السلعمانيـّة !!
حامد بن عبدالله العلي
من أعجب الحالات الفريدة في التاريخ ، ( التوليفة ) المثيرة للدهشـة بين (العلمانية) و(السلفية) ، في نظام سياسي مع بساطة تركيبته السياسية ، إستطاع أن يوظـّّف ، أو يحيـَّد ، فالنتيجة واحدة ـ بقدرة قادر ـ صورة سلفيّة صارمة من ( التديَّن الفردي والإجتماعي ) ـ أي الذي لايخرج عن دائرة الإهتمامات الفردية والإجتماعية ـ لأهـداف النظام الغربي الدولي الذي تبلـور مع أوائل ومنتصف القرن الماضي !
كيف مـرَّت هذه الخديعة على علماء ذوي جلالة في العلـم ، والتقوى ، ثـم كيف بقي هذه التكوين الهجين الجامع بيـن (الصرامة الإجتماعيـة السلفيّة) ، و(الممارسة السياسية العلمانية ) ، ليولـّد منهما : ( السلعمانية ) ، ويمـرّ بسلاسة عجيبة ، عبر عقـود ! حتى الغرب كان فيهـا راضيا ـ في تعجّـب ـ عنها ؟!
ثم كيف أستطـاع أثناء زمـن مروره ، أن يوسِّع دائرة الفكرة العلمانية في النظام السياسي ، ونظام الدولة ، ويبني مؤسساته على هذه الفكـرة ، ثـم يرسلها لتتمـدَّد بحرية وراحـة في تلك البيئة الصارمة ؟! كما تمـدَّد النيتـو إلى حدود روسيا ! قاضـمةً في تمددّها شيئا فشيئا الحالة الإسلامية ، والتي كان محدوداً أصلا ، ثـم يحاصرها ، فيعزلها ، ويسلـب منها بقية وسائل التأثيـر التي كانت ضعيفة أصـلا ً ، وهــي طيلة هذا الزمـن تـرى وكأنها لاتبصر ، وتسمع وكأنها لاتعــي ؟!
وقـد وصل ( القضم ) الآن إلـى سلـخ حتـّى ( التديـّن الإجتماعي ) ، حتـى ضاقت بـ ( الشيوخ الغيارى ) هذه الأيام الأرض بما رحبت ، فرضوا بمقالات متناثرة يتململون بها من حالهـم ، واستنكارات متفرّقة ، على قضايا ثانوية ، وما هي إلاَّ نفثات صدور تمارس خداع النفس بأنها قـد حقّقت شيئا ، فلا هي تُسمـن ، ولا تُغنـي من جـوع !
وإنّـه ـ حقـاً ـ لأمـرٌ يبعث على الحيرة ، و الإندهاش ، أعنـي كيف أنَّـه قـد صار المشروع الحضاري لأمّتنـا ـ في فهـم البعـض ـ أنَّ الدنيا تقوم ، ثـمّ لاتقعـد ، على قيادة المرأة للسيارة ، بينما الأمّة بأسرهـا تقـودها وزيرة خارجية أمريكا ـ منذ مادلين أولبرت ، إلى هيلاري كلنتون ! ـ تقودهـا لتقويض حضارتنـا برمّتها ، فيمـرُّ ذلك على ( الشيوخ الغيارى ) بصمت كصُمات ليل الصحراء الهادىء !
وتُضـرم نـارُ الحـرب على الإختلاط في التعليم ، بينما الخلط بين مفاهيم الأمـّة العظمى ، أعني إستقلالها ، وقيامـها بأهداف حضارتها ، وبدورها العالمي الهادف لإستعلاء الإسلام ، الخلط بين هذه المفاهـيم ، والأصـول العظيمة ، التي تقوم عليها حضارتنا ، وبين مفاهيم الجاهلية الغربية ، بإستحقارها لنـا ، وغزوها الثقافي ، والأخلاقي ، لأمّتنا ، وأطماعه المادية المفعمة بالروح الصهيوصليبية ،
تضرم نار الحرب على الإختلاط في التعليم ، بينما ذلك الخـلط لم يزل قائـماً على قدم وساق ، في نظام ( ولي الأمر ) على شتّى المستويات منذ عقـود ، وهـو يمـرُّ بجانـب وقار هيبة الشيوخ كأنّ شيئا لم يكـن !
