجل عليها.
وأنّ كثرة ذكر الله عز وجل أمان من النفاق.
وأنّ للذكر لذة عظيمه من بين الأعمال الصالحة لا تشبهها لذة.
وأنّ في دوام الذكر في الطريق، والبيت، والبقاع، تكثيرًا لشهود العبد يوم القيامة، فإن الأرض تشهد للذاكر يوم القيامة .
ونسأل الله تعالى أن يعيننا على ذكره ، وشكره ، وحسن عبادته ، وأن يمن علينا بان يجعل ذكره سبحانه ، أحب إلينا من كل شيء سواه آمين. الكاتب: حامد بن عبدالله العلي التاريخ: 05/09/2009 عدد القراء: 21224
أضف تعليقك على الموضوع
|