وتـدقُّ نواقيس الخطر على القول بجـواز كشف المرأة لوجهها ، بينما الأمّة مكشوفة العورات كلّها أمام المستعمر الجديـد ، و النظام الغربي ، يعبث فيها كما يشاء ، يقيم قواعده العسكرية ، ومؤسساته التغريبية ، وتدخلاته الداخليّة ، حتى في مناهجنا الثقافيـة ، فلايثير هذا غيـرة الرجال ، ولا يحـرك فحولتهم ؟!
ولاريب .. لا ننكــر هنا التصدي لكلّ مفردات مشروع إفسـاد المرأة ، بل ندعو إليـه ، ونحـضُّ عليـه ، ونعـلم أهدافه الخبيثة ، فليس هذا هـو المقصود بما تقدم من علامات التعجب ، معاذ الله ، وإنـِّما هو التعجُّب من هذا الـدم الذي يفور هنا ، مالَـهُ ـ قاتله الله ـ يصيـر في حالة تجمّـد القطب الشمالي في تلك الأصول العظام ، والمباني الضخـام ، التي يقوم عليها الإسـلام ؟!
تـُرى هـل كان العيب في الفهم للإسلام ، أم كان الجهـل في ذلك الوقت بحقيقة النظام الدولي الغربي ، وأهدافه الخطيرة ، وموقع منطقة الخليج منـه ، ودورها المرسوم فيه ، الذي هـو تسخير طاقاتها لتحجيم دور الإسلام الحضاري ، ومنعه من العودة كما كان إبّان ( الخلافة العثمانية ) قبل سقوطهـا ، وتوظيف النظام الدولي الغربي لفكـرة (الدولة القطرية ) كبديل للنظام الإسلامي العالمي ، تلك الفكرة التي مزَّقت الأمّـة ، وأذلّتهـا لذلك النظام .
أم كانت غفلة الصالحين الذين فرحوا بما أوتوا من المؤسسات الدينيّة المحصورة التأثيـر ، فظنُّوهـا (الفتـح الأعظـم) ، الذي تحقـّق على يد (وليّ الأمر ) ( إمام المسلمين ) ! ، بينما لم يكن الأمـر سوى توظيف للدين في بيئة (تشاكله) ، لإشغالهم ـ إلى حيـن ـ عن مخطط عالمي يُبني على حطام حضارتهم ، ويستقي وقوده من ثرواتها ، ويحقق أحلامه العالمية على حساب مستقبلها ، وآمالها ،
أم كانوا يعلمون غير أنهم كانوا في حال العذر بالعجز ، لا الجهـل .
وهـل هـم أفاقوا الآن ؟! أم لازال كثيـرٌ منهم في سباتهم ، أم أنهم يخشون الإفاقـة ، هروبـا من صدمة الحقيقة ؟!
ذلك أنـّه من المحـال أن يطـلع أيُّ باحـث على رسالة الإسلام ، دون أن يـرى حقيقة ناصعة ، ساطعة كالشمس في رابعـة النهـار ، وهـي أنَّ حضارتـه تقوم على ثلاثة أركان عظام :
1ـ أنـّه جاء بحضارة تجعل التحرُّر من جميع أشكال التبعيّة للغيـر مكوّنها الحضاري الأعظـم ، وذلك يشمل كلّ أنواع التبعية ، السياسية ، والإقتصادية ،والثقافية ، والتشريعية ، حتى جعلت رسالة الإسلام تلك (التبعية) بالمعنـى العصري ، ( الموالاة للكافرين ) بالمعنـى الشرعي ، مروقـاً من الإيمان ( ومن يتولهّم منكم فإنّه منهم ) .
وحتّى التوحيـد ، عنوان الإسلام ، إنمّـا هو تحرير الإنسان من التبعيـّة لغير الله تعالى ، فلايُعبـد غيره ، ولا يُتحاكم لسواه ، ولا يخُضـع لغير شريعـته .
ولعمـري لا أستطيع أن أفهم حتى اليوم ، حـلّ التناقض بين أنَّ الفكر القومي ، وهو أبعد ما يكـون عـن نصوص الوحـي ، يقوم علـى هذه الفكـرة الإسلامية أصلا ، ( التحرُّر من التبعيّة للغيـر ) ، لكن بمنطلـق (عروبي ) حتى وقف في كثيـرٍ من الأحيان دون إسلام الأمـّة ( العربية ) للعـدوّ الغربي ، بتضحيـات لاتُنكـر ،
بينمـا ترفض هذه الفكـرة عملـيّا ( السلعمانية ) المتخصّصة في علوم الشريعـة ! حتى لقـد نظـّرت لتلك (التبعيـّة) بفتاوى أثارت سخرية الساخرين ، إذ خرّجتها تحت حكم المعاهدين والمستأمنين و أهل الذمـّة ! في أحكام الشريعـة ، والمفارقة أن هذه الأبواب الثلاثة ، أصلا تابعة لباب الجهـاد الذي يحاربونه ؟!!
2ـ أنَّ الإسلام لايعتـرف أصـلاً بنظام سياسيّ يقوم على (الرابطة الترابية للدولة القطرية بالفكـرة الأوربية ) ، فهـو يربط النظام السياسي بالعقيدة رأسـاً ، فالعقيدة وحدها هي الأساس الذي يقوم عليه ، وتقسيـمه هـو : ( دار الإسلام ) ، ( دار الكفـر ) ، ولهذا فالرابطة الإسلاميـة ، هـي وحدهـا (جنسيّة دولته) ، ولهذا يجعل المفارق لهـا حينئـذٍ ( خلع ربقة الإسلام من عنقـه ) و (مات ميتةً جاهلية) كما ورد في الحديث.
ولا وزن فيه لأيّ نظام لايخضع لإستقلال الإرادة التشريعية للأمـّة ـ السيادة للشريعة وحدها ـ ( والله يحكم لامعقّب لحكمه ) ( ولايشرك في حُكمه أحـداً ) ، في كلِّ شؤون الحياة ، وعلى رأسها الشأن السياسي ، الذي يدخل تحتـه الخطوط الرئيسة لرسالة الإسلام : إستقلال الأمّـة ، وتنفيذ رسالتها العالمية ، و الموالاة بين أبناءها في كلّ العالـم ، ونصرة المسلمين في الأرض ، والجهاد لتحقيق تفوقه الحضاري العالمي .
وهذا المكوِّن الثانـي جـاء ليحفظ الأمَّـة من توظيفها لأطماع أيّ نظام دولي ، يبدأ بتمزيقها إلى روابط أخرى ، ترابية ، وعنصرية ,,,إلخ ، ليضعفها ، ويذهب ريحها ، ويفشـل دورها الحضاري العالمي .
3 ـ أنَّ الأمّـة هي الأصـل الأصـيل في هذه الحضارة ، والنظام السياسي ليس سوى أداة يجـب أن تكون طيـّعة بيدهـا ، ولهذا جاءت النصوص تخاطبها مباشرة ،( كنتم خير أمّة أخرجت للناس ) ، ( وكذلك جعلناكم أمّة وسطا ) ( ولتكن منكم أمّـة يدعون إلى الخيـر ) ونظائرهـا كثيرٌ في نصوص الوحيين ،
وليس في القرآن آية تتعلق بهذا الشـأن إلاّ وهـي توجـّه الخطاب للأمّـة ، وأنـَّها بُعثـت لتؤدّي دور القيادة العالميّة ، ولاعذر لها أن تتخلَّى عن هذه الفريضة العظمى ، وعليها أن تختار نظاما سياسيا ليؤدّي هذا الدور ، فإنْ فشـل ـ وأعظـم الفشل أن يسخّـر الأمـّة لغيرها بل هي الخيانة العظمـى ـ فالأمـّة مكلّفة بإزاحتـه ، وهذه الفريضة من أعظم الفرائض ، وأوجب الواجـبات .
والنظامُ السياسيُّ الذي يحيـط بالأمـّة اليوم ، إنمـا يتحـرّك ضد أهدافها ، ويسخـّر حتـّى دينهـا لغيرهـا ، وبقاؤهُ يعنـي بقاءها في دوامة التبعيـّة ، ولا خلاص لها إلاّ بأن تعيد بناء نظامٍ سياسيّ ، لاينفصم فيه الدين عن الدولة ، ولا الشريعة عن الحكــم ، وليس فيــه ( جلالة ) ولا ( عظمة ) ولا ( فخامة ) إلاّ للأمّـة المستعلية بحضارتها ، نظام سياسيّ ليس فيه سلطة لا تخضـع لرقابة الأمـّة ومحاسبتها ، وليس فيه زعيم فوق إرادتـها ، وليس فيه حاكم لاينزل عليه حكم الشريعة ، كما ينزل على آحاد رعيته سواء بسواء.
ولو كنـا قـد وضعنا هذا الأصول الإسلامية العظيمة ، كما وضعها القرآن ، في سلـّم أولوياتنا ، لم يصـل حالنا إلى أن نستجـدي حاكـما مارقـاً مفسـداً ليسمح بالنقاب ، أو ليمنع الإختـلاط ..إلخ!!
وبناء على هـذا ، فلا مناص من القول أنَّ كثيرا من التديـّن المنتشر في الوسط الصحوي ، من شيوخ العلوم الشرعية إلى آحاد أفراده المقبلين على الهدى ، يحتاج إلى إنطـلاق في آفـاق جديدة ، تخرجه من دائرة ردود الفعـل المكرورة الذي يدور فيها ، ويعيدها كلّ ما مضـى عقد ، أو عقدان ، ثم يخرج منها تائهـاً ، منكـسر الجنـاح ، مثـل قضية الحجاب ، والنقاب ، والإختلاط ، والجدل حول فروع فقهية ، ربـما تختارها الأنظمة السياسية ، وتشغلهـم بهـا ، لتُبقِي المشروع الإسلامي يحمل هذه العناوين فحسـب ، لتظهـره ـ وهي تملك وسائل الإعلام ـ في صورة المتخلف الذي ( لايفهـم من الإسلام إلاَّ التضييق على المرأة ) ..إلخ
آفـاق جديـدة ترفعه إلى مستوى أعلى موقع من المنافسة ، يمكّنـهُ من إجهاض هذه الهجومـات المكرورة التابعة للمؤامـرة الكبرى ، و أشباهـها ، إجهاضها في مهدها ، وفرض نهجه الإسلامي من ذلك الموقع.
ثم يرفعه إلى ما هـو أعلى ليكون هو الدولة التي تعـيد للأمّة دورها كما بينته في هذا المقـال ، فيحسم القضايا الثانوية ، ويتفـرغ لأداء دوره الحضـاري : إقامة العدل في العالم ، وحماية البشرية من طواغيـت الكفر ، و الإستبداد ، والظلم ، والفسـاد .
وواللـّه إنَّ العجب لاينقضي من فهم مثل حركة طالبان ـ وأكثـر أتباعها مقاتلون عاديون بعيدون عن هذا الكـم الهائل من الإنشغال بالتثقيف الشرعي الذي ينتشر في بلادنا ـ فهمهم لخطورة ترك المشروع العالمي الغربي يعيث في الأرض فسـاداً ، وضرورة وضع المقاومة الشاملة لمخططة على سلّم الأولويـات الإسـلامية ،
وأنَّ فرضية السـعي لإعادة إستقلال إرادة الأمة الإسلامية ، وتوحيدها ، وإلتفافها حول راية الجهاد ، لتتحرر من التبعيـَّة ، من أعظـم الفرائض الإسـلامية ،
بينما يجادل في هذه الحقائق الإيمانية الكبرى ( دكاترة ) شريعة ، ودعاة مشهورون ، حتى إني حاورت أحدهم فأصـرَّ على أنَّ النظام العربـي ( قال : ولاة أمرنا حفظهم الله ) يؤدّون عن الأمة كلَّ ما ذكرته ـ وقد ذكرت له مختصر ما في هذا المقال ـ فلا حاجة للإنشغال بذلك ، وحتى العلاقات مع المشروع الغربي هـم يرون في ذلك المصلحـة ، و( لكن المشكلة في هذا الحماس الذي ضيَّع الشباب ) !!
نسأل الله السـلامة ، هذا أحـد نماذج مذهب ( السلعمانية ) التي بُذرت بذورها قبل عقـود ، لكي تقطف الأمّـة اليوم ثمارها المـرَّة !
والله المستعان وعليه توكلنا هو حسبنا فنعم المولى ونعـم النصيــر الكاتب: حامد بن عبدالله العلي التاريخ: 24/10/2009 عدد القراء: 26575
أضف تعليقك على الموضوع
|